أخبار - 2020.09.28

الشخصيّة المتــورِّمـة والزعامة الوهـميّة

الشخصيّة المتــورِّمـة والزعامة الوهـميّة

بقلم  د. منجي الزيدي - من الظواهر المتفشّية في المجتمع التونسي اليوم تنامي النرجسية وتضخّم الذات؛ حتّى أنّه ليُخَيّل إلى الإنسان، وهو يعاين سلوك العديدين من بين العامّة والخاصّة، أنّ الشخصية التونسية آخذة في الانتفاخ والتورّم. يكفي أن تمعن النظر في السلوك العامّ، وتستعرض صفحات شبكات التواصل الاجتماعي، وتتابع الفضائيات لتتبيّن الانجراف نحو الأنانية، وتعالي الناس بعضهم على بعض و"كلّ واحد من رأسه تقرع" كما يقول المثل الشعبي. أمّا عن الكثيرين من المحسوبين على النخبة وأهل السياسة، و"نجوم" الإعلام و"التحليل السياسي"، فحدّث ولا حرج، فكلّهم زعيم، وكلّهم رئيس، وكلّهم قائد أوحَدٌ مُفدّى، وكلّهم عالم عَلاّمة...وهلمّ جرّا من الألقاب التي هي غالبا في غير موضعها.

تنتشر الظاهرة والحال أنّ الثقــــافة التونسية الأصيلة تنبذ التكــــبّر والتعالي والغرور، وتعتبر هـــذا السلوك من قبيل "النفخة" وهي مشتّقة من الانتفاخ، و"الدعوة" وهي من الادّعاء، و"التفييش" وهي من الفَيْش والإنسان الفَيُّوش في الفصحى هو الذي يفخر بما ليس عنده، وبالتالي فهو “غالط في نفسه".ولقد ضحك المخيال الجمعي من الذي يدّعي في العلم فلسفة فسمّاه “طز حكمة".

1

حبّ الذات من طبيعة البشر. والنزعة الفردية سمة المجتمعات الحديثة. لقد اكتسب الإنسان، بفضل التقدم العلمي والاقتصادي والاجتماعي، ثقة كبيرة في نفسه وقدرته على تحديد اختياراته وقراراته وبناء حياته الخاصة. وتبدّلت أنماط الحياة من الطابع الجماعي الممتدّ إلى النمط الشخصي المتمركز حول الذات. لقد تضاءل حضور "نحن" الجمع لصالح "أنا" المفرد. وذلك من طبيعة أحوال المجتمعات اليوم. ولكن، أن ينقلب تقدير الذات والثقة بها والتعويل عليها إلى انغلاق على النفس والتعالي بها على بقية الخلق فتلك هي العلّة. علّة تناولها علم النفس تحت مصطلح النرجسية وأيضا جنون العظمة، واعتبرها في الغالب الأعمّ اضطرابا في الشخصية، ومرضا خطيرا حين تتحوّل إلى هوس عدواني.

2

صاحب الشخصية المتورّمة هو مثل (نرسيس) الميثولوجيا الإغريقية واقع في غرام صورته لا يرى سواها. له شعور مفرط بأنّه أحسن من الآخرين، فهو في الأعلى وهم في الأسفل، هو اليقظ وهم الغافلون، هو العليم وهم الجاهلون، هو المعصوم وهم الخَطَّاؤون، هو الأقدر وهم العاجزون، هو الأجمل والأقوى وبقية خلق الله لا خير فيهم... وهذا الشعور يخلّف في الغالب نوعا من العمى النفسي وفقدان البصيرة الاجتماعية؛ فترى المصاب به يمشي في الأرض مرحا، متصوّرا أنّه سيخرق الأرض وأنّه سيبلغ الجبال طولا.

3

ولا يستمدّ صاحب الشخصية المتورّمة شعوره بأنّه أفضل من عباد الله منقدرةٍ أو كفاءةٍ أو علمٍ ففي أكثر الأحيان تجده مفتقدا لكلّ هذا، يعمل جاهدا على تغطية عجزه بتفخيم ذاته والنفخ فيها. كما يسعى إلى كسب اعتراف الناس به من خلال طلب الإعجاب ولفت الانتباه وتركيز الأنظار عليه. وهذا في نظره مشروط بإزاحة كلّ منافس. فتراه يتجاهل الآخرين وينكر قدراتهم ومزاياهم، هذا إن لم يُحقِّر من شأنهم ويشوّه صورتهم ... فلا شيء يجب أن يحجب "أنواره الساطعة". وبإمكان المنفوخ أن ينزل من عليائه ولكنه يقوم بذلك تَكرُّما ومزيّة ليكسب المزيد من إعجاب الآخرين وانبهارهم ...إنّه التواضع المزيّف الذي يتغذّى منه الشعبويون وتنطلي حيلته على العامة من جرّاء الوعي الزائف والثقافة السطحية.

4

مجتمعنا اليوم أرضية تُعرِّش فيها "ميغالومانيا" سياسية وتتفشّى فيها جائحة الزعامة الوهمية. لقد هدمت الشعبوية المتلحّفة بتصوّر مُشوّه للديموقراطية القيمة الرمزية والتاريخية للدولة ومؤسساتها، وهرّأت ريح الرداءة مفهوم النخبة، وميّعت شروط الجدارة، ورذّلت مفهوم الكفاءة، وهوّنت من جسامة المسؤولية. فأصبح أيٌّ كان يرى نفسه مؤهّلا لاحتلال المواقع القيادية والنهوض بالمهمات الأولى. ليس أدلّ على ذلك من تضخّم أعداد المترشّحين للانتخابات الرئاسية والبرلمانية الذين ألقوا بنردهم على طاولة المنافسة الانتخابية آملين أن يسعفهم الحظّ بتحقيق أكثر أحلامهم استحالة وجنونا ...فأضحى من شعارات المرحلة الراهنة في كلّ المجالات: لماذا ليس أنا؟ ثم إذا ما استتبّ الأمر: أنا أو لا أحد!

5

الزعامات الوهمية لا تبني حياة سياسية سليمة، ولا تساعد على تشكيل جماعة سياسية متماسكة، ولا تخدم المصالح العامة، لأنّ التمركز حول الذات يؤدّي إلى الظلم والاستبداد بالآخرين كما ذهب إلى ذلك باسكال. والكِبْر مرتبط بالقسوة كما يرى الجاحظ الذي قال: “ومن عَظُم كِبْره اشتدّ عجبه، ومن أُعجِب برأيه لم يشاور كفياً، ولم يؤامر نصيحاً، ومن تبجّــح بالانفراد وفخـــــر بالاستبداد كـــان مـــن الظفر بعيداً، ومن الخذلان قـــــريباً، والخطأ مــــع الجماعة خير من الصواب مع الفرقة".

6

الزعامات الوهمية بالونات لا تحلّق عاليا ولا تذهب بعيدا. هي تتغذّى من ضحالة الثقافة السياسية، وضمور الروح الجماعية، وطغيان الإثارة، والتلاعب بالعقول، وسيادة المشهدية وحبّ الظهور، وهيمنة الصورة على الفكرة...لذلك فهي لا تلبث أن تتلاشى وتذهب جفاء. وإنّ المجتمعات الهائمة على وجهها بحاجة إلى من يأخذ بيدها ويرافقها في طريق التضحية والتفاني ونكران الذات.. إنّها تحتاج إلى الكاريزما الحقيقية التي تحقّق التفاف الجماعة حول مبادئ وطنية وقيم سامية أساسها السيادة والكرامة والوحدة الوطنية. ولنا في تاريخنا من الأبطال والزعماء والشهداء قدوة ومثال...

د. منجي الزيدي
أستاذ تعليم عال بجامعة تونس 

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.