لفّ ودوران: قصّة قصيرة
بقلم زهرة الظاهري - مازلت أذكر ذلك جيّدا مع أنّني لا أذكر كم كان عمري بالضّبط حين سمعت صوت أمّي يعلو وينخفض لمّا كان صوت أبي قد علا كثيرا.
وأنا أمشي على الكورنيش في هذا المساء المنعش أنظر أحيانا الى الجموع الموجودين بالمكان وأحيانا أرهف السّمع إلى أمواج البحر المتصادمة وصيحات بعض الّذين يرتمون في أحضانه. أتساءل بيني وبين نفسي كيف لايفزعون من هذه الأمواج الصارخة في غمرة اللّيل ؟
كنت أحبّ البحر وأخافه في آن. كحبّي لزوجتي وخوفي من أن يتحوّل هذا الحبّ إلى حالة نفور قصوى.
لا أعرف ما إذا كنت أهرب من هواجسي الحقيقيّة إلى التّفكير بأمر هؤلاء الّذين يركبون البحر ليلا وأحاول أن أنشغل بكلّ ما يجري بالخارج حتّى أنسى كلّ الأحداث الّتي تفور بداخلي غير أنّ رأسي المشوّشة بهدير الماضي والحاضر ما فتئت تعود بي إلى ماضيّ البعيد وحاضري الممتدّ وكأنّ التّاريخ يعيد نفس الحكاية فأجدني متشظّيا بين طفولتي المشوبة بالخوف والعجز عن فهم ما يجري وبين حاضري المليء بالرّيبة والخوف أيضا.
• لا تحاول أن تقترب منّي مجدّدا والأفضل أن تغيّر مكان نومك وتغادر الغرفة حالا فقد سئمت.
• وما الفائدة من وجودك في بيتي إن لم تعودي قادرة على تلبية رغباتي؟ ما حاجتي بامرأة عاجزة مثلك؟
هذا ما دار يومئذ بين أمّي وأبي. لم أكن لصغر سنّي أستوعب حقيقـــــة ما يجري فأمّي لم تكن أبدا مقصّرة في شيء فهي تظلّ تدور كامل اليوم داخل البيت، تقوم بكلّ ما يلزمنا دون هوادة غير أنّ السّرّ الكبير يكمن خلف جدران غرفة نوم والديّ، فكثيرا ما كان يتناهى إلى مسمعي صراخهما في أواخر اللّيل حين أكون أنعم بنومة هادئة فيتسرّب إليّ زعيقهما الّذي أقوم على إثره فزعا ويظلّ قلبي يقرع صدري فلا أنام حتّى الصّباح وحين أقوم من نومي أجد والدي في كلّ مرّة ينام على الكنبة في قاعة الجلوس.
حين كبرت أدركت أيّة معاناة كان يعيشها كلاهما مع الآخر.
لم أسأل أبدا لماذا لم ينفصلا مادامت الحياة أصبحت مستعصية بينهما. كنت لا أملك القدرة وأنا الطّفل على تحمّل هذا الّذي أحيانا يجول بخاطري.
لم أتوان على سؤال أمّي ذات مرّة وقد لاحظت غضبا كبيرا في عينيها:
• هل حقّا ستتركين أبي ؟
كان سؤالي جارحا وكنت أنانيّا فلم أحتمل إبقاءه في داخلي فصدمت به أمّي. ابتسمت يومها وأومأت برأسها أن لا. ولم أكتف بردّها الّذي لم يهدّئ من فزعي فتماديت في السّؤال وكأنّني أتوسّلها: أيمكن أن تتركيني يوما بسبب مشاكلك مع أبي؟
احتضنتني يومها كعادتها في كلّ مرّة حين ترغب في إزالة ذلك الخوف العالق بي وتمتمت: كيف أتركك وقد نذرت كلّ حياتي لك؟
وددت لو أردف سؤالي بسؤال آخر أو بأسئلة كثيرة ظلّت تحوم في رأسي سنين طويلة وكنت لخوفي أحجم عن طرحها على أمّي حتّى تحوّلت تلك الأسئلة شيئا فشيئا إلى كوابيس أراها في منامي وصرت أتبوّل ليلا. وحتى لا تنتبه أمّي لذلك كنت أقوم فزعا حين أتلمّس مكان البلل في بنطلون النّوم وفي جزء كبير من الفراش وأسارع بتغيير ملابسي وأرمي بالأخرى المبلّلة تحت السّرير حتّى لا تتفطّن أمّي إليها.
أشعلت سيجارتي الثّامنة لهذا المساء وأنا أختار مكانا قصيّا عن الآخرين وأسرح مع كلّ الأفكار السّوداء الّتي تشغل بالي.
البارحة كعادتها منذ مدّة ليست بالقصيرة، نفرت زوجتي منّي حين شعرت بأنّني أشتهيها الحقيقة أنا لم أعد أحبّها كما كنت سابقا مغرما بها غير أنّني لا أستطيع مقاومة رغبة جامحة في اعتلائها كلّما لامس جسدها العاري جسدي.
كنت تائها خلف أفكاري العقيمة حين لكزني أحدهم بكتفه لكزة قويّة وهو يترنّح في مشيته فسقطت سيجارتي أرضا. التفتّ إلى الرّجل في غير مبالاة فراح يترجّاني بأن أغفر له وانتهى به الأمر في النّهاية إلى أن يطبع قبلة على جبيني طالبا الصّفح وعبثا حاولت التّنصّل من بين يديه وقد غمرتني رائحة الخمر في أنفاسه المتلاحقة.
أمسكني من ذراعي وراح يدندن بموّال يبدو حزينا لم أع منه إلّا بعض كلمات متقطّعة. حين ابتسمت له على مضض، عاجلني بقبلة أخرى على جبيني وأسرع في مشيته المترنّحة.
لعنت اللّيل والسّكارى وانتهى بي الأمر بأن ألعن زوجتي.
وجدت نفسي أخيرا داخل حانة صغيرة بأحد الأحياء القديمة أطلب جعّة من النّادل.
لم أطل المقام بالمكان، شربت على عجل وغادرت المكان الّذي بدا لي بائسا وكلّ الّذين يرتادونه بدوا لي أكثر بؤسا.
منذ سنين طويلة لم أرتد الحانات ولم أسكر. أذكر أوّل مرّة ثملت فيها وآخر مرّة.
المرّة الأولى حين كنت شابّا في الثّمانية عشر من عمري ولجت البيت صدفة فوجدت والدي ينهال ضربا على أمّي وهي تصيـــــح وتستغيث لا أعرف كيف انقضضت عليه وانتشلتها بقوّة من بين براثنه. لم أعد أراه أبي... كنت أراه وحشا كاسرا سيفتك بأمّي. لا أعرف أيّ شيطان جعلني أهمّ بتعنيف والدي في تلك اللّيلة. نظر إليّ مندهشا وغادر إلى الخارج بعد أن بصق على وجهي ولعنني بقيت ساهما طوال اللّيل بعد أن قضيت ساعات مع أمّي أربّت على كتفها كمن يحنو على طفلة حتّى غلبها النّعاس فنامت بعد أن بكت طويلا.
حين سمعت قفل الباب ينفتح أسرعت إلى والدي لأعتذر له وأحدّثه كما يتحدّث رجل إلى رجل.
غير أنّ والدي لم يشأ أن يسمعني واكتفى بأن نظر إليّ مليّا وقال: انصرف الآن من أمامي.
خرجت في تلك السّاعة المتأخّرة ولم أعد إلّا عند الفجــــر بعد أن قضّيت اللّيلة في الحانة المجاورة، نفـــس الحانة التي عاد منها والدي منـــــذ قليــــل.
أمّا المرّة الأخيرة فكانت يوم زفافي فقد نصحني الرّفاق بذلك قالوا لي بأنّ اللّيلة ليلتي وعليّ أن أكون رجلا ولا شيء يجعل الرّجل واثقا من نفسه غير الخمرة التي تجعل من الرّجل أيّا كانت نسبة فحولته؛ أسدا في عرينه.
نظرت الى السّاعة فوجدت الوقت متأخّرا وعوض أن أسرع في العودة إلى البيت، وجدت نفسي أنحرف يمينا وأدخل أزقّة ضيّقة قادتني في النّهاية إلى مكان ناء كانت تقف أمام بابه امرأة متبرّجة تلوك علكة وتغمز بعينيها وتومئ اليّ بأن أقترب.
ووجدتني في دهشة منّي أقترب ...
تأبّطت الغريبة ذراعي وولجت بي داخل المكان متباهية.
كان الرّجل المخمور الّذي لكزني بذراعه ثمّ قبّلني على جبيني يترنّح بين غانيّتين ويسرف في الشّرب مدندنا بنفس الموّال الحزين.
أناء الفجر كنت في طريقي إلى البيت أحمل معي آهة مختلفة سكبتها غانية الماخور بعذوبة في أذنيّ ارتجّ لها كلّ جسدي.
تذكّرت لياليّ الباردة مع زوجتي الّتي ما انفكّت تزداد نفورا منّي حتّى كدت أفقد ثقتي بنفسي.
اللّيلة أستعدت كلّ حيويّتي وها أنا أعيش نشوة صاخبة مع امرأة غريبة لكنّها مليئة بالحياة الّتي أنشدها.
تفقّدت هاتفي النّقّال الّذي كان مغلقا. وجدت اتّصالات كثيرة من قبل زوجتي.
لا أعرف لماذا وجدت نفسي أسرع في خطاي وأنا أجوب طريق العودة إليها. خطاي المستعجلة ترهقني فلم أكن أمشيها رغبة في الوصول بل تحسّبا لما يمكن أن يحدث.
تمنّيت لو بدا الطّريق أكثر طولا حتّى أعيش مع خيالي صخب اللّحظة مع تلك الغانية المتبرّجة الّتي مازالت رائحتها تلفحني من كلّ جانب.
لم أشعر بالنّدم ولم يتراء لي أنّني خائن.
كان صوت بداخلي، لا أعرف ما إذا كان صوت نفسي الأمّارة بالسّوء أم صوت الشّيطان يقنعني بأنّي لم أفعل شيئا لألوم نفسي عليه عدا أنني أستردّ حقّي المسلوب.
حين أدرت المفتاح في قفل الباب ودخلت، كانت زوجتي مستلقية على فراشها وكانت حماتي تتحدّث مع الطّبيب الّذي يهمّ بالمغادرة . بقيت متسمّرا في مكاني لا أنبس بكلمة.
اقتربت من زوجتي وسألتها في وجل عمّا أصابها فنظرت إليّ بعينين وهنتين لا تقويان عن التّعبير عن حالة الفوران بداخلها فيما بادرتني حماتي بالسّؤال عن سبب غيابي حتّى هذه السّاعة المتأخّرة من اللّيل و عن هاتفي المغلق وعن الاتّصالات الكثيرة الّتي ذهبت أدراج الرّيح.
أعلمتني في فورة غضبها بأنّ زوجتي داهمها دوار شديد وكاد يغمى عليها ولأنّها لم تتمكّن من الاتّصال بي فقد اتّصلت بأمّها الّتي جاءت برفقة الطّبيب.
أعلمتني في النّهاية بعد وابل من اللّوم والعتاب بأنّ زوجتي حامل وبأنّ الطّبيب أمرها بملازمة الرّاحة التّامّة حفاظا على الجنين.
لا أعرف أيّ إحساس انتابني في تلك اللّحظة وأنا أستمع إلى لغط حماتي وأتأمّل زوجتي المسترخاة في وهن على فراشها. اكتفيت بأن صوّبت في دهشة عينيّ إلى بطن زوجتي دون أن أقول شيئا، لا أعرف حينها كيف تراءى وجه الغانية أمام ناظريّ، وفي اللحظة ذاتها تهيّأ لي أنّ ابني يقفز من بين أحشاء زوجتي وينقض عليّ كوحش كاسر..
ز.ظ.
- اكتب تعليق
- تعليق