أحمد الماجري: المقاربة التشاركية في المنظومة الرقابية ودورها في مكافحة الفساد
بقلم أحمد الماجري - قد يتبادر إلى الذهن في خطوات التفكير الأولى، أنّ سبل إصلاح وتطوير أساليب التصرف المالي والإداري ومكافحة الفساد في المؤسسات والهياكل العمومية شأن خاص بالدولة فوّضت ممارسته قانونا إلى عدد من الهياكل الرقابية ودستورا إلى محكمة المحاسبات حيث نصّ الفصل 117 من الدستور التونسي صراحة على أنه " تختصّ محكمة المحاسبات بمراقبة حسن التصرف في المال العام ّ".
إلاّ أنّ ما يحدث في الواقع من تواتر للتجاوزات المرتبطة بالتصرف في الأموال العمومية والتي لم يقع رفعها من الهياكل المذكورة يؤشر إلى أمرين وهما قصور المنظومة الرقابية الوطنية على استيعاب مظاهر سوء التصرّف داخل الهياكل العمومية مقابل وعي مجتمعي ناشئ ومتصاعد بالمساهمة الفاعلة في مساندة هيئات الرقابة الوطنية عبر رصد التجاوزات المخلّة والتشهير بمرتكبيها وهو ما خلق ديناميكية مجتمعية مقاومة للفساد، حامية لمكتسبات المجموعة الوطنية من مرافق وتجهيزات وأموال عمومية.
وفي حقيقة الامر فإن هذا الوعي المجتمعي الناشئ يدعونا إلى التفكير في سبل إزالة كل عوائق استثمار المقاربة التشاركية في برمجة وإنجار وتقييم الاعمال الرقابية وهو سنسعى إلى تحليله في هذا المقال.
1- متطلبات الاعتماد على الجمعيات الناشطة في مجال الحوكمة ومكافحة الفساد
تكونت في العشرية الأخيرة عدّة جمعيّات ومنظّمات تعنى بموضوع الحوكمة ومكافحة الفساد وتسعى في أغلبها إلى رصد ومعاينة مختلف الاخلالات في القطاع العمومي وحتّى الخاصّ ورفعها إلى السلطات المختصّة سواء عبر الهياكل الرقابية أو مباشرة إلى السلط القضائية.
إلاّ أنّ الاشكال المرتبط بنشاط تلك الجمعيات على أهميته هو افتقارها لآلياّت التقييم الضرورية لجدية الملاحظات المرفوعة وصعوبة إثباتها لتلك الاخلالات عبر حجج ووثائق مدعمة تمكّن الجهات الرقابية أو القضائية من تعميق التحريات واتخاذ الإجراءات القانونية في شأنها ، حتى أن نشاطها في بعض الأحيان قد يحيد عن الهدف المنشود لينتج آثارا جانبية سلبية متمثلة في إغراق النيابة العمومية بشكايات وتقارير غير مدعمة وأحيانا كيدية أدّت في حالات إلى الإفلات من العقاب وفي أخرى إلى الضغط على المتصرفين.
إنّ تجاوز هذا الاشكال يقتضي الحرص على تدريب تلك الجمعيات في مجال تقنيات الرقابة على غرار بقيّة المدققين وفقا للمعايير الدولية. حيث تتم عملية التدريب المشار إليها عن طريق «مدرب يعمل على تقديم التوجيه من خلال محتوى قائم على عملية منظّمة تهدف إلى تسهيل عمليات تغيير السلوكيات والمواقف وذلك من خلال اكتساب المعارف و المهارات».(1) وهو ما سيساهم بالضرورة في رفع مستوى الثقة في التقارير والمعاينات التي يقومون بها أثناء أدائهم لمهامهم الجديدة.
كما أن التحلي بالحياد والموضوعية أثناء التطرق للإخلالات المثارة يعزّز قيمة ومصداقيّة الأعمال التي تقوم بها تلك الجمعيات والمنظمات فعليها إذا ما أرادت تحصين أعمالها ، التماهي مع الأجهزة العليا للرقابة التي تخضع وجوبا إلى معايير النزاهة والاستقلالية الواجب تعميمها ونشر الثقافة المرتبطة بها وهي الأساس الذي تكتسب انطلاقا منه ثقة الرأي العام في التقارير الصادرة عن مثال هذه الهيئات.(2) من هنا يجب التمييز بين نوعين من الرقابة وهما:
الرقابة الإيجابية: "ﻭﺘﻬﺩﻑ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﺄﻜﺩ ﻤﻥ ﺃﻥّ ﺍﻷﻨﺸﻁﺔ تتم ﻭﻓﻕ ﺍﻷﻨﻅﻤﺔ ﻭﺍﻟﻘﻭﺍﻨﻴﻥ ﻭﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻤﺎﺕ ﺍﻟﺨﺎﺼﺔ ﺒﺎﻟهيكل العمومي ﻟﺘﺠﻨّﺏ ﺍﻟﻭﻗﻭﻉ ﻓﻲﺍﻟﻤﺨﺎلفات ﺒﻤﺎ ﻴﻜﻔل ﺘﺤﻘﻴﻕ لفت انتباه المتصرف.
الرقابة السلبية: ﻭﺍلتي ﺘﻬﺩﻑ ﺇﻟﻰ ﺍﻜﺘﺸﺎﻑ ﺍﻻﻨﺤﺭﺍﻓﺎﺕ والاﺨﻁﺎﺀ ﺒﻁﺭﻴﻘﺔ ﻴﻘﺼﺩ ﺒﻬﺎ ﺘﺼﻴّﺩ ﺍﻟﻤﺴؤﻭﻟﻴﻥ ﻋﻥ ﺘﻠﻙ ﺍﻷﺨﻁﺎﺀ ﺩﻭﻥ ﺘﻭﺠﻴﻪ ﺍﻨﺘﺒﺎﻫﻬﻡ ﺇﻟﻰ ﺃﻭﺠﻪ ﺍﻟﻘﻭﺓ ﻭﺍﻟﻀﻌﻑ ﺃﺜﻨﺎﺀﻋﻤﻠﻴﺔ التقييم وﻫﺫﺍ ﺍﻟﻨﻭﻉ ﻤﻥ ﺍﻟﺭﻗﺎﺒﺔ ﻏﻴﺭ ﺒﻨﺎﺀ ﻷﻨﻪ ﻴبعث ﺍﻟﺨﻭﻑ ﻓﻲ ﻨﻔﻭﺱ المتصرفين. "(3)
فالحياد والموضوعية يقترنان بالرقابة الإيجابية دون سواها ويساعدان على تحقيق أهداف العملية الرقابية.
ويبقى إقرار حق النفاذ إلى المعلومة والوثائق الإدارية من قبل المشرع التونسي(4) عبر السماح بالاطلاع على الوثائق التي تمّ نشرها بمبادرة من الهياكل العمومية للدولة بمواقع الواب الخاصة بها أو بطلب الاطلاع على الوثائق ، مهما كان شكلها أو محملها أو تاريخها ضامنا لتعزيز مبدأي الشفافية والرقابة الشعبية على أعمال الهيئات الإدارية ورافدا هامّا لكلّ الجمعيات الناشطة في مجال مكافحة الفساد والحفاظ على المال العام في الحصول على المعطيات المدعمة لتقاريرها وأنشطتها.
وفي كل الحالات تحدث أفضل المآلات عندما تعود الكرة من جديد إلى ملعب الهيئات الرقابية الوطنيّة وعلى رأسها محكمة المحاسبات سواء عبر تعديل المسار بشكل تنطلق فيه برمجة المهمات الرقابية من المواطن كفرد أو كمجموعات منتظمة صلب ما يعرف بالمجتمع المدني تتقدّم بشكايات أو إعلامات حول موضوع معين تعدّ فيه المحكمة لاحقا تقريرا مفصل ومدعما بالإثباتات اللازمة لزجر كل ّمسّ بالمال العام يتضمّن المقترحات والتوصيات بالنفع على دافع الضريبة التي تتشكل الأموال العمومية من أغلبها.
ومن جهة أخرى قد تستفيد المنظومة الرقابية المكافحة للفساد عبر الدخول في شراكة مع تلك الجمعيات حسب أهداف محددة تتضمن جانب التكوين والتأطير المشار إليه سابقا مقابل التزامها بواجب الحياد والموضوعية في التعاطي مع الهيئات الرقابية والمكافحة للفساد وهي تجربة انطلقت فيها الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد عبر ابرام اتفاقيات شراكة مع عدد هام من الجمعيات الناشطة في مجال مكافحة الفساد.
2- دور المجتمع المدني الوطني والدولي في تطوير عمل الهيئات الرقابية والمكافحة للفساد
إنّ التطور المتسارع للأحداث يفرض على الهيئات الرقابية والمكافحة للفساد واجب التفاعل مع المجتمع المدني على المستوى الوطني والدولي عن طريق البحث في سبل إصلاح وتطوير أساليب للتصرف من خلال مقترحات المواطنين الفردية منها أو المهيكلة في إحداثيات المجتمع المدني الذي ما فتئ يشهد تطورا مطّردا من هنا ينبغي التطرق إلى كيفية استقاء تلك المقترحات وتحليلها والاستفادة منها في تقديم الملاحظات والتوصيات الضرورية ببغية الارتقاء بأداء المؤسسات والهياكل العمومية. في شكل مبسط صياغة ومضمونا.
وفي هذا الصدد نشأت تصورات جديدة للعمل الرقابي طالب بها المجتمع المدني ومن ضمنها فكرة "التقرير المواطني" على غرار تقرير محكمة المحاسبات حول البلديات لسنة 2019(5)
وهو تقرير قائم على مقاربة مختلقة من شكلا ومضمونا، حيث يتميّز بدرجة عالية من الدقّة في الاختصار والوضوح في المقروئية فهو تقرير حول البلديات وهي أقرب المؤسسات الخدمية للمواطنين ومحلّ معاينة وتقييم يومي وقد تطرّق التقرير المذكور إلى عدد من الإشكاليّات والتجاوزات المحتملة في التصرف في المال العام والحلول المقترحة في شكل مبسط والتي تهم العمل البلدي اللصيق بطبيعته بالشأن اليومي للمواطن ولعل مثل هذه التجربة في حاجة إلى مزيد من التطوير والتعميم بشكل تشمل القطاعات الأخرى ذات الطبيعة الخدمية اللصيقة بحاجات المواطن للإجابة على تساؤلاته وللضر ب على أيدي العابثين.
أما على المستوى الدولي ومع تطور مفهوم جديد وهو مفهوم" المجتمع المواطني الدولي"، وبرز معه شكل جديد من أشكال دفع المنظومة الرقابية تم من خلاله وضع عمليات تشخيص مكتملة العناصر وضبط أهداف واضحة وسهلة القيس ومتماشية مع متطلبات الميزانية حسب الأهداف(6) لعديد الأنشطة الحيوية في المجتمع، ألا وهي تجربة التقرير المواطني الدولي والتي انطلقت منذ 12 سنة(7) حيث يتم من خلاله استعراض حاجات المواطنين في مختلف دول العالم وفي مختلف المجالات لتحسين ظروف عيشهم عبر تقديم الاستراتيجيات والاهداف والبرامج الكفيلة بذلك، بأسلوب مبسط وبمقروئية عالية الجودة، ويتضمن هذا التقرير جملة من المعايير التي يمكن الاستئناس لتقييم بعض القطاعات. حيث يكون الهدف هو المواطن الانسان بغض النظر عن جنسيته أو دينه أو انتمائه. وقد وضع هذا التقرير مؤشرات واهداف تشمل مجالات عدة منها المجال البيئي على غرار السعي إلى تخفيض 40 بالمئة من ثاني أوكسيد الكربون والتحكم في 98 بالمئة من المياه عبر إعادة استعمالها واعداد مدونة لمكافحة الفساد في كل مؤسسة(8).
من جهة أخرى فإنّ بعض المنظمات أصبحت تقوم في إطار عمل لجانها بتقييم لبعض القطاعات وسبل الإصلاح فيها وتعد تقارير خارجية يستأنس بها على غرار المعهد العربي لحقوق الانسان(9) حيث أعد المعهد استراتيجية تهم حقوق الانسان وتهدف إلى دفع القطاع في تونس ونشر ثقافة حقوق الانسان وتتعرض إلى مسائل يصعب التعرّض إليها وتقييمها من قبل هيئات الرقابة الوطنية لارتباطها بعناصر غير ماديّة ومنها الجانب السياسي على غرار اقتراح إنشاء وتفعيل واحد وعشرين من نوادي المواطنة وحقوق الإنسان في سبعة جهات من البلاد التونسية في نهاية سنة 2017 قادرة على تطوير مشاريع مواطنة منجزة من قبل الأطفال والشباب المنخرطين فيها وهو ما يضفي قيمة على مثل هذه الاعمال.
ويستنتج مما سبق رفع المجتمع المدني لسقف الانتظارات من الهيئات الرقابية وحث لها للاقتراب أكثر فأكثر من مشاغل الانسان المواطن في مختلف أبعاده حيث أن الأهداف المرجوة أصبحت تكتسي بعدا إنسانيا دوليا يجب التفاعل معه وتقييم كل المؤشرات والسياسات الوطنية المتخذة في اتجاه تحقيق تلك الأهداف في شكل مبسط موجه مباشرة إلى المواطن ومن هنا تأخذ التقارير الرقابية قيمتها المضافة.
وفي المحصّلة ينبغي الاعتراف مجددا بسلطة المجتمع المدني وسطوته على كل المجالات التي تهمّ المواطنين ومن ضمنها مجال حسن التصرف في المال العام وما يستتبعه من ضرورة مكافحة الفساد فلم يعد هذا الموضوع شأنا مؤسّسيا تحتكره هيئات الرقابة ومكافحة الفساد بل أصبح شأنا عاما منفتحا على جميع القوى الحيّة ،وعلى جميع المدقّقين الوعي بأهميّة التفاعل مع جميع المقترحات والمعطيات الواردة عليهم بغية الاستفادة منها مع الحرص على التثبت من صحتها وموضوعيّتها لاستعمالها في المسارات الرقابيّة المتعارف عليها دوليا ،كما أنّمسؤوليّة الجمعيات الناشطة في هذا المجال تبقى كبيرة من ناحية حرصها على تطوير مهارات أعضائها وضمان حيادهم خدمة للصالح العام وتدعيما لآليّات الرقابة على التصرّف في الأموال والممتلكات العمومية.
أحمد الماجري
مستشار سابق بالإدارة البرلمانية
قاضي برتبة مستشار في محكمة المحاسبات
عضو منتخب بالمجلس الأعلى للقضاء
كاتب عام سابق وأحد مؤسسي اتحاد قضاة محكمة المحاسبات
1- مقال بعنوان"تدريب مدققي الدولة" بقلم: نغوين توان ليان - مدقق أداء في إدارة العلاقات العامة، مكتب تدقيق الدولة في جمهورية فيتنام صادر في المجلة الدولية للرقابة المالية الحكومية ربيع سنة 2016 ص 18 و 21.
2- معيار ايساي عدد 130 حول قواعد الاخلاقيات المهنية تراجع مجلة الرقابة المالية يونيو 2020 ص 9.
3- مذكرة ماجستير حول "الرقابة الإدارية الداخلية في المؤسسات العمومية ودورها في تحسين أداء العمل الرقابة الإدارية من وجهة نظر ديوان المراقبة المالية والإدارية الفلسطيني" لأشرف عطاطرة .ص 40.
4- بمقتضى قانون أساسي عدد 22 لسنة 2016 مؤرخ في 24 مارس 2016
5- التقرير المواطني لمحكمة المحاسبات سنة 2019 مع البنك الدولي.
6- قانون أساسي عدد 15 لسنة 2019 مؤرخ في 13 فيفري 2019 يتعلق بالقانون الأساسي للميزانية
7- globalcitizenship report2020
8- globalcitizenship report2014
9- المعهد العربي لحقوق الإنسان منظمة عربية غير حكومية، مستقلة، مقرها تونستأسّست سنة 1989،
- اكتب تعليق
- تعليق