رشيد خشانة: لماذا ذبلت دبلوماسيتنا وتراجع صيتنا في العالم؟
بقلم رشيد خشانة - باتت الدبلوماسية التونسية تسير بلا بوصلة ولا قائد يضبط إيقاعها ويُحدّد أهدافها ويُجدّد عقيدتها. تتوالى التسميات والإعفاءات بلا معايير موضوعية، حتّى أنّ المرء يتساءل هل مازالت لدينا عقيدة دبلوماسية؟ في الواقع تفتّت العقيدة في التعييات المرتجلة والقرارات الاعتباطية، وأفضل مثال على ذلك ما حدث لمندوبين دائمين لدى الأمم المتحدة، تمّ إعفاؤهما من مهامهما بجرّة قلم.
فقد أعفي أخيرا مندوب تونس الدائم لدى الأمم المتحدة، السفير قيس القبطني، من مهامه بصورة مفاجئة، وكان يحظى، بصفته تلك، بعضوية مجلس الأمن، (حتّى أواخر السنة المقبلة). وكان ردّ السفير بإعلانه الاستقالة، في تصريح لوكالة الأنباء الفرنسية، ممّا يعني إهدار الخبرة التي راكمها بكواليس مجلس الأمن. ولئن تمّ تعيين خلف للسفير المُستقيل، فإنّه سيحتاج إلى شهور لكي يعـــرف ما يدور في المنظمة الأممية ويبني شبكة صداقات، ويحذق استقاء المعلومات من المصدر.
ويجدر التذكير هنا بأنّ المندوب الدائم السابق لدى الأمم المتحدة السفير منصف البعتي، أعفي هو الآخر من مهامه، بشكل مفاجئ وبجرّة من القلم نفسه، في 11 فيفري الماضي، أي بعد حوالي 40 يوما من جلوسه على مقعد تونس، العضو غير الدائم في مجلس الأمن لسنتي 2020-2021. فكيف يمكن أن تترك تونس بصمتها في مجلس الأمن، وهي فرصة لا تتاح إلاّ كلّ ثلاثة عقود، بينما سفراؤها يحملون حقائبهم، متنقّلين من مطار إلى آخر؟ فالسفير القبطني، على سبيل المثال، نُقل من نيويورك إلى أديس أبيبا (قبل الاستقالة)، مع ما تسبّبه هذه النقلات من تكاليف باهظة لدولة ترفع شعار التقشّف. كما أنّ إصدار قرارات إعفاء خارج الحركة الدبلوماسية السنوية، يتسبّب في إرباكات كثيرة لأسر الدبلوماسيين، الذين يكونون قد سجلوا أبناءهم في مدارس بلد العمـــل، ثمّ لا يجدون لهم أماكن، بعد عودتهم المفاجئة إلى تونس.
أين العقيدة الدبلوماسية؟
إلى جانب توفّر الاستقرار، يحتاج السفراء إلى عقيدة دبلوماسية تحدّد الأهداف وتضبط الأولويات، وانطلاقا من العقيدة ندرك ما هي الدول التي تحظى بالأولوية، وماذا نريد منها وما تريده منّا. ونذكر في هذا المجال أنّ الرئيس بورقيبة كان يهتمّ شخصيّا بملفّ العلاقات مع خمس أو ستّ دول تربطها علاقات خاصّة مع تونس. كما أنّ الأداء الدبلوماسي كان أداء فريق متناسق، على امتداد شبكة علاقاتنا الدبلوماسية، فيكون وزير الخارجية بمثابة قائد الفريق، بينما يقوم الرئيس بدور المُدرّب أو المُوجّه.
وظلّت الأمور على هذا النحو في عهد الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، إلى أن انفرطت حبّات السبحة بعده، وضاع الخيط الناظم لها. فإذا كانت الرؤية الشاملة غير متوفّرة، فكيف سيحدّد السفير دائرة تحرّكه، وهو المُطالب بتعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية مع شركاء تونس الدوليين والإقليميين، فهو الذي يجتهد للحصول على قروض، وهو الذي يستدعي الاستثمارات الخارجية، وهو الذي يُحسن تسويق المشاريع الكبرى لدى أصدقاء تونس، فضلا عن التعريف بتاريخها وثقافتها ورموزها؟
هكذا تسنّى تمويل إقامة سدود وجسور وطرقات ومستشفيات وجامعات وعديد المشاريع الأخرى، منذ ستّينات القرن الماضي إلى اليوم، وكان ذلك في غالب الأحيان بفضل العلاقات التي نسجها سفراء محنّكون مع أهل الحلّ والعقد في البلدان التي عملوا فيها.
الوطن والأجندات السياسية
لذلك فإن الدبلوماسية هي، مع المؤسّسة العسكرية، الجسمان الوحيدان اللذان لا يخدمان سوى الوطن، وليست لهما أجندات سياسية. ويمكن القول إنّ تونس تملك اليوم كفاءات دبلوماسية كبيرة، لكنّها تعمل في ظروف صعبة. كما أنّ السفيرات اللائي حظين أخيرا بتسميتهن على رأس عدّة بعثات دبلوماسية في الخارج مجتهدات وواعدات، وينبغي منحهنّ الفرصة للاستقرار والعطاء. ويُحيلنا هذا إلى مسألة التناوب بين سنوات العمل في البعثات الخارجية وفي الوزارة، إذ أنّ الذي يقدم على العمل في البعثات الخارجية اليوم لا يتمتّع بحوافز كبيرة.
في المقابل فإنّ التسرّع والارتجال يُعطيان نتائج عكسية، خصوصا حين لا يتعلّق الأمر بتسمية سفراء فحسب، وإنّما بتسمية رئيس الدبلوماسية نفسه. فللمرّة الأولى عرفت تونس هذه السنة، ثلاثة وزراء خارجية في أقلّ من 11 شهرا، أي وزير كل أربعة شهور. بهذا المعنى تعتبر تونس، من أكبر المستهلكين للوزراء والسفراء، لأسباب كثيرا ما تكون غير مقنعة، مع ما يترتّب عن ذلك من كُلفة مادية باهظة، تذهب إلى الرواتب والمنح والسيارات والسواق... كما أنّ لهذه التقلّبات ثمنها السياسي، فهي تنتقص من هيبة الدولة وتنال من مصداقيتها وتُعيق بلورة رؤية استراتيجية وأهداف واضحة، تشتغل على تحقيقها شبكة السلك الدبلوماسي بأكملها، تحت قيادة الوزير والرئيس.
التشاور أم التوافق؟
من المفيد التذكير هنا بأنّ جهة المبادرة في تعيين وزير الخارجية هو رئيس الحكومة، الذي يختار المرشّح بالتشاور مع رئيس الجمهورية، ولكن ليس بالتوافق معه بالضرورة. وهذا أمر منطقيّ لأنّ نشاط السفير يمسّ غالبية القطاعات المرتبطة ببرنامج الحكومة.
وعلى سبيل المثال تمحورت الدبلوماسية التونسية سنة 2017 على التوجّه نحو القارّة الأفريقية، والتأمت الندوة السنوية للسفراء والقناصل لبحث هذا التوجُه بمختلف أبعاده، تحت شعار "الدبلوماسية الاقتصادية... التعاون التونسي الأفريقي نموذجا"، وهو خيار صائب في ذاته، لكن كيف يمكن تحقيق ذلك الهدف بعشر سفارات فقط في أفريقيا (عدا سفاراتنا في شمال القارّة) وعدد محدود من القنصليات؟
خارطة طريق
في تلك الصائفة، (2017) أثنى الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، لدى إشرافه على اختتام الدورة 35 للندوة السنوية لرؤساء البعثات الدبلوماسية والقنصلية، على مخرجات الندوة "لتوفّقها في صياغة خارطة طريق للسياسة الخارجية التونسية للسنوات المقبلة"، فماذا نُفذ من تلك الخارطة، وماذا تبقّى؟
الأمر المؤكّد هو أنّ الدبلوماسية التونسية، بعدما اجتازت جائحة "الترويكا"، بدأت تتعافى تدريجيا مع قائد السبسي، واقتربت من استعادة ألقها ومجدها السابقين. إلا أنها تتراجع حاليا. ولا أدلّ على ذلك من أنّ سفارة مهمّة مثل الرياض وكذلك بــــاريس ظلّت لأكثر مــــن سنــــــة بلا سفير. كما أنّ علاقاتنا مع دول الجوار المغاربي، يسيطر عليها البرود في وقت نحتاج فيه إلى التآزر لمواجهة التحدّيات المشتركة، والتنسيق في القضايا الإقليمية والدولية الراهنة.
دور محوري
وكانت تونس، بشكل خاصّ، مؤهّلة للعب دور محوري في إيجاد تسوية سياسية للصراع في الجارة ليبيا. وكان متاحا جمع هؤلاء الفرقاء في تونس، التي يقيم فيها كثير منهم أكثر ممّا يقيمون في ليبيا. وكان المفروض أن نستكمل الحركية التي بدأت منذ عامين، عندما استضافت تونس اجتماعات ليبية ليبية في الحمامات وضاحية قمرت. غير أنّ تلك الجهود لم تندرج في إطار رؤية واضحة لمسارات الحلّ، إلى جانب خطّة اتصالات مع مختلف المكوّنات السياسية والقبلية والحزبية.
لقد كانت الساحة الليبية على مدى سنوات مجالا مُتاحا للدبلوماسية التونسية، وكان من الواجب تكثيف الاتصالات مع الشخصيات الليبية المفتاحية، وهو ما فعلته سويســــــرا على مـــــدى سنوات، تحت طيّ الكتمان، ونجحت فيه، ومن ثمّ نالت مكانة خاصّة لدى صنّاع القـــــرار الليبيين في المعسكريــــــن. وليس هذا بعسير على بلد مثل تونس، لكنّ هذا العمل الكبير يتطلّــــب العزم وحسن التخطيط ووضوح الرؤية.
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق