" المجالات البحرية التونسية " كتاب لـحسّان المزغني
أصبح للقانون الدولي للبحارخاصة في البحر الأبيض المتوسط، أهمية خاصّة وذلك على ضوء الصراعات المتعلقة بالثروات الحية وخاصة غير الحيّة في قاع البحار والتي تؤدي في بعض الأحيان الى التوتر والتدخلات الأجنبية وحتى المواجهة المسلحة بين الدول أو التهديد بها و لعل ما يحصل حاليا من خلافات بين تركيا من جهة واليونان ومصر من جهة اخرى في شرق المتوسط خير دليل على اهمية رهان السيادة على المجالات البحرية لاستغلال ثرواتها.
وهذا ما يفسر أهمية تحديد المجـالات البحــرية للدول والتي يدرسها مؤلف كتاب " المجالات البحرية التونسية " الدكتور حسان المزغني و الذي صدر في 2020 عن "دار الكتاب" والمستوحى من اطروحة دكتوراه ناقشها في رحاب كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس تحت اشراف العميد السيد فرحات الحرشاني.
وتكمن اهمية الكتاب في ندرة البحوث سواء كانت كتب أو حتى دوريات تتعلق بمسألة تحديد المجالات البحرية التونسية بصفة مباشرة حيث قام عدد من الباحثين بدراسات في ميدان قانون البحار إلاّ أنّ أغلب ما كتب صدر باللغة الفرنسية و يعالج بصفة عرضية تحديد المجالات البحرية. كما أنّ أغلب الباحثين اقتصروا على دراسة تحديد المجالات البحرية دون دراسة أوجه استغلالها وهذا العمل يتجه نحو دراسة التحديد والاستغلال لأنّ التحديد ليس غاية بحدّ ذاته ولكن تحديد المجالات البحرية التونسية يرمي لغرض استغلال الموارد الحية وغير الحية الموجودة في تلك المجالات.
إنّ هذا العمل له ميزة أخرى ذلك أنّه يتعلق بمسائل كانت و مازالت محل جدل لذلك كان لزاما اليوم في تونس أن يتمّ تحيين المعلومات التي تخص المجالات البحرية التونسية لمعرفة مستقبلها ذلك أنّ عملية تحديدها هي عملية مستمرّة في الزمن ولا يمكن تثبيتها في نقطة زمنية محدّدة.
وفضلا عن ذلك فإن تونس اليوم في أمسّ الحاجة لثرواتها البحرية لذا فإنّه من الضروري إعطاء الأهمية التي يستحقها البحر والسواحل التونسية التي تمتد الى أكثر من ألف وثلاثمائة 1300 كيلومتر وإيجاد الثروات التي وقع تهميشها والتي تمكنها من تجاوز أزمتها الاقتصادية ومن حلحلة مشاكلها العالقة.
لقد تمت معالجة هذا الموضوع بطريقة تتسم بالوضوح والقراءة السهلة بل والشيقة وحسب منهجية علمية متينة ومتناسقة.
ان حجر الزاوية في هذا العمل هو السيادة التونسية- أي سلطة الدولة على إقليمها- وتفاعلها مع سيادات دول اخرى سواء عند ضبط الحدود البحرية أو عند دراسة حقوق والتزامات تونس في مجالاتها البحرية.
ولقد قسم الكاتب المجالات البحرية التونسية إلى مجالات "سيادة" ومجالات "ولاية" .والمجالات ذات السيادة بالنسبة للدولة الساحلية هي المياه الداخلية والبحر الإقليمي، أمّا المجالات ذات الولاية فهي المنطقة المتاخمة، والمنطقة الاقتصادية الخالصة والجرف القاري .وأساس التفرقة بين تلك المجالات هو دائما السيادة ذلك أنّه كلما اتجهنا إلى الإقليم البري اشتدّت تلك السيادة وقويت، وكلما ابتعدنا عن اليابسة ضعفت تلك السيادة وفترت.
إنّ لتونس مثل بقية الدول الساحلية مجالات بحرية عديدة. فلها مياه داخلية وبحر إقليمي وجرف قاري وقد أعلنت منطقة متاخمة و منطقة اقتصادية خالصة .ولكن تطل تونس على بحر شبه مغلق هو البحر الأبيض المتوسط وكان لزاما لمجالاتها البحرية أن تصطدم بالمجالات البحرية للدول الملاصقة ونقصد ليبيا والجزائر والمقابلة ونقصد إيطاليا و مالطا.
ويخلق هذا التشابك بين المجالات البحرية التونسية والمجالات البحرية لتلك الدول عدّة فرص في التعاون والعلاقات الودية ولكن يؤدي كذلك الى التنافس والنزاعات وتضارب المصالح وصلت في بعض الأحيان حدّ الصراع ذلك ان ثروات البحر عديدة، حية وغير حية، ولها إثر مباشر عل الاقتصاد التونسي. والثروات الحيّة هي بالأساس الثروة السمكية التي يمكن أن تكون متواجدة في المياه الوطنية أو تلك الملتصقة بالجرف القاري، أمّا الثروات غير الحيّة فهي تلك المغمورة بالبحر ويقع استغلالها في باطن امتداد الإقليم البري المغطّى بالمياه.
اختار الباحث فك الارتباط التقليدي الذي كرسته اتفاقية قانون البحار لسنة1982 بين المياه الداخلية والبحر الاقليمي. وحاول أن يدرس كل واحد من هذين المجالين من حيث المكان بطريقة مغايرة فاقترح "محاولة" لتحديد المياه الداخلية التونسية في حين تعرض لتطور امتداد البحر الاقليمي التونسي بحسب تطور قواعد القانون الدولي. أما من حيث الوظيفة فقد درس السيادة التونسية شبه المطلقة على هذين المجالين تشريعيا واداريا وقضائيا والقيود المسلطة عليهما.
بخصوص المياه الداخلية، تّم القيام بتحديدها بالنظر لعدم وجود نظام متكامل لهذا المجال سواء في اتفاقية 1982 أو في القانون الوطني، فقد عاملت الأولى في الذكر المياه الداخلية المحددة بخطوط مستقيمة بمثل ما يعامل به البحر الإقليمي. في حين لا يوجد في القانون الوطني رؤية متكاملة لهذا المجال سواء من حيث التحديد او من حيث النظام القانوني.
وعند دراسة النظام القانوني للمياه الداخلية تمّ التعرّض إلى أنواع المرور للدخول إلى الموانئ التونسية والخروج منها ورسوّ جميع أنواع السفن فيها و دراسة تجاذب سيادة تونس مع دولة العلم في الموانئ التونسية ونظام السفن التجارية والعسكرية. كما تمّ التطرق للسيادة المحدودة في الميدان البيئي وميدان الاكتشافات البحرية.
بخصوص البحر الإقليمي، تم القيام بمسح تاريخي لتحديد هذا المجال واستخلاص نتيجة مفادها أنّ تنامي امتداده قد تطوّر بالتوازي مع تطوّر قواعد القانون الدولي وتمّ التطرق إلى أهمية الجزر في ضبط هذا المجال. كما تمّ البحث في مشاكل تحديد البحر الإقليمي سواء من جهة الجو أو من جهة قاع وباطن أرض البحر وتمّ التأكيد على ضرورة استكمال التحديد المنقوص مع ليبيا.
وعند دراسة النظام القانوني للبحر الإقليمي تمّت دراسة السيادة شبه المطلقة لتونس على هذا المجال وتمّ البحث من زاوية أخرى في مسألة المرور البريء كقيد على السيادة التونسية.
يهتم الجزء الثاني لهذا الكتاب بالمجالات الخاضعة للولاية الوطنية أي الجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة. يتطرق المؤلف الى عديد الاشكاليات الهامة التي تهم الجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة مع حفاظه على دراسة المكان قبل الوظيفة.
بخصوص الجرف القاري التونسي تمت دراسة تحديدات الجرف القاري المنجزة مع ايطاليا وليبيا والجزائر وغير المنجزة مع مالطا والتعرض الى مسألة" المضلع" «polygone» المرسوم اثناء عرض قضية الجرف القاري بين تونس وليبيا على محكمة العدل الدولية وتم التعرض لوجهات نظر الدول المعنية واقتراح بعض الحلول خاصة حل الاستغلال المشترك لتلك المنطقة.
كما تمت دراسة استغلال تونس لمواردها الحية (كالإسفنج والمرجان) وغير الحية(كالنفط والغاز) كوجه من أوجه ممارسة السيادة لأن الغاية من التقدم عرض البحر هو الاستفادة لأقصى قدر ممكن من هذه الموارد.
بخصوص المنطقة الاقتصادية الخالصة التونسية تمت دراسة حدودها المنجزة مع الجزائر وغير المنجزة مع ليبيا وإيطاليا (فضلا عن مالطا)والتعرض الى سياسة تونس المبدئية في اعتماد نفس خط تحديد الجرف القاري مع ايطاليا وخط مغاير مع ليبيا وتم عرض امكانيات التحديد واقتراح اعتماد سياسة موحدة مع ليبيا وإيطاليا تتمثل في اعتماد الخط الواحد لفصل جميع المجالات البحرية.
كما تمت دراسة استغلال تونس لمواردها الحية في المنطقة الاقتصادية الخالصة وواجباتها في تلك المنطقة.
في الخاتمة يذكر المؤلف بعض المقترحات ويدعو الى فتح افاق مثل تنظيم جميع المجالات البحرية صلب مجلة واحدة ولكن ذلك يستدعي أولا-حسب رأيه-حل اشكالات تحديد الحدود البحرية مع دول الجوار.
لقد وقع البحث في هذا الكتاب من خلال اللجوء إلى عديد المصادر متمثّلة أساسا في الاتفاقيات الدّولية والقوانين الوطنية وفقه قضاء محكمة العدل الدولية وكتابات المختصّين في ميدان قانون البحار وغيرها من المصادر ولقد تمّ تدعيم الكتاب بمراجع عديدة وخاصة خرائط جغرافية لإثراء المعلومات. وأبرز الكاتب ملاحظة هامة مفادها أن القانون التونسي حاول دائما أن يكون موائما للقانون الدولي للبحار سواء من حيث تحديد المجالات البحرية التونسية أو من حيث أوجه استغلالها.
ليس هناك شك ان كتاب " المجالات البحرية التونسية" للسيد حسان المزغني سيكون مفيدا لشرائح عديدة من باحثين وطلبة وموظفين وإدارايين وخبراء وقضاة ومحامين ومحكمين و سيثري المكتبة القانونية التونسية والعربية.
" المجالات البحرية التونسية " لـحسّان المزغني
دار الكتاب 2020.
تقديم العميد فرحات الحرشاني
- اكتب تعليق
- تعليق