خليل قويعة: نجيب عبد المولى وهواجس التأسيس المستمرّ
بقلم خليل قويعة - كان بالأمس القريب بيننا يتحدّث، يحلّل، يواجه، ينتقد، يقترح، يحاضر ويصدر مواقف حول الشّأن العام ومكانة المثقف الفاعلة في المجتمع... اليوم، بعد أن وافاه الأجل المحتوم، أصبح الرّجل قيمة تغذّي الفكر وتنشّط نبضه المتوثّب ومثالا يُحتذى به في مجال الموطَنة الفاعلة وشاهدا على منزلة الفكر النيّر في المشاركة المدنيّة الخلاّقة... ذلك هو الأستــــاذ محمّد نجيـــــب عبــــد المولى (1955 - 2020) الذي رحل عنّا يوم 13 أوت 2020 بعد صراع مع المرض.
راوحت حياة الفقيد بين الفكري والتّربوي والحقوقي السّياسي والتّفكير السّتراتيجي والإصلاحي. فقد شغل أستاذا للفلسفة ثمّ متفقّدا بيداغوجيّا عامّا ونشط كرئيس لفرع الجمعيّة التّونسيّة للدّراسات الفلسفيّة، حيث قام بتنظيم عديد النّدوات الوطنيّة حول إشكاليّات راهنة مثل "العنف واللاّعنف"... ومن موقعه البيداغوجي التربوي، كانت له اسهامات مهمّة في إعداد البرامج والكتب المدرسيّة في مادّة الفلسفة، كما ساهم في إعداد عديد البرامج الإذاعيّة التي اختصّت بالنّقد التّاريخي ونشر ثقافة الحداثة وعقلانيّة التّفكير وعرض المواقف النّقديّة حول الرّاهن الإجتماعي والتّاريخي. ناضل الفقيد في رابطة حقوق الإنسان كما ساهم في عديد المؤتمرات الدّوليّة العربيّة التي تُعنى بحقوق الإنسان والمواطَنة والعيش المشترك والمجتمع المدني والأنظمة التّربويّة والبرامج المستقبليّة... وكان من الأساتذة الأُوَل الذين أسهموا في انطلاقة قسم الفلسفة بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بصفاقس. وعن المركز الوطني للتّرجمة صدرت له ترجمة كتاب "دروس في السّعادة" لهنري بينا- رويز، كما أسهم في انطلاقة مشروع معهد تونس للفلسفة وساهم في ندوات كرسي اليونسكو للفلسفة وبعض ندوات منظّمة الألكسو حول الرّؤى التّربويّة وكان مشرفا، حتى أخريات حياته، على المقهى الفلسفي وهو منتدى شهري يعقد جلسات عامّة لمناقشة قضايا الرّاهن.
وبدعم من المجتمع المدني، شغل نجيب عبد المولى خطّة رئيس بلديّة صفاقس سنة 2011 وكان إلى حدّ وفاته عضو لجنة القيادة في الإصلاح التّربوي بالمعهد العربي لحقوق الإنسان، حيث كان يقدّم المفاهيم والآليّات الكفيلة ببناء الإنسان الفاعل على أساس قيم الدّيمقراطيّة وقيم المواطنة الخلاّقة.
هكذا تطالعنا هذه المسيرة بربط متدرّج بين النّظر والعمل، بين مثقّف عارف ومفكّر وناقد وبين مشارك في المجتمع المدني والشّأن العام. وكان سخيّا في تمويل الرّأي العام بما ينفع النّاس وأصحاب القرار من جهاز مفاهيميّ، إصلاحي واستشرافي... ويعتبر نجيب عبد المولى من المتخصّصين في الشأن المواطني ومنظِّرا للدّيمقراطيّة التّشاركيّة في إطار الإصلاح الاجتماعي والسّياسي الذي نادى به بعض المثقّفين التّونسيّين قبل الثّورة وبعدها. وعلى غرار ما ورد في محاضرة بعنوان "الدّيمقراطيّة التّشاركيّة، المفاهيم والآليّات"، قدّمها في الدّورة التّدريبيّة الوطنيّة حول "الدّيمقراطيّة التّشاركيّة والمشاركة السّياسيّة" وقد نظّمها المعهد العربي لحقوق الإنسان (سبتمبر 2012)، قال: "لكي يتحوّل االسّكّان إلى فاعلين ممثلين لقوّة عمل وأداة ضغط، لا بدّ من جهد ينقل السّكّان في الحيّ الواحد والبلديّة الواحدة من وضع اللاّمبالين والغرباء عن العمل البلدي إلى مهتمّين وشركاء". وعلى العكس من حالات الإقصاء التي فرضت على المواطن أن يكون متفرّجا سلبيّا، كان عبد المولى يرى ضرورة تمكين المواطن من أن يكون مسؤولا ومشاركا من موقعه. على هذا الأساس كان الرّجل مؤمنا بدور المجتمع المدني والمبادرة المواطنيّة في الفضاء العام وهو القائل: "ما حدث بعد 14 جانفي جسّم فعاليّة المجتمع المدني وقدرته على فرض توجّهاته محليّا ودوليّا". لكنّه كان على وعي بما حفّ الحراكات المدنيّة من مزالق، حيث يستدرك في ذات المحاضرة قائلا: "لكن هل بقي المجتمع المدني التّونسي وفيّا لفكرة خدمة الصّالح العام وممارسة الضّغط من أجل خدمة سياسة عامّة مدنيّة تخدم المدينة؟".
وللخروج من المآزق كان عبد المولى يضع الإصبع على مواضيع ذات الصّلة ومن ذلك الجمعيّات والانتماء الإيديولوجي وقانون تمويل الأحزاب وقانون تمويل الجمعيّات وموضوع "التّحالفات المشبوهة بين ما هو جمعيّاتي وما هو إيديولوجي". ولقد كان الرّجل منتجا للسّؤال وماهرا في توسعة دائرة الاستشكال والتّقصّي حيث تتواتر في تحاليله، وخاصّة في العقد الأخير، جملة من الأسئلة المترابطة من قبيل "ما هي الأدوات والستراتيجيّات المقترحة لإرساء حَوكَمة محلّية تشاركيّة في هذا المناخ الملتبس والغامض؟ أيّ دور للإعلام في هذا المسار؟ كيف يمكن ترتيب العلاقة بين سُلطة البلديّة والسّلطة الجهويّة السّياسيّة؟ كيف نُبقي على االاستقلاليّة، مع احترام وحدة الدّولة؟ (الدّورة التّدريبيّة حول اللاّمركزيّة والحكم المحلّي على ضوء الدّستور الجديد: المواطنة وأسس الدّيمقراطيّة" أفريل 2015).
وبقدر ما كان نجيب عبد المولى ملتزما بحرّيته الفرديّة في ما يفكّر وينجز ويقترح، كان أيضا يعبّر عن رهانات مرحلة بعينها أُوكل فيها للمثقّف دور رياديّ في السّيرورة التّاريخيّة للمجتمع، كما كان يعبّر عن مشترك نضالي يتقاسمه مع خِلاّنه ورفقاء دربه وزملائه وأفراد جيله، تحت راية التّعدّد والتّنوّع والاختلاف والذّود عن الحرّيات وثقافة الحوار... باتّجاه تأكيد الوجود الفاعل للمثقّف الحرّ وإسهامه في تنمية الإنسان، تنمية مواكبة لمكاسب العصر ومتطلّعة إلى مستقبل أفضل. وعلى أساس ما كان الرّجل يتحلّى به من قيم الصّدق والصّداقة والمصداقيّة وما كان يجمعه بأصدقائه في ظلّ هذا المشترك القيمي الذي يمقت الانسحاب ويبادر بالمشاركة، عزمنا على تشريك ثلّة من أصدقائه وزملائه في تأثيث هذه الورقة، أملا في أن يكون ذلك دعما للمسة الوفاء التي اعتزمت المجلّة تخصيصها لروح الفقيد، فكانت الشهادات التّالية:
• فتحي التّريكي: "كان الفقيد متخلّقا متعقّلا متنوّرا ناشطا ناضل بصدق من أجل الكلمة الحرّة والفكرة الصّائبة والحوار المثمر. كان مناضلا وكان يكره الصّدام بل يكره الكره في حدّ ذاته. متفقّد عام للفلسفة أشرف على إصلاح تعليم الفلسفة في أوّل التسعينات. رئيس بلديّة صفاقس بعد الثورة حاول اصلاح الحالة البيئيّة المتردّية للمدينة. نظّم الإسلاميّون انقلابا ضدّه وأزاحوه بدعم من السلطة المركزية الإخوانيّة آنذاك فاشتكى بهم إلى المحكمة الإدارية وربح القضيّة ولكن الدّولة رفضت تطبيق القانون. كان عضوا بكرسي اليونسكو للفلسفة بالعالم العربي وكان فيه غزير النشاط. كما كان عضوا في معهد تونس للفلسفة".
• محمّد محجوب: لا أعتقد أنه ثمة عائلة في تونس لم يدخل إليها نجيب عبد المولى الأستاذ، المتفقد، المؤلف المرابط في جميع كتب الفلسفة، المترجم، المناضل الحقوقي، الناشط المدني، النقابي، الصديق الحبيب، الزميل المؤازر، المواطن المسافر أبدا.. المثقف الملتزم .. المفاوض من أجل الفلسفة، المتعاون مع التجارب الأجنبية بكلّ نديّة، هل ثمّة طريق معبّدة وغير معبدة لم يسلكها نجيب؟ يفارقنا اليوم نجيب عبد المولى وكنّا نظنّه لا يفارقنا أبدا .. ولكن ثمّة في نجيب شيء لا يمكن أن يستنسخ. إنّه من قبيل الشخصي إلى الأبد : ثمة ضرب من التراجيديا الضاحكة التي لم أرها قط تغلب ولا تقهر. نجيب عبد المولى أسلوب، وشأن الأسلوب أنّه فريد لا يتواتر.. فيه نزوع دائم إلى مغالبة خصومه بإيقاعهم في حرج التناقض مع مبادئ العقل، أو مبادئ التسيير الديمقراطي أو مبادئ العقل السليم بكل بساطة ..
• محمّد علي الحلواني: كان صديقي محمّد نجيب عبد المولى مرجعنا جميعا في كلّ المشاريع والأعمال التي تهم ّميدان تدريس الفلسفة نظرا لما يتميّز به من سعة الاطّلاع وسداد الرّأي وقدرة فائقة على التأطير والتسيير. وفي الحقيقية تعمّقت معرفتي بالصديق الرّاحل من خلال نشاطنا المشترك في المجتمع المدني سواء عندما عملنا معا في إطار فرع صفاقس للجمعية التونسية للدراسات الفلسفية وهو الذي أشرف على الفرع طيلة السنوات الأخيرة، أو في مجال حقوق الإنسان أو في العمل الجهوي والبلدي وقد كان نموذجا للمثقف الملتزم نذر نفسه خدمة للتربية والمواطنة وإشاعة قيم الإنسان. غادرنا باكرا وهو في عزّ العطاء لكن ذكراه ستبقى راسخة لما تحلّى به من كفاءة عالية وأخلاق رفيعة. رحم الله الفقيد الكبير رحمة واسعة.
• حمّادي بن جاء بالله: كان زميلا .. وكان رفيق درب طويل .. كفاءة علمية عميقة وأخلاق عالية وتفان في أداء الواجب المهني والواجب الوطني.. لم يكن موظفا بل كان يحمل رسالة النهوض بمدرسة الجمهورية بتجويد درس الفلسفة...هذا، ومن بين ما جمعني بالفقيد منذ أشهر قليلة أنّا كنّا اتفقنا على مقترح تأسيس معهد عربي للمدنيّات. تقبله الله بواسع رحمته وفتح له فسيح جنانه.
• ابراهيم بن صالح: كثيرة هي خصال الصديق المرحوم محمد نجيب عبد المولى سواء في المجال المهني أو المجال المدني لكنّي أحبّ أن أقف في هذين المجالين عند خصلتين بارزتين هما الصداقة والوعي الحادّ بالمسؤولية. أمّا الخصلة الأولى فكان فيها الفقيد يُقدّم صديق الشدّة والبلاء على صديق العافية والرّخاء وقد لمست هذا عن كثب عندما كنت أرافقه في رحلات التفقد فكان ينفق من وقته وجهده لإيصالي إلى أماكن عملي في مختلف مدارس ومعاهد القصرين وسيدي بوزيد أو يضع سيارته تحت تصرّفي لإدراك الأماكن القصيّة التي لا عمل له فيها وفي كلّ السفرات كان نعم الرفيق يفيدني ببعض علمه الغزير أويستودعني بعض سرّه في غير ما تهيّب أو يملحني بطرائفه تخفّف أعباء السفر وتشرح النفس والذهن هو الذي كان معروفا بطبعه المرح والضحكة التي تكاد تكون قطعة من وجهه، وقفت لديه على مدى سنوات العمل في الفضاء المشترك من 1988 وحتى منتصف التسعينيات على خصال الجود والإيثار وكرم اليد والقلب وعلى ثقافة السفر التي تكشف معدن الرجال.
أمّا في المجال المدني فلئن كانت خصاله الإنسانية والمواطنية والوطنية شائعة بين الناس عامّتهم وخاصّتهم فإنّ الإحساس الحادّ بقيمة المسؤولية كان في نظري السّمة البارزة التي كانت تطبع شخصيّته، وهذه الخصلة وإن كانت ظاهرة في المجال المهني إلا أنّه حين تولّى رئاسة النيابة الخصوصية بصفاقس في سنة 2011 ــ وكنت أنا رئيس دائرة المدينة ــ بدت أجلى وأظهر إذ أنفق من أجل النهوض بهذه المسؤولية كامل وقته وجهده حتّى استفرغت طاقته وأرهقت بدنه وزادت في تراجع وضعه الصحّي، لقد كان طموحه كبيرا ليصحّح الأوضاع الاقتصادية في البلدية وليصونها من احتمالات التحيّل أو الزّيغ عن المصلحة العامّة فيدقّق في الملفّات ويستشير لها أهل الاختصاص ويسهر جرّاء ذلك إلى ساعات متأخّرة من الليل لا يرتاح له بال حتّى تستقيم لديه الرؤية الواضحة والتّمشّي الناجع المطلوب وبخاصّة في قطاع النظافة وفي كلّ ما يتصل بأملاك البلدية والموارد المالية المهدورة.
• بشيرة العموري الحلواني: غادرنا إلى الأبد الصديق العزيز محمّد نجيب عبد المولى، الذي أفنى حياته في خدمة التّربية وحقوق الإنسان والحريّات، وخّلف بفقده في قلوب كل من أحبّوه وعاشروه لوعة وأسى.
اكتشفت طيلة سنوات عديدة سعة معرفته وعمق تفكيره المستنير ومدى التزامه وجدّيته في العمل وخبرت هدوءه المتأصل ورصانته وقدرته العجيبة على التواصل والإقناع وعلى إدارة الحوار وأكبرت فيه طيبته في التعامل مع الآخر ودعمه للزملاء في الشدائد....
سيبقى الفقيد حيّا في الذاكرة بخصاله الفذّة كأستاذ قدير متميّز أثرى تدريس الفلسفة وناصر مشروع تربية الأجيال على مبادئ حقوق الإنسان وكمثقّف ملتزم ناضل في رابطة حقوق الإنسان وفي المعهد العربي لحقوق الإنسان وكأوّل رئيس للنيابة الخصوصية في بلدية صفاقس من أجل بناء مواطنة فاعلة حتى تكون الحياة أفضل. له الرّحمة الواسعة ولنا الصّبر على فراقه والإصرار على مواصلة السّير في نفس الدّرب.
• محمود بن جماعة: تجاوز إشعاعُ الراحل محمد نجيب عبد المولى حدود المعهد إلى مجال أرحب، وهو مجال المدينة بالمعنى الواسع للكلمة... وباختصار، كان صديقي الرّاحل مثال المثقف الملتزم بقضايا التربية والثقافة، المتابع في آن واحد للشأن العام والمنخرط فيه دون تعصب. وليس أدلّ على ذلك من إنجازه لبرامج إذاعية ذات رهانات فكرية، بل أكثر من ذلك، يشهد على مدى التزامه تقلدُه رئاسة النيابة الخصوصية لبلدية صفاقس في ظرف عصيب بعد الثورة، وعملُه محليّا وعربيّا في مجال التّربية على المواطنة والحرّيات، في تناغم تام مع مشاريع المعهد العربي لحقوق الإنسان. ولا يسعني في الأخير إلاّ أن أشير إلى ما أنجزه، فضلا عن المحاضرات والمقالات، من أعمال في الترجمة: تعريب كتاب زميلنا الفرنسي الفيلسوف هنري بانا- رويس "دروس في السعادة" (منشورات المركز الوطني للترجمة)، وإسهامه في تعريب كتاب سارتر "الوجودية مَنْزَعٌ إنساني" (منشورات دار محمد علي). تحية خالصة لذكرى صديق حميم غادرنا.. ولروحه السّلام.
هكذا كان نجيب عبد المولى وهو اليوم أكثر من اسم لشخص عاش وترجّل تاركا لوعة وأسى وجملة من الانطباعات الجميلة لدى النّاس، إنّه قيمة، بل وبنية وعي حيّ متجسّدة طبعَت مرحلة تاريخيّة بعينها من حياة مجتمعه. وفعلا، إنّ وفاة الرّجل حقيقة لا مهرب منها، حتّى تعود أعماله وآثاره ومواقفه وأحلامه إلى ركح المعنى، بشكل متجدّد، وتبدأ دورة حياة جديدة، بل وحتّى يُكتب للرّجل حضور آخر، عسى أن يكون أكثر لمعانا داخل ديوان الذّاكرة الفكريّة والاجتماعيّة، منيرا لبوادر الإصلاح الممكنة واستئناف لحظة البناء والتّأسيس... ورحمة الله ترفرف على روحه الزّكيّة.
خليل قويعة
- اكتب تعليق
- تعليق