أخبار - 2020.08.16

ورقــات من كتاب المســـالك الـــزائفـة لمحمّـد الهـادي الزعـيّــم

ورقــــــــات من كتاب المســـالك الـــزائفـة لمحمّـد الهـادي الزعـيّــم

النموذج التنموي المهيمن

كلّما تفاقمت الصعوبات الاقتصادية، واستفحلت الأزمة، يخرج علينا أغلبية الملاحظين والمختصّين في الشـــأن الاقتصــــادي بالدعــــوة إلى ضرورة «اعتماد نموذج تنموي جديـــــد». وتختلف مقترحـــاتهـم –إن كانت- حسـب التوجّهات الســــياسية والفكــــرية لأصحــــابها.

وإنَّ الدعوة، في تونس، إلى ضرورة اعتماد «نموذج تنموي جديد» ليست بظاهرة جديدة، وليست نتاجا للثورة، بل إنّها مطروحة منذ سنوات، وحتّى عقـــــود؛ غير أنّها أصبحـــــت مطروحة بأكثر حدّة منذ التغيير الكبير الذي عرفته هيكلة البطالة، والذي تمثّل في تفاقم بطالة خرّيجي التعليم العالي؛ حيث تطوّرت نسبة البطالة لحاملي شهادة تعليم عال من 3.8 بالمـــــائة سنة 1994 إلى 14.8 سنة 2005 وتجاوزت لأوّل مرّة معدّل البطالة العام، إلى أن بلغت 28.8 بالمائة سنة 2018.

وقد حمل هذا الوضع المزري المختصّين على الإقرار بأنّ نموذج التنمية السائد لم يعد قادرا على استيعاب طالبي الشغل من حاملي الشهادات، زيادة على كونه لم يكن قادرا على الاستجابة لحاجيات سوق الشغل بصفة عامّة، بما أنّ نسبة البطالة العامة بقيت مرتفعة منذ عقود. ولن نتوسّع في جوانب أخرى هامّة جدّا من الخصوصيات الهيكلية للبطالة، والمتمثّلة في التفاوت الكبير بين الجهات من جهة، وبين الإناث والذكور، من جهة أخرى، واقتصارنا هنا على بطالة أصحاب الشهادات ليس إلاّ لعلاقتها بما نسمّيه «النموذج التنموي المهيمن».

يمكن تلخيص «النموذج التنموي المهيمن» في جملة متداولة واحدة: «يجب أن ننتقل من نموذج تنموي قائم على اليد العاملة غير الماهرة وذات كلفة منخفضة، إلى نموذج جديد يعتمد على المعرفة والقيمة المضافة العالية». أو: «إنّ مستقبلنا يَكْمَنُ في اقتصاد المعرفة» أو «اقتصاد الذكاء»، في صيغة أخرى. وهذه الفكرة مهيمنة لعدة اعتبارات.

لنفهم أوَّلا

مقولة «نموذج تنموي قائم على اليد العاملة غير الماهرة وذات كلفة منخفضة» تشير ضمنيا إلى الصناعات المصدّرة مثل صناعات النسيج والجلود والأحذية وحتّى بعض الصناعات الميكانيكية والكهربائية المتمثّلة في التركيب، والتي تُشغِّل أساسا يدا عاملة غير مؤهّلة ولا تستوجب إلاّ تكوينا بسيطا وتتمتّع بأجور منخفضة تشكّل أساس مزايانا التفاضلية مقارنة ببلدان أخرى. أمّا كلمة «نموذج يعتمد على المعرفة والقيمة المضافة العالية» فهي تشير إلى النشاطات الصناعية التي تستوجب تشغيل يد عاملة ماهرة ومكوّنة من صنف المهندسين والإطارات التقنية الوسيطة، ويأتي في ذهن الداعين إلى ذلك في مقدّمتها، قطاع تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات.

وقد أصبحت هذه الفكرة متداولة لدى السَّواد الأعظم من المختصّين، إلى أن أصبحت من المسلّمات التي تكتسي من البداهة ما يوفّر لها شبه إجماع. ووراء هذه البداهة تكمن -كما بينّا سابقا- إشكالية بطالة حاملي الشهادات، وهي الأكثر إحراجا. هذا من جانب. أمّا الجانب الآخر، فيتمثّل في أنّها إعادة إخراج لمعتقدات قديمة راسخة في مخيّلتنا، ومن عاش الفترة البورقيبية يتذكّر كلمة «المادة الشَّخْمة» التي كان يردّدها الرئيس الراحل في كثير من خطبه تعبيرا عن أنّ مصدر الثروة الوحيد لبلد مثل تونس يكمن في «رأس مالها البشري»، وهو في ذلك «سابق لعصره»، لأنّ هذا المعتقد سيصبح أحد أبرز التوجّهات التي ستكون رأس الحربة للمروّجين لفكرة الدور المركزي في التنمية، لما يسمّى بالرأس المال البشري -وفي مقدّمتها، نظريات التنمية الاقتصادية والمؤسّسات المالية والاقتصادية الدولية. وهذا هو المرتكز الثالث لصبغة البداهة المتصلة بالفكرة.

وتُتَرجَمُ صفة البداهة للمعتقد بأنّ «خلاصنا يكمن في اقتصاد المعرفة»، في الانبهار الذي يعيشه الكثير من المهتمّين بشؤون التنمية أمام التطوّر المذهل الذي عرفته التكنولوجيا في العشريات الأخيرة وخاصّة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. وهذا الانبهار يبدو طبيعيا، إذا استرجعنا ما بينّاه سابقا من أنّ المفاتيح التي تحدّد إمكانية الهيمنة الاقتصادية اليوم، مرتبطة ارتباطا كليّا بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وبالانترنت بالخصوص. وقد قلنا إنّ هذا الانبهار ليس إلاّ إعادة إخراج لمعتقدات قديمة راسخة في مخيّلتنا، من ذلك أنّه لا يختلف عن انبهارنا بالتحوّلات التكنولوجية التي عرفها العالم خلال الثورة الصناعية.

لقد أصبح مفهوم «اقتصاد المعرفة» يشـــابه في خطاب مروّجيه ضربا من السحر الخالص. ولكي نبيّن ذلك دعنا نستمع إلى كلام أحد المروّجين للفكرة، وهو يلاقي رواجا كبيرا على الوسائط الاجتماعية: «تصوّروا اقتصادا تكون فيه الموارد لا محدودة. تصوّروا اقتصادا حيث يمكن أن أمنحك شيئا ما بدون أن ينقص ذلك من مكاسبي. تصوّروا اقتصـــــادا يولد الإنسان فيه ومـعـــــه مقدرته الشرائية («معاه قسمو»، كما يقال في لغتنا). تصوّروا اقتصادا تكون فيه المقدرة الشرائية للعاطل عن العمل أكبر من تلك التي يمتلكها الأجير. تصوّروا اقتصادا يكون فيه مجموع 1و1 يساوي 3. وأخيرا، تصوّروا اقتصادا يمكن من أقصى مستوى من القدرة الشرائية. كلّ هذا هو اقتصاد المعرفة. إنّها ظاهرة ثورية تختلف عن الاقتصاد التقليدي كما كانت الفيزياء الكمية تختلف عن الفيزياء التقليدية. إنّنا ندخل عالما آخر له قواعد عالية الإرباك، وليس له أيّ مثيل في الاقتصاد الذي تعوّدنا عليه. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ المفارقة تكمن في أنّ اقتصاد المعرفة هو أقدم شكل لاقتصادٍ عرفته البشرية. إنّنا نعتبرها شيئا جديدا لأنّنا عندما نستحضر اقتصاد المعرفة يذهب بنا خيالنا إلى «وادي السيلكون» وإلى التكنولوجيا الحديثة وإلى البيوتكنولوجيا... بينما اقتصاد المعرفة يرجع بنا إلى «الأومو سابيانس» أو «الإنسان العاقل» أو «الإنسان العارف» بحيــــث نُعَرّف أنفســــــنا كفصيلة (أو نوع) تتبـــــادل المعارف. لقد تبـــــادل البشر المعارف قبل أن يتبادلوا الخيرات. والســـــؤال هو: من أين لاقتصاد المعرفة أن تكون له هذه الخاصية الجنونية، ومن أين يأتي اهتمامنا به؟ والجواب سهل: لأنّ المعرفة -مثل الغباء- لا حــــدود لهــــا. وهذا يغير كــــل شيء، لأنّ المواد الأولية محــــدودة والنفـــط محدود، والفحم محدود ولا يمكن أن نواصـــــل على نســـق التنمية لأنّ الأرض محدودة. ولا شيء يجبرنا على الاكتفاء بالأشياء المادية... النموّ في البلدان الغنية أكثره اليوم لا مادي...»

«محل الشاهد اقتصاد المعرفة جنّة وفيها بريكاجي»

شكّل هذا الفكر في نظرنا مثالا صارخا للسفسطة والمغالطة. إنّنا لم نعد نتعامل مع علماء، بل مع دعاة من نوع جديد. وللأسف أنّ هذا النوع قد عشّش اليوم في جامعاتنا وحكوماتنا. ألسنا منذ سنوات تحت حكم الدعاة.

وأكبر المغالطات تكمن في فكرة أنّ المعرفة والمنتوج اللامادي بصفة عامة يمكن أن يعَوِّض الخيرات المادية من طاقة ومواد غذائية وغيرها.

يجب أوّلا أن نُقرّ بما يلي:

التطـــوّر التكنـــولوجي هو تـــــاريخيا -وسيبقـــى- المحـــــرّك الأساسي لنموّ الإنتاجية وهو يوفّر بذلك إمكانيات كبيرة لتحـــســـين مستوى الرفاه المادي للبشرية. (لاحظوا أنّنا نتحدّث عن التطــــوّر التكنولوجي وليس عن المعــــرفة، وهذا شيء هامّ سنعود إليه لاحقا)؛

المنتوج اللامادي يمكن أن يوفّر للأفراد والدول مداخيل نقدية أكثر من تلك التي يوفّرها المنتوج المادي؛

التطوّر التكنولوجي هو تاريخيا، وسيبقى، الأداة الأولى للهيمنة الاقتصادية. وهذا ما بيّناه مطوّلا في الباب الأوّل من هذا الكتاب؛

أنّ الإنبهار الذي يعيشه الكثير أمام التطوّر التكنولوجي ليس جديدا وهو ليس إلا استنساخا للذي عرفه آباؤنا وأجدادنا أمام تطوّرات تكنولوجية كبيرة عايشوها مثل الكهرباء والجرّار الفلاحي والراديو والتلفزيون والهاتف. لقد أحـــــدثت تلك الاختراعات تغييرا في حياتنا وجلبت لنا الكثير من الرفاه وحرّرتنا من كثير من المعاناة الجسدية بما جعلها تصبح جزءا من واقعنا أحببنا أم كرهنا. والغلط كامن في الاعتقاد بأنّها ستكون لوح الخروج من تخلّفنا والقارب الذي سيخّلصنا منه. والأرجح أنّها كانت في كثير من الأحيان الأداة لتعميق الفجـــوة. والإقرار بذلك ليس دعوة إلى غلق الأبواب أمامها، وذلك من باب الخيال؛ بل إنّها دعوة للوعــــي بحقيقتها، وبأنّ تلك الحقيقة تخفي واقعا أكثر تعقيدا ومكرا. وعدم الوعي بتلك الحقائق يفتح الطريق واسعا وعريضا للاندفـــــاع في متــــاهــــات زائفة وحتّى خطرة.. (من الصفحة 87 إلى الصفحة 92)

محمّد الهادي زعيّم
المسالك الزائفة ، حتّى لا تكون الكورونا مجرّد فاصل
 منشورات نيرفانا

قراءة المزيد

كتاب المسـالك الزائـفة لمحمّد الهادي الزعـيّم يدحـض مقولات واهـية ويطـرح بدائل مجدّدة
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.