أخبار - 2020.08.19

رشيد خشانة: عِبـــرٌ وبيان من مآسي لبنـــان

رشيد خشانة: عِبـــرٌ وبيان من مآسي لبنـــان

تُنذر الاحتجاجات المتصاعدة في لبنان باحتمال تقويض النّظام السّياسي الطائفي برُمّته واعتبار البلد دولة فاشلة. وكانت الضّربة الأليمة التي تلقّتها بيروت، والتي لم يسلم منها أيّ من سكانها تقريبا، أعنف مأساة عرفها لبنان بعد سلسلة من الفواجع بدأت بالحرب الأهلية (1975 - 1990)، ثمّ الاجتياح الاسرائيلي (1982) الذي أتاح لجيش الاحتلال محاصرة عاصمة عربية لأكثر من ثلاثة أشهر، من أجل فرض إخراج القيادة الفلسطينية من لبنان، ثم الحروب التي شنّتها إسرائيل على حزب الله في 1993 و2006 و2019. وبعد كلّ هذه المآسي، أصيب لبنان بضربة موجعة جدّا، في أعقاب الانفجارين الهائلين في مرفإ بيروت، اللذين لا يمكن أن يصدق عاقل أنّهما غير مُدبّرين. لم ينتظر اللبنانيون "التّفجير العظيم" ليخرجوا إلى الشوارع بداية من يوم 17 أكتوبر 2019 في تظاهرات شعبية غير مسبوقة للمطالبة بإسقاط المنظومة التي أرست أسسها فرنسا منذ سنة 1943، ورسّختها اتّفاقية الطائف، أو ما يُعرف بـ"وثيقة الوفاق الوطني اللبناني" في سبتمبر 1989.

من هنا ركّزت انتفاضة الخريف الماضي على رفض استمرار المحاصصة الطّائفية، التي أعطيت بموجبها رئاسة الجمهورية للموارنة ورئاسة البرلمان للشّيعة ورئاسة الحكومة للسُنّة. وطالب اللبنانيون في مسيرات واعتصامات حاشدة، عبر الشوارع وعلى مدى أسابيع طويلة، بدولة مدنية لاطائفية وبملاحقة المسؤولين الحكوميين الذين تُنسب إليهم قضايا فساد أنهكت الاقتصاد وأفلست خزائن الدولة. وكان لافتا أنّ تلك المسيرات عابرة للطوائف، إذ خلع المتظاهرون القميص الطائفي، وتصرّفوا كمواطنين اليد في اليد.

واليوم تعود هذه الروح من جديد للمطالبة برحيل حكم العائلات التي احتكرت المناصب والثروات منذ الاستقلال مثل عائلات جنبلاط وسلام والحريري وشمعون والجميل وكرامي وغيرها. أكثر من ذلك، امتلك أولئك المتنفذون وسائل إعلام تلمّع صورتهم وتتكلّم باسم طوائفهم. ولعب ذلك الإعلام الطائفي دورا سلبيا في تبلور ما بات يُعرف بـ"لبننة الإعلام"، الذي لم يلبث أن زحف على بلدان عربية أخرى، من بينها تونس. ويدلّ انتشار الاحتجاجات اليومية ومحاولات الاعتصام في مراكز السلطة مثل وزارة الخارجية والمغتربين، على ضخامة المشكلات البنيوية السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتراكمة، والتي حملت اللبنانيين، في نهاية المطاف، على تجاوز كلّ الخطوط الحمر والدخول في معارك يومية مع قوات الجيش والأمن.

ومن الصّعب أن تهدأ هذه الانتفاضة الجديدة ما لم تُتّخذ إجراءات عمليّة لمواجهة أوضاع العائلات المشرّدة ودعم المنكوبين الذين فقدوا بيوتهم وأقرباءهم ومدخّراتهم. لكن من سيُحقّق هذه المطالب ونصف الحكومة مستقيل، ممّا يدلّ على تضعضع الطبقة الحاكمة وانسحابها من المجال السياسي. وأتاحت تلك الاستقالة الحكوميّة لفرنسا أن تدخل على الخطّ من خلال زيارة رئيسها ماكرون إلى بيروت بعد يومين فقط من الانفجارين، حيث وزّع مشاعر الحب والتضامن على المواطنين في تجاهل كامل للدّولة اللبنانية ورموزها. وقد يكون الفرنسيون رأوا في هذه المحنة الصعبة التي يمرّ بها لبنان فرصة لاستعادة نفوذهم الذي فقدوه في السنوات الأخيرة، في ظلّ تزايد الحضور الإيراني عبر حزب الله والحضور الأمريكي الأقلّ استعراضا، عبر علاقات متينة مع الموارنة والسنّة. لكن فرنسا، مع ضخامة المشاكل الداخلية التي تُكبّلها، لن تكون قادرة على الاستجابة للحاجات اللبنانية الحيويّة، وخاصّة إعادة الثّقة للّيرة وإطلاق عمليات إعادة إعمار واسعة.

والأرجح أنّ باريس ستحاول تجميع الاعتمادات من الأخرين من خلال دعوتها إلى مؤتمر دولي في باريس، تبدو حظوظ انعقاده ضئيلة، خاصة أنّ بلدانا أخرى منافسة مثل تركيا والإمارات وقطر، تسعى إلى تزعّم هذه العمليّة. وسيكون العنصر المحدّد في التطورات الآتية هو موقف الشارع الذي يُصرّ على محاسبة الفاسدين وضرب الفساد من أجل جعل لبنان، فعلا لا قولا، "وطن نهائي لأبنائه كافة من دون تجزئة ولا تقسيم"...و"أن لا ﻓرز ﻟﻠﺷﻌب ﻋﻠﻰ أﺳﺎس أي اﻧﺗﻣﺎء طائفي" (اتّفاق الطائف).

مهما يكن من أمر، فإنّ في مآسي لبنان المتلاحقة وانخرام الأوضاع السّياسية والاقتصاديّة والاجتماعيّة فيه والتي أدّت إلى قيام ثورة في البلاد دروسا يتعيّن استخلاصها.

أوّلها أنّ النّظام السّياسي لمّا يكون مقاما على المحاصصة الطائفية والحزبية وعلى تغليب المصالح الشخصية والفئويّة على حساب مصلحة الوطن العليا يمكن أن يفضي إلى ضرب مفهوم الدّولة في الصّميم وتمزيق أوصالها وأن يتسبب في تجاذبات ومناكفات مستمرّة بين القوى الفاعلة في المشهد السياسي، في غياب الانسجام المطلوب والرؤية الموحّدة ممّا يكون له أسوء الأثر في أداء الحكومات واستقرارها، وبالتالي تُفتح ثغرات واسعة أمام التيّارات واللّوبيّات التي تروم تفتيت الدّولة وإضعافها.  

ومن أهمّ الدروس المستخلصة أيضا أنّ الإهمال والتسيّب وانعدام الصرامة في إدارة مصالح البلاد الحيوية مجلبة للمصائب والكوارث، كما  أنّ الاستقواء بالخارج، أيّا كانت مبرراته، يؤدّي بالضرورة إلى تقويض السيادة الوطنية واستباحة البلاد التي تصبح لقمة صائغة أمام أصحاب المطامع والباحثين عن موطئ قدم في السّاحة الدّاخلية.

وغنيّ عن البيان أنّ  انتشار الفساد بلا حسيب أو رقيب من المؤسّسات المعنية، وخاصة البرلمان، يُنهك الاقتصاد الوطني ويفسد الأخلاق ويفجّر ردود فعل شعبية يصعب السيطرة عليها، وأنّ الإعلام الذي لا يراعي حدودا وطنية ولا قيودا مهنيّة، ينتهي مؤجّجا للصراع لا مُطفئا له، وتابعا لمصادر تمويل مشبوهة من الدّاخل والخارج، لا إعلاما حرًّا نزيها يوحّد ولا يفرّق. وفوق ذلك، يبقى الدّرس الأهمّ هو أنّ الإنصات إلى الشّارع والتّفاعل مع نبضه، من أجل الإصلاح والتّقويم الدائميْن، يمكن أن يُجنّبا أي بلد صدمات الصّراع السّياسي والاجتماعي التي تُدمّر ولا تبني.

رشيد خشانة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.