سؤال الغنوشي الأخطر للعقل السياسي التونسي: الإيمان بالزعامة الاستثنائية؟
بقلم مولدي الأحمر - شكرا جزيلا للمائة شخصية من حزب النهضة الذين وجهوا عريضة لراشد الغنوشي يطالبونه فيها بعدم الترشح مرة أخرى لقيادة حزبهم، مقدمين رأيهم فيما ينبغي أن تكون عليه القيادة السياسية. ومثله من الشكر أو أزيد للسيد راشد الغنوشي على رده العلني على العريضة، وخاصة على كشفه بوضوح عن الحجج التي رد بها على أصحاب العريضة. لقد شكلت الأطروحة والأطروحة المضادة درسا عمليا حقيقيا في العلوم السياسية وللاحزاب التونسية، لم يحدث أن عرفته تونس بهذا الوضوح وبهذه الصراحة حتى أيام الأزمة التي عرفتها القيادة البورقيبية في بداية السبعينيات، وكذلك خلال أزمة الزعامة التي واجهها نجيب الشابي في الحزب الديمقراطي التقدمي، والتي كان أحد أبطالها تحديدا محمد القوماني والذي دافع اليوم عن أطروحة الغنوشي. إن السؤال الذي شكل محور الأطروحة والأطروحة المضادة في العريضة كان كالتالي: هل مازال العقل السياسي التونسي، ولا أقول الهوى الجماهيري، يفكر بمفهوم الزعامة الاستثنائية؟
إن أهمية هذا السؤال تزيد اليوم لأنها تأتي في سياق لم تتخلص فيه القوى السياسية التي كانت قد عارضت النظام السابق، أو قبلت به مغلوبة، من مفهوم الزعامة في تمثل العمل السياسي، ولا أدل على ذلك من معارك الزعامة بين حلفاء الأمس في اليسار والوسط، وتراشق حزبي النهضة والدستور -بشكل مزيف- بصور "زعمائهم" في مجلس النواب.
أطروحة ال 100 عضو من الحركة-الحزب
ما هي أطروحة أصحاب العريضة المائة الذين واجهوا "ديمومة" قيادة الغنوشي لحزب النهضة؟ في مضمون عريضتهم قدم المعارضون الحجج التالية:
- تمر النهضة (استعمل أصحاب العريضة تارة مفهوم الحزب وتارة مفهوم الحركة) بأزمة كبيرة، مؤشراتها التراجع في الانتخابات البلدية والتشريعية، ومغادرة بعض القادة الوازنين لها، وتواتر العرائض الداخلية فيها (2018 و 2019 المعلنتين عدا ما لم يعلن عنه) ضد توجهات قيادتها. ثم يفسرون هذه النتائج -في العموم- بأخطاء قيادية ومنها التكتيكات غير المجدية.
- لكن الحجة المبدئية كانت أن عدة مؤشرات تدل على أن هناك توجه من القيادة نحو عدم احترام البند 31 من النظام الداخلي للحركة-الحزب، الذي ينص على التداول على القيادة ويحددها بدورتين لا غير. وهنا يفصل أصحاب العريضة في خطورة هذا التوجه بالتأكيد على: أنه يمنع الحركة من الانتقال من قيادة تاريخية زعاماتية إلى قيادة مؤسساتية، أنه يعطل الانتقال نحو حزب تعاقدي يسمح بالتجديد والتجدد، كما يضر بثقة الناخبين في الحركة. ولأن أصحاب العريضة يعرفون حجج الغنوشي المتوقعة فقد نبهوه إلى أن التجارب المقارنة تدل على أن التداول على القيادة لا يخص رئاسة الدول فقط كما يذهب هو إلى ذلك بل كذلك الأحزاب، وأن القول بأنه لا بديل عن الزعيم مردود لأن الحزب-الحركة يعج بمن هو أهل للقيادة، وأن شعار المؤتمر سيد نفسه حق أريد به باطل. بل أكثر من ذلك فهم يذكرون في العريضة بأن هذا التوجه يناقض ما دعا إليه رئيس الحركة مرارا وتكرارا من أن الديمقراطية تقتضي التداول على السلطة.
ومن ثم يستخلص أصحاب العريضة بأن العكس لو حدث، أي التمديد، سيؤدي إلى نسف المصداقية الأخلاقية للحركة وإلى انقسامها، كما سيضر بالوضع الديمقراطي للبلاد.
أطروحة راشد الغنوشي المضادة
في رده على أصحاب العريضة يبدأ رئيس الحزب-الحركة أولا بالإيحاء بأنه كان يعتقد أن من فوضته الجماعة ليحمل له عريضتهم جاء يطلب خدمة، ثم يشكك في صدقية العريضة، ثم يشبه أصحابها بعساكر الهزيع الأخير من الليل، وأخيرا يسخر بلباقة من التطريز الذي جاء فيها عن مفاهيم الديمقراطية والإسلام. ويعكس هذا نظرته إليهم كزعيم يحس بالتهديد لزعامته.
لكن الأهم في الأطروحة هو أن الغنوشي عمل على إعادة تعريف مربع الصراع الذي يجمعه بأصحاب العريضة ليتمكن بعد ذلك من ترتيب حججه في الرد عليهم. والمربع الذي يريده هو التالي: إن " مربع الخلاف الأصلي يدور ليس حول الديمقراطية وانما حول تقدير المصلحة، مصلحة البلاد ومصلحة الحركة والامة". ثم ينبه معارضيه إلى أن التحجج بالديمقراطية في تغيير قيادة الحزب يعتبر نقلا للصراع إلى" ساحة اخرى مضللةً"، لكنه لا يقول ما هي هذه الساحة.
بهذه الحركة أصبح بإمكان الغنوشي أن يقدم أطروحته المضادة في القيادة الحزبية وأسسها:
- في الديمقراطية لا يصح الخلط بين مجال الحزب ومجال الدولة، والشاهد طول مدة رئاسة ميتران وشيراك وميركل وطوني بلير لأحزابهم، والتزامهم بالدستور على رأس الدولة.
- ليس من لوازم الديمقراطية الحزبية تغيير القيادات في مدد معينة بصرف النظر عن كونهم أصابوا أم اخطأوا، والزعماء في الاحزاب الديمقراطية، وليس الرؤساء، يشكلون الاستثناء من القاعدة (قاعدة التداول).
- عندما يكون لحزب ما زعيم استثنائي من النوع الذي "لا يجود الزمان بمثله إلا قليلا"، فإن هذا الزعيم يتحول إلى رصيد للحزب بما استثمر فيه خلال مدة طويلة (يقول نصف قرن) حتى يكون جاهزا للمقامات العالية، فالمصلحة في هذه الحالة تقتضي تقوية هذا الزعيم وليس إضعافه.
- الزعامة تتطلب "جلدا خشنا" ومعناه: القدرة على الصمود في مواجهة عامل التهرئة، وتحمل الصدمات، واستيعاب تقلبات الزمان، والقدرة على التجدد.
- جميع هذه المواصفات لا تتوفر الآن في أي قيادي من حركة-حزب النهضة سواه.
محصلة القول في هذه الأطروحة المضادة أن الديمقراطية، بمعنى التداول على القيادة، لا ينبغي أن تكون مبدأ في بناء الأحزاب (يؤكد الغنوشي أن هذا يجب أن يكون ساريا حتى على مستوى الجهات)، وأن الأحزاب الناجحة، أي التي "تستثمر في قياداتها الناجحة فتدفعها الى أعلى حتى تنتقل مقبوليتها من المستوى الحزبي الى المستوى الوطني وحتى اوسع من ذلك"، تقوم أساسا على الزعامة، وأن تغيير الزعماء في زمن الأزمات (أزمة تونس الاقتصادية والاجتماعية والصحية) عمل مضر بالحزب وبما هو أوسع من الحزب. وإذا فإن ما جاء به أصحاب العريضة في الليل وعلى حين غرة مغلوط ومغرض ويراد به غير ما جاء من كلام عن الديمقراطية.
ملاحظات على الأطروحة والأطروحة المضادة
لكي نفهم نموذج التفكير في الأطروحتين ورهانتهما ينبغي البدء بأطروحة من هو في القيادة ومستهدف بالعريضة. إن النموذج السياسي الذي يدافع عنه الغنوشي كقائد لحركة-حزب، هرم في قيادتها، هو نموذج الزعيم بالمفهوم الأنثروبولوجي الكلاسيكي للكلمة. ويقوم هذا النموذج على فكرة استثنائية الزعيم في سلوكه وقدراته الخارقة، حد اكتساب خاصية الشباب المتجدد ما يضمن له القدرة اللامتناهية على الإخصاب مثل الباطريارك (كان بورقيبة في شيخوخته يؤكد كل يوم شبابه المتجدد بعرض نفسه في الصيف على جميع التونسيين وهو في الماء يسبح).
وهذا النموذج يفترض أتباعا تجمعه بهم علاقات شخصية تبادلية كثيفة (يذكر عبد الفتاح مورو دائما أنه مدين للشيخ بإعالة عائلته عندما كان في السجن)، وهو يجدد باستمرار مهامهم ويقرب منه الأجيال الجديدة (وهذا ما كان يفعله أيضا بورقيبة) الأثقل ديْنا له. ومن المهم ملاحظة أن الغنوشي في آخر الرسالة طلب من المنتسبين إلى النهضة "أن يحفظوا عقد الأخوة"، وهو العقد الأصلي في الانتساب إلى الجماعة الإسلامية الدعوية الأولى، والجماعة الدعوية-السياسية تقوم في الأغلب على قائد وأتباع. لكن الأتباع ليسوا مجرد "تبابعة"، لأنهم لا يأخذون فقط بل يعطون أيضا، ومن ثم فإن الزعيم يكون بالمقابل مدينا لهم. ولكن بما أن المبادلات بين الزعيم والأتباع لا يمكن أبدا أن تكون عادلة (لقد أغضب الرسول المهاجرين والأنصار عندما ميز عليهم أشراف قريش في قسمة الفىء!) فإن الخلافات بين الأتباع على مضمون تلك العلاقة وعلى خلافة صاحبها تكون دائما حامية الوطيس، طورا سرا وتارةعلنا. ويجب هنا أن نورد ملاحظة كررها عبد الحميد الجلاصي عن سبب الصراعات داخل النهضة، وهي أنه أصبح فيها متنفذون، وذكر كيف أن علي العريض لم يحض بما كان يستحقه، بمعنى أن مناصب القيادة في الحركة-الحزب لم تعتمد على الاستحقاق والكفاءة إنما على علاقة الأتباع بالزعيم، فكيف بتقييم كفاءة الزعيم ذاته. ويمكن هنا أن نفهم لماذا لم تمثل العريضة تيارا فكريا متجانسا يعد ببديل يتناسب مع ما دعت إليه من مبادئ وقيم، إذ أن بعض الموقعين عليها محسوبين على التيار المتشدد غير الديمقراطي داخل النهضة.
يجب الإعتراف بأن هذا النموذج لم يشتغل في النهضة بشكل مسترسل بكل عنفوانه، كما حدث مع بورقيبة، وذلك بسبب التاريخ المضطرب للتنظيم وعدم استقرار تراتُبياته. لكن الوصول إلى السلطة وإلى الموارد غير المعادلة، فتمكن من إرساء دعائمه وأثر كثيرا في مخيلة المنتسبين للتنظيم: لقد سمى الجلاصي العريضة ب "عريضة الترجي" أي الاستعطاف، بينما عرضوا هم على الغنوشي أن يبقى زعيمهم، وأن يساعدوه على بلوغ مطمحه الأعلى وهو رئاسة الدولة بمخيال قيادة الأمة، مقابل أن يفسح لهم طريق القيادة!
ومع كل ذلك فإن هناك ملاحظة جديرة بالتوقف عندهان وهي أن الأفق الديمقراطي للثورة التونسية، والمقاومة التي واجهتها حركة النهضة في بث منظورها الفكري السياسي في النخب التونسية (شعار نكبتنا في نخبتنا) قد ساعدا قسما من أعضاء الحركة – الذين تكلموا عنها أكثر من غيرهم- على محاولة التحرر من النموذج، وهم لم يحاولوا ذلك بمفاهيم الثورة على "الأب الباطريارك" من خلال سبه وتخوينه و"قتله" رمزيا، بل -ولحسن حظ تونس- بمفاهيم الديمقراطية ومصلحة التنظيم والبلاد. لقد كتبت السنة الماضية في مقال أكاديمي منشور، بأن أفق حزب النهضة إما ثورة تأويلية للاسلام والتاريخ الإسلامي، وإما هيمنة عقائدية على المجتمع من الأسفل في اتجاه الأعلى، فهل يتحول هذا التيار إلى تيار تأويلي فلسفي لخط الحركة، أم ستعوزه لفترة طويلة موارد العلوم الانسانية؟
ومع ذلك يبقى سؤال الغنوشي للعقل السياسي التونسي قائما، ويتفرع إلى فرعين: الأول كيف سيفهم هذا العقل التحولات الجارية داخل حركة-حزب النهضة وماذا سيكون موقفه العملي منها ومن أي منظور؟ الثاني هل مازال نموذج الزعيم الاستثنائي صالحا ووظيفيا؟ سوسيولوجيا يبقى النموذج واردا وممكنا لأنه لا يخضع للتمثل العقلاني للعمل السياسي ويرتبط بالسياق، وتلك أحوال العمران كما يقول ابن خلدون. لكن الثورة التونسية وضعت لهذه الفرضية شرطا لم يكن متاحا من قبل أخرج الظاهرة من حالتها الأنثروبولوجية، وهو أن يجري بناء الزعامة السياسية على التعاقد الملزم قانونا وأخلاقا لا على الولاء، وأن يُثبَتَ الزعيم في إنسانيته فيتواضع للنقيصة والخطأ.
مولدي الأحمر
- اكتب تعليق
- تعليق