محمد النوري: هل ما زالت تونس قادرة على مواجهة الصعوبات؟

محمد النوري: هل ما زالت تونس قادرة على مواجهة الصعوبات؟

بقلم د. محمد النوري - سؤال أصبح مطروحا بقوة وبإلحاح ويتردد كثيرا في الاوساط السياسية والاقتصادية تعبيرا عن حجم المصاعب الراهنة التي تمر بها البلاد في ظل ما يشبه بحالة من انسداد الآفاق التي تنتظر الحكومة القادمة التي سيتم تشكيلها على ما يبدو دون مشاركة مباشرة من الأحزاب السياسية والتي ستكون حكومة "كفاءات" رغم انها ليست المرة الاولى التي تلجأ فيها البلاد الى حكومة الكفاءات أو كما يسمونها "التكنوقراط" دون ان تتمكن من تجاوز تلك المصاعب او التغلب على تلك التحديات.

تكاد تجمع معظم التقارير الدولية المتابعة للشأن التونسي وكذلك تقديرات الخبراء المحليين على أن ما تواجهه البلاد هذه المرة ليس مجرد صعوبات قابلة للتدارك وانما بلغت المخاوف هذه المرة درجة لا مثيل لها في تاريخ البلاد القريب والبعيد توشك على الاقتراب من حدوث الكارثة لا قدر الله أي الانتقال من مرحلة "حافة الإفلاس" الى مرحلة "الإفلاس الفعلي" على غرار ما حدث باليونان او لبنان وغيرهما.

لكن ماذا يعني أن تعلن دولة عن إفلاسها سوى أنها لم تعد قادرة على الوفاء بالتزاماتها وتسديد ديونها وصعوبة حصولها على تمويل من الأسواق والمؤسسات الدولية من جهة نتيجة استمرار التدهور في تصنيفها الائتماني وزعزعة ثقة الدائنين في اقتصاد الدولة وقناعتهم بأن الإصلاح والتصحيح الاقتصادي أمر غير ممكن تقريباً، بالإضافة الى اتساع الهوة بين الإنتاج والاستهلاك في اقتصادها أي تزايد نفقاتها مقابل اضمحلال مواردها من جهة اخرى؟ فهل بلغت تونس هذا المستوى من المخاطر؟

مخاطر حقيقية فعلا هذه المرة

في هذا الاتجاه تتواصل التقارير المحذرة من عدم الاستقرار الحكومي والمخاطر المهددة للوضع من جراء الشلل السياسي المتواصل في ظل تداعيات أزمة الكورونا من جهة وتعطل عجلة الإنتاج في القطاعات الحيوية كالنفط والفوسفاط وتفاقم الاحتقان الاجتماعي وتوسع الاحتجاجات الشبابية المطالبة بالتشغيل.

الخطر الحقيقي الاول يكمن في تضخم الفجوة المالية التي حصلت نتيجة تأثيرات الموجة الاولى من جائحة الكورونا والتي يقدر حجمها ب 13000 مليون دينار دون اعتبار تفاقم مديونيّة المؤسسات العموميّة التي تتجاوز حاليا 6000 مليون دينار دون أي أفق واضح لتحصيل هذا المبلغ الضخم الذي يناهز ثلث الميزانية، في ظل تراجع سلبي متواصل للترقيم السيادي للدولة وتوقف المؤسسات المالية عن مرافقة الوضع التونسي الذي يشهد ترديا مستمرا واستفحالا للازمة الاقتصادية والاجتماعية في انتظار تشكيل الحكومة الجديدة للمرة التاسعة بعد الثورة وعودة الاستقرار الحكومي وثبات المشهد السياسي.
في ظل الوضع الحالي المتأزّم يضاف إليه هذا التصنيف السلبي مع عدم وضوح الرؤية بخصوص برنامج جديد مع صندوق النقد الدولي مما يصعّب على تونس أي محاولات خروج إلى الأسواق المالية ويزيد من إحجام المستثمرين عن الاستثمار في تونس.

الخطر الحقيقي الثاني يتعلق بالتأثيرات المرتقبة للموجة الثانية من الكورونا على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي وفي مقدمة كل ذلك الانعكاسات المباشرة على الصعيد الصحي حيث من المتوقع ان تكون كلفة هذه الموجة الجديدة باهظة وستزيد الطين بلة كما يقال وستعمق الفجوة المالية مرة أخرى. فاذا كانت الموجة الاولى أدت الى شلل نصف الاقتصاد وعطلت الإنتاج وأوقفت التوريد والتصدير واثرت بشكل هام على الاستهلاك وأسفرت عن اغلاق ما لا يقل عن 10٪ من المؤسسات، فان المتوقع من الموجة الثانية أن تكون آثارها افدح واخطر خصوصا اذا ما استغرقت نفس المدة لان نسبة التعثر ستتضاعف وستمس المؤسسات التي نجت بصعوبة من الاغلاق.

الخطر الحقيقي الثالث يكمن في استفحال حالة الانكماش التي عليها الاقتصاد وارتكاس النمو. ففي اقل من شهرين تطورت التقديرات السلبية للانكماش (النمو السلبي) الذي دخلت فيه البلاد من قبل المؤسسات الدولية عبر تقارير كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي من 4٪ الى حدود 7٪ خلال العام الجاري وهو انكماش قياسي (بنسبة ارتفاع قياسية أيضا تقدر ب 75٪ في ظرف شهرين فقط) بالنسبة لدولة مثل تونس تعتمد على اقتصاد ريعي يرتهن على قطاعات هشة مثل قطاع السياحة أو قطاعات أحادية كقطاع النفط والفوسفاط والموارد الطبيعية  وهي بالتالي من أكثر الدول تأثرا بجائحة كورونا هذه الجائحة التي تطل موجتها الثانية برأسها على البلاد رغم نجاحها في تطويق موجتها الاولى قياسا بدول عديدة أخرى. ومن غير المستبعد ان يصل الانكماش الى معدل برقمين قياسا بما حصل خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة.

الخطر الحقيقي الرابع يتعلق بانسداد الافاق امام أكثر من مليون عاطل عن العمل حيث ارتفع معدل البطالة بعد جائحة الكورونا من 15٪ الى 21٪ بما يعادل 275000 عاطل جديد وقد يتضاعف هذا الرقم من جديد بعد الموجة الثانية من الجائحة التي ستظهر آثارها قبل نهاية العام الجاري وهو ما من شأنه ان يغذي من درجة الاحتقان الاجتماعي والتذمر الشعبي ويسهم في ارتفاع منسوب القلق والتشاؤم لدى عموم الناس.

الخطر الحقيقي الخامس يرتبط بتدهور مناخ الاعمال وتقهقر الاستثمار. فاستنادا الى دراسة استقصائية قام بها مؤخرا المعهد الوطني للإحصاء لتقييم تأثير جائحة الكورونا على مناخ الاعمال في القطاع الخاص بالتعاون مع مؤسسة التمويل الدولية مكنت من استجواب الشركات حول ظروف عملها خلال الجائحة والعوامل التي أثرت في نشاطها وتقييم التدابير التي تم إقرارها لمواجهة الأزمة وبرامج استمرارية الأعمال ونقاط أخرى حول قياس درجات التفاؤل والتشاؤم والتشغيل، عبرت نحو 54.3 % من المؤسسات عن مواجهة خطر الإغلاق وعدم وضوح الرؤية في ظل الظروف الحالية ويرتفع خطر الاغلاق لدى الشركات متناهية الصغر. وقد كانت الشركات المصدرة الاكثر تسجيلا لانخفاض مبيعاتها (93.3 مائة مقابل 88.8 % للشركات غير المصدرة). كما أن الآثار الاقتصادية للإغلاق الكامل أججت الاستياء الشعبي، وازداد عدد الاحتجاجات بنسبة 80 في المائة بين شهري ماي وجوان الاخيرين.

صعوبات غير معهودة تحتاج بالضرورة الى مسالك غير معهودة أيضا

رغم ان جائحة الكورونا وفرت فرصة للعديد من البلدان ذات الاوضاع الحرجة مثل تونس للتفكير في إعادة النظر بالطريقة التي تدار بها البلاد وعاملا محفزا للاعتماد اكثر على الذات وتعبئة الموارد الداخلية والتقليص من هدر الثروة وتفشي الفساد واجراء الإصلاحات الكبرى التي لا بد منها لمنع الانهيار، الا ان عودة الازمة من جديد الى المربع السياسي عبر تفاقم التجاذبات السياسية وتعاظم الاستقطاب التقليدي بين قوى الثورة المصرة على التغيير واستكمال مسار الانتقال الديمقراطي من جهة وانصار الثورة المضادة المصممة على اجهاض تلك التطلعات والعودة بالبلاد للوراء لما قبل 14 جانفي 2011 تساوقا مع مشروع إقليمي سافر يهدف الى تقويض كافة مخرجات ثورة الربيع العربي وقد نجح في ذلك في كل من مصر وسوريا واليمن وليبيا ولم تبق امامه سوى التجربة التونسية التي استعصت امامه وامام امتداداته في الداخل.

ومع كل ذلك ورغم قتامة الوضع واحتدام الازمة لا يزال هناك بصيص أمل في التغلب على هذه الصعوبات وامتلاك القدرة لتحقيق ذلك اذا توفرت الشروط الأساسية التي يمكن اختزالها في المسالك الثلاثة التالية:

المسلك الاول: الخروج من الازمة السياسية وبناء الجبهة الداخلية

لا يمكن التفكير في مخرج من دوامة الازمة الاقتصادية الخانقة قبل التوصل للخروج من الازمة السياسية التي يتابع اطوارها الجميع في الداخل والخارج والتي تحولت الى عقبة كأداء امام كل المشكلات الأخرى وهو ما يقتضي: أولا، إنهاء الصراع بين السلطات الثلاث ولا سيما بين الرئاستين: رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان عبر احترام الدستور والالتزام بالنظام السياسي الذي أفرزه ومنع تغول احداهما على الأخرى. وثانيا انهاء التجاذبات السياسية والمناكفات الحزبية داخل قبة البرلمان عبر تطبيق صارم للقانون واستخدام القوة العامة عند الحاجة. وثالثا دعم حكومة كفاءات وطنية مشروطة مهمتها الاولى والأخيرة استكمال مسار الانتقال الديمقراطي بتشكيل المحكمة الدستورية وتعديل النظام الانتخابي وتسيير دواليب الدولة في انتظار إنجاز انتخابات سابقة لأوانها في غضون عام على اقصى تقدير تتيح الفرصة للطرف او الأطراف الفائزة تنفيذ برنامج الإصلاحات المطلوبة لإنقاذ البلاد.

الى جانب ذلك مطلوب من كافة القوى الوطنية المخلصة الشروع في بناء جبهة وطنية واسعة تضم مختلف العائلات الفكرية والسياسية التي تقبل بالديمقراطية والاحتكام للصندوق لا تقصي أحدا الا من أبى تعكف هذه الجبهة على صياغة "المشترك" بين مكوناتها للوصول الى مشروع وطني جامع يضع البلاد على سكة النهوض والخروج من عنق الزجاجة والتصدي للصعوبات الحقيقية التي تهدد الجميع دون تصنيف او استثناء.

المسلك الثاني: اعلان حرب حقيقية على الفساد والتلاعب بالمال العام

ذلك أن الفساد بمختلف صوره واشكاله وأحجامه هو أصل المشكلة الاقتصادية وجوهرها والسبب الاول والأخير للازمة التي تعاني منها البلاد. وبالتالي فان علاج المشكلة لا بد ان يتجه الى علاج الجوهر. لا شك ان الفساد اصبح من الظواهر الأكثر تركيبا وتعقيدا ومرتبطا ارتباطا وثيقا بكل مفاصل الدولة والمجتمع، لذلك فهو يحتاج الى استراتيجية وطنية شاملة ومستديمة لمكافحته وتطويق آثاره . ان الباحثين والمختصين فيما يعرف ب "اقتصاديات الفساد" يجمعون على هذه الحقيقة ويعتبرون ان كلفته باهظة على جميع الاوضاع والقطاعات التي يشملها. فهي كلفة ليست باهظة على الصعيد المالي فحسب بل على جميع الصعد الاخرى الاقتصادية والاجتماعية وحتى النفسية والثقافية. ومن انواع الفساد الأكثر انتشار يوجد الفساد الإداري والفساد المالي والفساد الاقتصادي. فالفساد الإداري يقوم على تسخير السلطة لخدمة أغراض خاصة، فيما نجد الفساد المالي يشجّع الإثراء بلا سبب، بصورة تسهم في تدمير الأسس الاقتصادية للدولة وتهدّد قيام المشاريع الاقتصادية والاجتماعية، وتكرّس سلوكيات تعكس الاستهتار بالقوانين وتقضي على مظاهر الشفافية والمنافسة الشريفة وتكافؤ الفرص. اما الفساد الاقتصادي فهو يشمل الاثنين معا ويقصد به " السلوك الذي يسلكه الموظف العام أو الخاص والذي يؤدي إلى إحداث ضرر عام أو خاص يضر باقتصاديات الدولة ولا يتماشى مع مقتضيات وأخلاق الوظيفة بقصد تحقيق منفعة شخصية سواء كانت مادية أو معنوية، نقدية أو عينية".

ويتخذ الفساد بأنواعه المختلفة اشكالا متعددة من الممارسات ويستخدم دائرة واسعة من الأنشطة والممارسـات تتراوح بين الأشكال البسيطة لإساءة استخدام السلطة العامة من قبل صغار مـوظفي الدولة، إلى قيام بعض القادة السياسيين بالاستيلاء على/أو استغلال الموارد الاقتصادية للبلاد لتحقيق منافع خاصة. وتتم هذه الاشكال من الفساد عبر أدوات عديدة منها: الرشوة والمحسوبية والمحاباة والوساطة غير المشروعة والابتزاز والتزوير ونهب المال العام بالإضافة الى ممارسات الغش والتهريب والتهرب الضريبي ومبادلات العملات بطرق غير قانونية واستغلال النفوذ لإصدار قرارات لصالح فئة معينة او من اجل تحقيق منفعة شخصية دون وجه حق او عدم الشفافية في الإعلان عن إرساء الصفقات والعقود الحكومية او الربح غير المشروع أو مخالفة القوانين واللوائح، وإعطاء شخص ما ليس  حقه وسوء إدارة موارد الدولة وغير ذلك من الاشكال المختلفة التي قد تصل الى حد الاختلاس المباشر وسرقة المال العام.

ان تطور الفساد بهذه الاشكال والصور جعلت منه العدو الأول للتنمية والسرطان الذي يفتك بالاقتصاد وينخر في جسد ه ويؤثر سلبا على الاستقرار المالي ويضعف الإنتاجية والاستثمار، ويغذي الفوارق الاجتماعية وغياب العدالة. وقد بينت العديد من الدراسات ان مخاطره كارثية حيث يولد انعدام الثقة في المجتمع ويسهم في انخفاض معدلات النمو، وزيادة البطالة، واتساع رقعة الفقر ورفع تكاليف المعيشة، ويحرم الدولة من مجموعة من الموارد من جراء التهرب الضريبي ونهب المال العام وتهريبه الى الخارج بدلا من توجيهه الى مشاريع تنموية اجتماعية حيوية في مجالات الصحة والتعليم والسكن والبنيات الأساسية، وهو ما يعزز ثقافة الاحباط وغياب الثقة وخيبة الامل ويؤدي بالتالي الى العزوف عن الاهتمام بالشأن العام.

ان ما تم لحد اليوم بهذا الخصوص لا يتعدى اعلان نوايا أحيانا صادقة وغالبا ما تكون غير ذلك للإيهام بمقاومة الفساد بينما المطلوب هو اعلان حرب حقيقية على تلك الاشكال والممارسات التي تنخر جسم الاقتصاد، يتضمن حزمة من التشريعات والإجراءات الصارمة منها:

تشديد العقوبات المفروضة على مرتكبي جرائم الفساد المالي والإداري لتشكيل منظومة ردع خاص وعام لكل من تسول له نفسه الانزلاق في هذا المنزلق الخطير وتفعيل دور الأجهزة الرقابية في الإدارات العامة وتوليها صلاحيات واسعة لمحاسبة المقصرين والمهملين، وملاحقة مرتكبي الفساد المالي والإداري.

وضع التشريعات اللازمة لتسهيل بيئة الأعمال وسد الثغـرات فيهـا، ومراجعـة إجراءات العمل وتبسيطها وتعزيز قدرات الأجهزة المختلفة لتطبيق القانون وتوفير المزيد من الشفافية والمساءلة الإدارية للحد من الوساطة السلبية والمحسوبية والمحاباة.

تدوير الموظفين والمسئولين بشكل مستمر لضمان عدم السماح لبناء بؤر فساد إداري على هيئة عصابات منظمة يكون من الصعب بعد استفحالها القضاء عليها، فبقاء المسؤول الإداري فترة طويلة في موقعه يتسبب في تفشي الفساد ويقود إلى بناء شبكات فساد إداري تكون بمثابة سرطان في جسد الدولة.

ترشيد النفقات العمومية بشكل فعال والحد من النفقات غير الضرورية التي تصل حد الترف والاسراف خصوصا في ظل محدودية الموارد والاعتماد على الاقتراض الخارجي لسد الفجوة في الميزانية العامة للدولة. وهو ما يعني الحد من الهدر للثروة العامة وتقديم القدوة الحسنة للفرد بهدف تكريس ثقافة الترشيد ومكافحة النزعة الاستهلاكية في المجتمع ولا سيما الميل المتزايد نحو الاستهلاك الترفي التفاخري والاقبال على المواد الكمالية غير الضرورية.

اعتماد أسلوب المساءلة: من أين لك هذا؟ دون استثناء شخصي أو عائلي أو حزبي أو غيره عبر تفعيل أجهزة المتابعة والرقابة والمساءلة الاجتماعية (بمعنى إشراك المواطنين في مراقبة الأداء الحكومي وتقييمه)، ومعاقبة من يثبت إدانته بالفساد معاقبة سريعة وقاسية، وحماية هذه الأجهزة وتوفير الحماية الضرورية لهذه الاجهزة.

تكثيف المحاسبة عبر تفعيل دور المجلس التشريعي في أداء دوره الرقابي ومحاسبة المسؤولين عن الفساد لكي ينتفي شعور الناس أن القانون لا يطبق إلا على البسطاء منهم، بينما كبار الفاسدين لا يقترب أحد منهم وهم فوق القانون.

المسلك الثالث: إيقاف نزيف المديونية والاعتماد على الموارد الذاتية

بات واضحا من خلال تفحص الأرقام المذهلة لحجم المديونية التي وصلت اليها البلاد (ما يناهز 90 مليار دينار) خلال السنوات القليلة الماضية واقتنع الجميع اليوم ان التمادي في الاقتراض سوف لن يحل المشكلة بل لن يزيد الا في تعفن أكثر للأوضاع والاقتراب من حافة الإفلاس وعدم القدرة على تسديد تلك الديون. لقد أصرت الحكومات المتتالية على تجاهل هذه الكارثة الحقيقية واستمرت دون تردد في سياسة التداين المدمرة للاقتصاد وتراكمت الديون بشكل غير مسبوق ورفضت مجرد التفكير في إعادة جدولة بعض تلك الديون على أمل تدوير عجلة الإنتاج وانعاش النمو الى ان حلت جائحة الكورونا التي زادت من حدة الاوضاع واضحت البلاد في عنق الزجاجة في حين كان بالإمكان انتهاز فرصة هذه الجائحة الكونية لتراجع الحسابات وتعدل السياسات كما فعلت العديد من البلدان الأخرى التي سارعت الى اتخاذ إجراءات غير معهودة لمواجهة الاوضاع الجديدة مثل التقدم بطلب تأجيل تسديد الديون للضرورة القاهرة والتخلي عن "استقلالية البنك المركزي" او تعليق هذا القرار من اجل تقديم سيولة مالية مباشرة للدولة دون نسبة فائدة حرصا على تحصين المناعة المالية للبلاد بدلا من المرور بالبنوك المحلية لتوفير التمويل المطلوب بأسعار فائدة مجحفة.

اذا كان التمادي في الاقتراض يعد خطأ، ولا شك في ذلك، فان الخطيئة التي مارستها الحكومات منذ ولوج هذا الطريق المسدود هو غياب التفكير في حلول موازية وبديلة على الأمد المتوسط لإيقاف النزيف ومنع الكارثة. وفي هذا الإطار لا مفر من العودة الى الموارد الذاتية لتعبئتها بشكل فعال وحشد الطاقات وتجميع القدرات مع مصارحة المجتمع بحجم المخاطر المهددة لمصير البلاد وسيادتها الوطنية.
ان تونس ليست بلدا فقيرا كما يقال بل لها من الامكانيات والثروات ما يجعلها تتجاوز بيسر في الآماد الزمنية المعقولة مثل هذه الصعوبات لو توفرت الارادة وكانت لديها قيادة حصيفة ورشيدة تقدم القدوة الصحيحة والاسوة الحسنة في محاربة الفساد وفي نمط العيش والانفاق وتعطي المثال الحي والملموس لذلك.

ما لم يحصل ذلك فان الانفجار الاجتماعي قادم لا محالة والسقف سينهار على الجميع بدون شك، لا قدر الله.

د. محمد النوري

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.