مختار اللواتي : ألم يبق أمام الأنظمة العربية إلا خيار التطبيع؟
بقلم مختار اللواتي - بين صمتٍ وصراخ، صمت الانظمة العربية الفاضح وصراخ بعض الأنظمة الإسلامية المنافق، تركيا مثالا، ممزوجيْن بسخط المواطنين والمنظمات الجماهيرية في الجهتين، مَرَّ خبرُ الإتفاق الإماراتي الإسرائيلي بإقامة علاقات ديبلوماسية كاملة بينهما !!
في الخليج، وإن كان الصمت الرسمي هو الغالب، فقد تلقت وسائل إعلام رسمية الخبر باحتفاء ظاهر، سواء كان في المملكة العربية السعودية، أو في البحرين وفي عُمان، إلى جانب مسؤولي دولة الإمارات وإعلامها بالطبع. كما نُسبت لمسؤولين بحرينيين تصريحات مشيدة بالإتفاق. وتحدثت أجهزة إعلامية أمريكية، مستندة إلى مصادر، منها الإستخياراتي وفيها الديبلوماسي، عن قرب التحاق البحرين وعُمان، وحتى المغرب مثلما نُقِل عن الواشنطن بوسط، بركب الحجاج إلى بيت المقدس ، ليس للصلاة الموعودة، وإنما لتدشين عهد جديد من التعاون مع مغتصبيها تَطلَّب سنوات طويلة من الإعداد في السر بدأ يخرج إلى العلن منذ بعض الوقت. ولعل زيارة وزيرة الرياضة في الحكومة الإسرائيلية السابقة، ميري ريغيف، إلى العاصمة الإماراتية في أواخر شهر أكتوبر من العام 2018، إحدى مظاهر الخروج التدريجي إلى العلن !. وقد حضرت الوزيرة في تلك الزيارة دورة دولية في رياضة المصارعة حيث هللت فرحا لفوز لاعب إسرائيلي بميدالية ذهبية ولعزف النشيد الإسرائيلي تكريما لفوزه. وفي ذات السياق والتوقيت (أواخر أكتوبر 2018) تنزّلت الزيارة، التي اعتُبِرت يومها مفاجئة، وأداها بنيامين نتنياهو رئيس حكومة تل أبيب، إلى مسقط والتقى خلالها السلطان العُماني الراحل قابوس بن سعيد الذي أقام مأدبة غداء لضيفه الذي كان مصحوبا! بزوجته ! وقد صرح ناتنياهو بعد الزيارة أنها كانت "مفيدة وتضمنت محادثات مهمة للغاية وأنه ستعقبها زيارات أخرى ". غير إن وفاة السلطان قابوس في العاشر من جانفي من العام 2020، أي قبل تسعة عشر يوما من إعلان الرئيس الأمريكي ترمب ما أسماه صفقة القرن، قد تكون حولت قاعدة التحرك إلى مكان آخر.
الأكيد أن خطوة بهذا الحجم، ونعني توقيع اتفاق إقامة علاقات ديبلوماسية رسمية كاملة مع إسرائيل، لم تأتها أبو ظبي من دون تنسيق تام مع الرياض، قائدة مجلس التعاون الخليجي، وعَرَّاب سياساته، أو على الأقل الجزء الأكبر من أعضائه بسبب الخلاف الداخلي بشأن خطر التمدد الإخواني، ومع القاهرة وعَمّان اللتين تربطهما علاقات ديبلوماسية كاملة مع تل أبيب. الأولى منذ العام 1979، والثانية منذ العام 1994.
ولكن مالباعث على المجازفة بالخروج إلى العلن الآن والإقدام على توقيع اتفاق بإقامة علاقات ديلوماسية رسمية مع إسرائيل التي مازالت تعتبرهاالجماهير الشعبية العربية وغير العربية الكثيرة في أرجاء مختلفة من العالم، مع عدد متزايد من الدول المناصرة لقضايا التحرر العادلة، كيانا صهيونيا إستعماريا غاصبا لأرض فلسطين ومشرِّدا لغالبية مالكيها الشرعيين؟. هل هو الإجتهاد لتحريك عملية السلام من قرب وخدمة القضية الفلسطينية ب"الديبلوماسية الذكية" حيث فشلت كل الطرق الأخرى؟؟ أم إن كل شيء قد تم بحساب وترتيب مُسبُقيْن بدافعٍ ومن أجل غايةٍ، مختلفيْن تماما؟
الرئيس الأمريكي ترمب كان صرح يوم إعلانه ومباركته لحدث توقيع الإتفاق الذي يوثق الإعتراف الرسمي لدولة الإمارات بإسرائيل وإفامة علاقات ديبلوماسية كاملة معها، في الثالث عشر من أوت الحالي، بأن هذا الإتفاق جزء مهم في صفقة القرن وفي ما تتضمنه من "استراتيجية كبرى" لكامل المنطقة كان هندسها وأطلقها في مطلع هذا العام بالإشتراك مع بنيامين نتنياهو شخصيا. وقد كانت نقطتها الأبرز والأفضح، الإعتراف بالقدس عاصمة موحدة لدولة إسرائيل. ومما قال ترمب حينذاك "إن هذه الصفقة ستساعد في تحقيق السلام في المنطقة، وبأن دولا عربية ستنضم إلى هذا الحل. كما سيقبل به الفلسطينيون في النهاية، لأنه فرصتهم الأخيرة". هكذا !!. ويرى الملاحظون أن الدول التي شاركت في ورشة العمل التي احتضنتها المنامة في شهر جوان الماضي وعرضت خلالها واشنطن الجانب، أو بالأصح الإغراء، الاقتصادي في صفقة القرن، هي التي كان يقصدها ترمب في إشارته إلى دول من المنطقة ستكون داعمة لصفقته. وما الدول التي شاركت في تلك الورشة إلا السعودية ومصر والإمارات والأردن وقطر والمغرب والبحرين الدولة المضيفة.
دعونا من تصاريح المسؤولين الإماراتيين والإسرائيليين والأمريكيين ومن لف لفهم، تلك المُعَدِّدة لمنافعَ وهميةٍ ومضلِّلة من عملية التطبيع هذه، من نوع إبطال القرار الإسرائيلي بضم نحو 40 بالمائة من الضفة الغربية، والذي اتضح أن الاتفاق تحدث فقط عن تعليق القرار. ليس إلا ! ولنحاول رفع الغطاء عن ما يغلي به مِرْجَلُ منطقة الشرق الأوسط ككل منذ مدة وقد قارب على الشِّياط، إن لم يكن قد بلغه في الآونة الأخيرة !
لقد دلت الصراعات السياسية المحتدمة في بلدنا منذ العام 2011 أنها متمحورة أساسا حول طبيعة نمط المجتمع، أيكون سلفيا أم حداثيا ؟ وحول هوية الدولة تبعا لذلك، أتكون دينية أم مدنية ؟. وليس حول أي منوال للتنمية يحقق تقدم الشعب ورفاهيته ويُحل العدل والإنصاف بين بناته وأبنائه. وقد كان الجمعان الرئيسيان المتصارعان حول هذه المفاهيم والغايات، يستندان، كل من ناحيته، إلى داعم ونصير خارجي لم يعودا مخفيين. على الأقل من خلال التراشق بالتهم بين الطرفين بالولاء، إما لدولتي قطر وتركيا بالنسبة لحركة النهضة ومشتقاتها. أو لدولتي الإمارات والسعودية بالنسبة للجبهة الحداثية بتلويناتها المختلفة، وفي مقدمتها الحزب الدستوري الحر، سواء صحت هذه الإتهامات أم سقطت.
اللافتُ أن هذه الدول الداعمة جميعَها تحمل سمات مشتركة لنظام أوتوقراطي مركزي السلطة برغم البرقش التركي الحداثي الظاهر من بقايا مدنية الدولة التي مازال نظام حزب العدالة والتنمية الإخواني الحاكم في تركيا منذ العام 2002، يحيك الخطة تلو الأخرى لتقويضها وهدم أركانها دون جدوى امام يقظة المجتمع المدني وصلابة أعمدة مؤسسات الدولة لحد الآن على الأقل.
هذه الصراعات السياسية في بلدنا، لها ذات الركائز في بقية البلدان العربية غير الخليجية. سوى إنها قد انزلقت سريعا هناك إلى اقتتال دموي كارثي تقف وراءه ذات الجهات متقاسمة الأدوار بتخطيط وإشراف كبار العالم. وما كبار العالم غير أمريكا وإسرائيل ومن ورائهما تركيا من جهة وروسيا وبدرجة أقل الصين ومن ورائهما إيران من الجهة المقابلة؟ غير إن الكبار هؤلاء لايهمهم أن يكون الحاكم ديكتاتورا، إماما، جنرالا، أو رئيسا منتخبا. تلك بالنسبة إليهم لا تتعدى كونها أدوات إلهاء وإذكاء لنيران الصراع أمام مصالحهم . وهو الأهم الذي هوعندهم ماتزخر به أراضي ومياه المنطقة العربية من ثروات نفطية وغازية وبقية عائلة المعادن الثمينة، وكيف يؤول أمرها للأقوى من بينهم. وعند الضرورة لتقاسمها فيما بينهم بحسب مناطق نفوذهم وسيطرتهم عليها. لا أكثر ولا أقل. ومادامت الأنظمة القائمة في المنطقة مهما كانت طبيعتها، هي تابعة لتلك الدول العظمى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، فلا غرابة في أن تنصاع لمشيئتها وتنخرط في استراتيجيتها التي تحدث عنها الرئيس الأمريكي ترمب، وقبله سلفه الرئيس أوباما وقبلهما الرئيس جورج والكر بوش. إنها الإستراتيجية الأمريكية التي تقوم عليها دولتهم والتي يمتد منظورها على عشرات السنين. ولا يختلف عليها الرؤساء المتعاقبون إلا في الشكل او في التفاصيل البسيطة ! ومادام الأمر كذلك فلا بد أن يكون لإسرائيل ربيبة الدولة الأمريكية والمؤمَّنة على مصالحها في المنطقة، نصيب الأسد فيها.
ومن أركان وأهداف هذه الإستراتيجية أن تدخل الدول العربية بفضل أنظمتها المختلفة، إخوانية أو حداثية، إلى بيت الطاعة الإسرائيلي، طال الزمان أم قصُر. ولابد لذلك من ترتيبات وإعدادات.
فالحرب التي تشنها السعودية ضمن تحالف من دول المنطقة على اليمن منذ أكثر من خمس سنوات على أساس وقف خطر التسرب الإيراني في المنطقة وتهديده لسيادة السعودية وأمنها، لم تحقق النتيجة المرتجاة بل كلفت السعودية والقوات الحليفة لها خسائر فادحة، زيادة على ما لحق الشعب اليمني من جراء ويلاتها من أضرار كارثية. الأمر الذي فاقم من ويلات الإبتزاز الأمريكي للسعودية خلفت آثارا فظيعة على اقتصادها ومدخراتها، وخاصة مع الهبوط المدوي في سعر البترول.
كما إن الدعم المالي واللوجستي والإعلامي الذي أغدقته دولتا قطر والإمارات، كل من ناحيته على الجهة التي تدعمانها لم يحقق مبتغاه. حتى نزلت تركيا بكامل ثقلها في الميدان، في سوريا أولا بإدارة الشأن الداعشي تسريبا عبر أراضيها وتعاملا تجاريا مربحا للطرفين، قوامه البترول العراقي المنهوب. ثم في ليبيا الان، بتهريب الدواعش إليها وإذكاء الإقتتال بين الأشقاء بتوفير الدعم العسكري البشري واللوجستي للقوات السلفية المناصرة للحكومة المسماة بالشرعية برغم مجاوزتها للمدة المتفق عليها في السخيرات كي تسلم العهدة لحكومة جديدة منتخبة. وهي ذات الحكومة التي تحظى بالدعم العلني والسري من حركة النهضة الماسكة بزمام الحكم في تونس تحت غطاء التوافق أو الوحدة الوطنية وما إليها من مسميات حتى لا تتحمل مسؤولية ما لحق البلاد في عهدها من خراب على كل الأصعدة.
وفي الجانب المقابل كانت تقف دولة الإمارات تلم هي الأخرى خسائرها وتتأهب للأفدح، الخطر الإيراني الذي تراه يختفي مرة ويعود منذرا بالويلات مرات، كما تتصوره أو كما تصوره لها السعودية حقا أو باطلا، سيّان. فمن سيحميها ومن سيحمي باقي دول الخليج بما فيها قطر إذا هي خرجت في النهاية عن طوع أمريكا؟؟
لا فكاك إذن لجميعهم من اللجوء إلى المظلة الأقرب تحميهم. ولن تكون في نظرهم سوى إسرائيل. مفتاح أمنهم وأمانهم. فهي الديناصور الذي يزداد عُتوّاً مع الأيام ولم يقدر على كبح جماحه أحد في ظل انقسام الصف الفلسطيني واشتعال نيران اقتتال الأشقاء في مختلف الدول العربية. ولعل معارضة حركة النهضة طيلة فترة سيطرتها على مؤسسات الدولة، وفي طليعتها، مجلس النواب، لكل مبادرة تشريعية لتجريم التطبيع مع إسرائيل يتضح الان مبعثها وهدفها في نفس الوقت !وحتى رئيس الدولة الذي صدع بصوته الجهوري في مناظرة حملته "التفسيرية" للإنتخابات الرئاسية بأن " التطبيع خيانة عظمى" دوخته المفاجأة ولزم الصمت.
وهكذا وفي ظل هذا المناخ بادرت دولة الإمارات، حاملة لواء الحداثة والحرية الشخصية غير السياسية، والمناهضة للمد الإخواني السلفي، بالإرتماء في حضن إسرائيل وإبرام معاهدة سلام تحميها علاقات ديبلوماسية كاملة معها، على أن يلحق باقي السرب بها في قادم الأوقات غير البعيدة. ويستوي في ذلك رافعو راية السلفية مع رافعي يافطة الحداثة، فيما الجماهير الشعبية ومنظماتها المجتمعية ، إما مكتفية بالتعبير عن سخطها واحتجاجها، تعوزها الإستراتيجية العلمية الدقيقة والقيادة الناضجة الحكيمة، أو منصرفة إلى تدبّر أمر معيشتها اليومية الذي بات في حكم الكابوس الذي يقض المضاجع !
وأخيرا، وفي الوضع الاقتصادي والإجتماعي المتردي في بلادنا، وأمام العدد الكبير من التونسيين والتونسيات المشتغلين في دولة الإمارات، هل تقدر الدولة التونسية أن تدخل مغامرة التنديد بما قامت به أبو ظبي؟؟ أم إنه قد سبق السيف العذل الآن كما يقال، وانتهي عهد الأحلام العذاب على قرع نواقيس الفواجع المتلاحقة؟؟
مختار اللواتي
- اكتب تعليق
- تعليق