أخبار - 2020.09.22

عبد العزيز قاسم: ما أطول حبل الباطل!

عبد العزيز قاسم: ما أطول حبل الباطل!

1

كنت أودّ أن أخصّص مقالي هذا كلّه لسقوط حكومة وتعويضها بأخرى في مرحلة تكاثرت وتعاظمت فيها الفيروسات والآفات المستعصية، كنت أودّ أن يطول عمر حكومة إلياس الفخفاخ فهي تتضمّن وزراء ذوي نزاهة وكفاءة أذكر منهم نزار يعيش، وزير المالية، وشيراز العتيري، وزيرة الشؤون الثقافية وأذكر كذلك هشام المشيشي، وزير الداخلية الذي كلّف بتشكيل الحكومة الجديدة، وأوّل تساؤل بادرني بهذا الخصوص هو لماذا لم يحتفظ بالوزيرين المذكورين؟ وتساءلت كذلك: هل اختار السيد المشيشي كافة وزرائه عن قناعة وطيب خاطر؟ وخطرت ببالي أسئلة كثيرة أخرى قد أعود إليها في قادم الأيام.

2

ما عِيبَ على حكومة الفخفاخ هو حصول حزب النهضة على نصيب الأسد من حيث عدد الوزراء وكتاب الدولة مع استمرار النهم الذي لا يشبع. حاولوا أن يفرضوا عليه وزراء إضافيين من قلب تونس ومن ائتلاف تستهان به كرامة الدولة، هذا فضلا عن طوابير من المستشارين برتبة وزير. ولما تلكّأ الفخفاخ فجّرت النهضة مسألة "تضارب المصالح" التي كانت تحتفظ بها منذ البداية ورقة ضغط للمساومة أدّت آخر الأمر إلى الاستقــــالة وخلق فــــــراغ كـــــان سيؤدّي إلى حـــلّ البرلمان والتيه في فجاج المجهول.

3

الشعب التونسي يستمتع منذ القدم بترويج الإشاعات. كلّ التهم يمكن دحضها. إلاّ أن تهمة الفساد إذا علقت بمسؤول يصعب التخلص منها. فالحسد ينخر دخيلة الأنفس عموما. أمّا العامة ممّن يشكون قلّة ذات اليد فإنّهم يبسّطون الأمور إلى حد اعتبار جميع أنواع التلاعب اختطافا للقمة العيش من أفواههم. وإذا كذّبْتَ ما يشاع يقولون "لا دخان بلا نار" وفي أفضل الحالات سيتمثّلون بقول النعمان بن المنذر:

قد قيلَ ما قيلَ إنْ صدقًا وإن كذبًا
فما اعتذارُكَ منْ قولٍ إذا قيلاَ 

4

نحن نؤمن بأخلقة السياسة وخاصّة لدى المؤتمنين على شؤون البلاد والعباد. لكنّ العارفين عندنا متأكّدون بأنّ الفساد المالي الحقيقي مستفحل في أحزاب سياسية متمكّنة وكان ينبغي لهيئة مقاومة الفساد البحث والغوص في دهاليز جمعيات تنعت بالخيرية وهي إلى الشرّ أقرب. وفي جرأة لم يسبق لها مثيل يعمد رئيس حكومة تصريف الأعمال إلى طرد كلّ وزراء النهضة وبُهت الذي كفر. ويُحتسب للرئيس قيس سعيد قراره بتشكيل حكومة تكنوقراط أي بخلوها من وزراء "سياسيين" يخرجون من تحت عباءة المحاصصات الحزبوية. وقامت قائمة القوى المتنفذة في البرلمان بدعوى أن لا تستقيم حكومة ليس لها حزام "سياسي". ولكنّهم أذعنوا خشية حل المجلس ومواجهة انتخابات تشريعية جديدة نتائجها غير مضمونة. بل يُتوقّع أن تحتل المرتبة الأولى فيها عبير موسي العدو الأول للإخوان والممانع الشرس لـ"تمكين" الجماعة. وبعد استعراض خطابي ماراتوني تم التصويت في عملية نفاقية واضطرارية: نعم للحكومة بدون "منح الثقة"، بمعنى سيروا في طريقكم و"سننتظركم في المنعرج". كان ذلك في فجر الثاني من سبتمبر الجاري واستعجل الرئيس فدعا الحكومة الجديدة إلى أداء القسم وإلى شيء آخر هو هجوم غير مسبوق في الأعراف التقليدية على الذين تطاولوا عليه في مداولات المجلس وكانوا كثرا. وتسلحنا بظن الخير في حكامنا الجدد وقلنا نحن لا نطلب منهم أكثر من فتح محطة الضخ بالكامور وإعادة تشغيل شركة صفاقس قفصة وإحلال الأمن بالشوارع.

5

وفي اليوم الرابع من تنصيب الحكومة، الأحد 6 الجاري، عيد تأسيس الحرس الوطني، وبسوسة، مسقط رأس وزير الداخلية الجديد، يذكّرنا الإرهاب بوجوده، هذا التنّين المتسلل من جحور بعض مساجد الفتنة المقدسة ومن حجور بعض مفتيّ جهاد النكاح وعاقدي زفاف الحور العين على شباب ضـــائع لا يصلـــح لا للدنيا ولا للدين. يقول بعض السذج: مساكين هؤلاء الفتيان لقد لعب فقهاء الحدود والذبح والبتر بعقولهم. وأنا أقول إنّهم لا يلعبون إلا بمن ليس لهم عقول. كفى تفهّما وتعاطفا مع التوحّش. إن صح أن مثل هذه الأعمال ليست من الإسلام في شيء فلماذا ما زالت مساجدنا تروّج لما هو مخالف لروحية الإسلام بمرأى ومسمع من كافّة المصلين؟

6

وسقط حارس المرور شهيدا ونقل زميله المطعون في حالة حرجة إلى المستشفى وتحركت فرق مقاومة الإرهاب بالسرعة المطلوبة ولاحقت المجرمين الثلاثة فأردتهم وانتشرت صورهم صرعى على شبكات الاتصال الاجتماعي. أنا لا أحب الفرجة على مثل هذه المشاهد ومع ذلك شاهدت وتمليت من وجوههم وشدني النظر إلى اللحى الخصبة وكان العرب منذ القدم يستهزؤون بها. إلا أن علماء الدين اختلقوا أحاديث تكفر المستهزئين بخصائص الفحولة. وفي إحدى محاضراتي بنادي بشرى الخير تعرضت إلى سيميولوجيا اللحية باعتبارها تعبيرا عن التفوق الذكوري ويقابل ذلك على مستوى التدين حجاب المرأة الذي يكرس، حسب علم الدلالة، الخضوع الأنثوي لسلطان الحريم. ويرى علماء النفس في كلتا العلامتين معنى جنسيا صارخا.

7

تأمّلت من وجوه هذا الثالوث الشقيّ لأرى سحنات هؤلاء الذين يذكّرون الشيخ راشد بشبابه ويمثلون في نظره "الإسلام الغاضب". وانتابني الغثيان. واشتدّ قرفي ممّا بدأت أسمع من تعاليق. فهذه المتحجّبة من مرشّحات ائتلاف الكرامة بالجهة، تكتب على صفحتها استنكارا لتصفية الإرهابيين وتشكّك في "عملية مفبركة". ويتمّ اعتقالها فيتبرّأ منها أحد زعماء روابط حماية الثورة في حين أن مخلوف "العملية مخابراتية".

8

الإرهاب اللابس قميص الدين يبدأ بالتكفير، تكفير الفرد والمجتمع. هل يعرف الناس ما حكم الكافر؟ يُستحلّ دمه وأرضه وعرضه، يجوز قتله وانتزاع أملاكه وسبي نسائه. داعش تطبّق حرفيا هذه الأحكام الشيطانية لما فيها من لذّة وتجارة رابحة. كان التكفير يُصدع به على منابر المساجد وفي حلقات الذكر حصرا. واليوم يصدر جهارا تحت قبة مجلس النواب.

9

العملية داعشية إذن. وتركيا هي راعية هذا التنظيم، وتركيا بجيشها ومخابراتها ومرتزقتها على حدودنا، ولها أطماع في بلادنا ولها منّا بالخصوص أعوان وعيون وأتباع وأشياع. تاريخنا البعيد والقريب مع الخلافة ملطّخ بالدم والخيانة. كانت فلسطين تحت حكمهم فبادروا بالاعتراف بإسرائيل وكانت الإيالة التونسية تابعة للباب العالي فأقرّوا بالاحتلال الفرنسي. ولنتذكّر جميعا معركة الشوط الأخير ضدّ الاستعمار الفرنسي، في مطلع سنة 1952، حيث نفي الزعيم الحبيب بورقيبة وردّ جيش الاحتلال على إرهاصات المقاومة المسلّحة بإطلاق يد اللفيف الأجنبي في كامل أنحاء البلاد وخاصّة في الوطن القبلي فقتلوا واغتصبوا ونهبوا وسلبوا. إذّاك تقدّمت حكومة محمد شنيق بشكوى ضدّ كلّ هذه الانتهاكات إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة المنعقدة في دورة استثنائية بباريس وتتالت شكاوى تونسية أخرى لدى المنتظم الأممي من أجل الخلاص والحرية. وفي كلّ مرّة كانت تركيا تصوّت لفائدة فرنسا ضدّ تونس.

10

قد يقول قائل تلك كانت تركيا أتاتورك العلمانية الكافرة. ونقول بل كانت تركيا الإخواني المتستّر عدنان مندريس الذي أطاح به أوّل انقلاب عسكري في أنقرة. عدنان مندريس أذِنَ ببناء خمسة آلاف مسجد في تركيا طوال عشرية الخمسينات وذلك بنصيحة من بريطانيا لاحتواء المدّ الشيوعي الذي بدأ ينتشر لدى المثقفين في البلد. وحوكم مندريس وأعدم سنة 1961 وردّ له أردغان الاعتبار وجعل من قبره مزارا مقصودا. اليوم في كل ما يحدث في سوريا، في العراق، في ليبيــــا وفي تونس فتش عن تركيا.

11

تمثّل تركيا قوّة احتلال شرقي المتوسط وتتحالف مصر مع اليونان ضدّ الدخيل. وأذكر أنّ الرئيس الراحل عبد الناصر، فيما يتعلق بالقضيّة القبرصية، كان يساند الأسقف ماكاريوس في مواجهة المناورات التركية. ولما جاءه سفير أنقرة يحرّك فيه "التضامن الإسلامي" قال: كيف لا أناصر دولة عضوا في حركة عدم الانحياز، لا تعترف بإسرائيل وترفض الانخراط في الحلف الأطلسي قبالة دولة هي إحدى طلائع هذا الحلف وتقيم علاقات حميمية مع العدو الصهيوني. وما أشبه الليلة بالبارحة.

12

أودّ بالمناسبة أن أترحّم على روح الشهيدة المناضلة التركية في مجال حقوق الإنسان، المحامية "إبرو تيمتك" (Ebru Timtek) التي توفيت في 27 أوت المنصرم بسجون أردغان بعد إضراب عن الطعام دام 238 يوما. كانت تطالب بمحاكمة عادلة إثر اتهامها بالانتماء إلى منظمة إرهابية لمجرد نشاطها المهني الملتــــزم. لم تتجــــاوز الثانية والأربعــــين من عمرها. ويقبع محامون آخرون سجـــــــــناء مضــــربين عن الطعام وهم يعلمون أنهـــــم سيمــــوتون حتما. تلك هي دمقراطية الإسلام الأردغاني المعتدل...

عبد العزيز قاسم
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
1 تعليق
التعليقات
حمودة البراق - 24-09-2020 01:23

شكرا على هذه النبذة التاريخية التي عاشتها و تعيشها بلادنا. ولن نسمح لاي كان ان يتدخل في شووننا و بناء مستقبلنا و ان غدا لناظره قريب.

X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.