محمّد مراح: حول علاقتي بالدكتور كمال عمران وإذاعة الزيتونة
أسجل في هذا المقال انطباعات وذكريات عن الأستاذ الشيخ الدكتور كمال عمران رحمه الله تعالى الذي لقي وجه الكريم العفو في 14 ماي 2018 وقناة الزيتونة الجادة المميزة .والرابط بين الموضوعين كما لا يخفى على أحد أن المرحوم الدكتور كمال عمران تولى إدارة القناة التي يبدو أنها أخذت شخصيتها التي تميزت بها، وترسخت خصائصها خلال مسارها الثري.
وبما أني من أحبة هذه الإذاعة الفتية، أغتنم المناسبة لأفضى لكم بعلاقتي بها ، وبمسارها الثري.
ارتبطت بإذاعة الزيتونة منذ السنوات الأولى لنشأتها ، وقد ساعدني على ذلك أني من مدينة تبسة في الحدود مع تونس، هذه الولاية التي لطالما كانت ذات أهمية خاصة خلال الحقبة الاستعمارية: إذ كانت معبرا لطلب العلم في زوايا تونس كنفطة والجريد، والزيتونة التي تخرج فيها أعلام النهضة الجزائرية الإصلاحية، وعلى رأسهم إمامها عبد الحميد بن باديس {1889 ـــــــــ 1940} وكذا العلامة الشهيد الشيخ العربي التبسي { 1895ــــــــــــ 1957}. ولها اهمية خاصة أيضاأثناء الإعداد لثورة نوفمبر 1954، ثم أثناءها.
إذن نظرا لهذا القرب الجواري الأخوي كان يصلنا بث إذاعة الزيتونة للقرآن الكريم بصورة ممتازة. وكلما ازددت متابعة لبرامجها الثرية، وروحها التونسية المغاربية المميزة، ازددت تعلقا بها؛ فكانت أنيسي في الطريق بين مسكني وجامعتي التيأُدرَس فيها وهي تبعد نحو مائة كيلومتر، فتراني منتشيا طول الطريق بما تقدمه.
ومما ساعد على هذا الارتباط أن وسيلة الإعلام المفضلة لدي بعد الصحافة المكتوبة، الإذاعة المسموعة؛ فقد تربت أذني ونمت مشاعري على هذا اللون من الإعلام العتيق الساحر، الذي لا زال صامدا في وجه سورة الإعلام الجديد.
كنت أنتشي ببرنامج الشيخ عبد الرحمن الحفيان رحمه الله تعالى {1953 ــــــــــ2010}، وبأسلوبه الهادئ الرصين الحاني وهو يُعلَم فتية الجيل أحكام التلاوة، مع سبحاته المحلّقة في سماء المعاني القرآنية عند اختياراته التفسيرية أو لنقل خواطره القرآنية الماتعة.
وكنت أشنَف سمعي، وأرقق قلبي بتلاوة الشيخ محمد جلمام حفظه الله تعالى. وتهتز جوانحي باختيارات الأحاديث النبوية خلال فواصل برامج القناة: من حيث نوعية الاختيارات الهادفة، ترسل عبرها رسائل مدروسة لجمهورها التونسي بالدرجة الأولى، مما يتناسب مع ما تراه حاجات له تعينه على الوعي السليم والاستقامة الدينية في كنف موروث عميق الجذور في أرضها التي اصبغ بهاالإسلام صبغة تميزها روح وعمق الزيتونة والقيروان من قب.
وأُقَدر تقديرا عاليا برامج القناة التفاعلية، خصوصا التي تديرها الأخت الفاضلة والصحفية صاحبة الصوت الإذاعي الخاشع مليكة قسام.
كما كان لفكري حظه الموفور وأنا أستمع لخطب الدكتور كمال عمران – رحمه الله تعالى ، فقد كانت تذاع وانا في طريقي بالسيارة لصلاة الجمعة في تبسة، فكنت أستمتع بذلك النمط الرائع من خطب الجمعة.
وكنت أحدّث الرفاق والإخوة المهتمين عن الأثر النوعي والعميق المرتقب أن تحدثه إذاعة الزيتونة في نفس المستمع التونسي الذواق والمثقف الواعي.
وفعلا فقد تميزت الإذاعة في مسارها منذ النشأة إلى اليوم بتوطين الطابع الزيتوني العريق : روحا ، وثقافة، ومادة دينية دعوية (الفتوى- التلاوة وغيرهما).
لقد كنت ولا زلت أرى أنها نموذج إعلامي أصيل متوازن، يمكن أن يحفظ على تونس هويتها التاريخية التي تُعدّ من أثري الهويات في منطقتنا المغربية.
وأتمنى أن تحظى الزيتونة بدراسات أكاديمية تبرز عطاءها الإعلامي، وتفتح لهاآفاق التجديد والابتكار والإبداع.
وأذكر للتاريخ في مضمار حديثي عن علاقتي بإذاعة الزيتونة؛ أني في عنفوان تفاعلي معها، كتب الله تعالى أن أجتمع في موسم الحج عام 2010 بفقيدنا الدكتور كمال عمران، وقضينا أكثر الموسم سويا، وكان أكثر حديثنا عن الإذاعة وبرامجها، وأفاقها. وكان في صحبته في تلك الرحلة وفد من القناة منهمالأستاذة مليكة، والشيخ الحفيان رحمه الله. ولم يكتب لي الله تعالى اللقاء بهما، لإقامتهما في مكان غير الذي نقيم فيه. وعشت معه الوضع الصحي المتأزم للشيخ الحفيان، وانشغاله البالغ عنه . وبقيت أتابع أخبار الشيخ رحمه الله بعد الرجوعإلى بلدينا حتى بلغني نعيه، وأذكر أني هاتفت الدكتور كمال عمران لأعزيه، فوجدته في حالة نفسية صعبة، وحزن عميق.
وممّا أسجله للذكرى أيضا أني انشغلت على الدكتور كمال رحمه الله تعالى إبانالثورة، فهاتفته للاطمئنان عليه، ودون الخوض في حديث ذي صلة بالحدث، احتياطا، ولياقة مما يناسب الوضع والحال، فطمأنني عليه وعلى الأسرة، لكني شعرت بقدر من القلق يعتريه.
وقد كنت أفيض معه القول في القناة وأثرها المتوقع في الجمهور، بل وأثرها الذي لمسته في محيطي بتبسة تحديدا. وأعبّر له عن تطلعاتي كتوجيه الطلاب لدراسات أكاديمية حول برامجها، فكان يطرب لكل ذلك كثيرا.
وقد ترك رحمه الله تعالى في نفسي أثرا طيبا عميقا شُيّد على ما استقر فيها وفي عقلي ممّا كنت أسمعه منه عبر أثير الزيتونة يوم الجمعة في خطبه المميزة منناحية الأسلوب والمضمون؛ إذ وفقه الله تعالى للمزج بين البعدين الأكاديميالثقافي النخبوي والخطابة الدينية بخصائصها التاريخية التي رسخها خطباء الإسلام وعلمائه الشامخين عبر تاريخ الخطابة المسجدية. فكان المرء يرتوي من خطابه بما ينير العقل ويوسع المدارك، ويفتح أفاق التفكير والتدبر، والتوجه نحوالانخراط في الواقع المعقد بحكمة، ورؤية واعية لمتطلبات المرحلة، وإكراهاتها، ومجاهيلها، وتحدياتها، كما تخشع الروح، ويشرق القلب بنفحات الإيمان التي تسوقها شواهده المنتقاة بعناية ووعي وحكمة من معين النصوص القرآنية والنبوية وتراثنا الأثيل.
كما أذكر إفاضته في الحديث ونحن في أيام الحج عن منهجه في دراسة واستنطاق النصوص، والفوائد المرتجاة منه في تكوين الطلاب بالجامعات الإسلامية، وتكوين الملكة الفكرية المتأملة الناقدة، وهو المنهج الذي اصطلح على تسميته بالمنهج الحضاري، وكتابة (شغاف النص: في تحليل النصالحضاري) تطبيق حي لهذا المنهج الذي يحتاج متابعة وتطويرا وإحياء.
أما على المستوى السلوكي و الأخلاقي، فقد عشت تلك الأيام مع فقيدنا العزيز رحمه الله تعالى، أتنسم عبير خلقه الكريم، ولين عريكته، وسلاسة تعامله، ودماثة خلقه، وعالي ذوقه. وقد كان حريصا على إفشاء السلام مع ابتسامته الطيبة فيمن حوله، على كل أحواله، بما فيها أوقات الطعام مع أسرته الكريمة المرافقة له فيذاك الموسم.
وفضلا عن ذلك فقد يجرى في حديثه معي ذكر بعض المواقف والمسائل أُفضّل عدم ذكرها في هذا المقام.
والحق أن ظروف الحياة، وتقلّب شؤونها بأصحابها حالت دون استمرار التواصل مع الدكتور رحمه الله، ومما ساعد على ذلك خوضي تجربة التدريسخارج الجزائر، وما تحمله من انشغالات تصرف المرء عن كثير من الواجبات. وقد صادف أن هاتفي الذي احتفظ فيه برقمه رحمه الله تعالى قد تعرض للتلف، وتعذر استرجاع كثير من الأرقام ومنها رقمه.
لكن الفقيد لم يغب عن وجداني؛ فلطالما تذكرته، وأتذكر الزيتونة بتذكره، واعمد للبحث عن جديده في الدرس والخطابة والمحاضرة في الشبكة، فآنس ببعض مايجود به مما فتح الله عليه به .وقد لاحظت أنه في الفترة الأخيرة أخذ ينحو إلى الانغماس في الفيوضات الروحية الإيمانية، ويعمل على أن تعبق بها أحاديثه ودروسه وخطبه.
ولكني فوجئت بنبأ وفاته رحمه الله تعالى، وحزّ في نفسي ألا أعثر على طريقة أبلّغ بها تعزيتي الخالصة لأسرته، ولمحبيه، إلى أن فتح الله تعالى علي فعثرت على نافذة (الزيتونة أون لاين)، فاهتبلتها فرصة لأرسل عبرها التعزية.
وعود إلى صلتي بالقناة فقد بقيت أتباعها؛ آملا أن تواصل رسالتها الهادفة، وتواكب التغيير بطريقة إيجابية، فتحقق ما رجوته بفضل الله تعالى، ثم بحكمة القائمين عليها، والمخلصين لرسالتها.
والآن كم فرحت حين عثرت على موقعها على الشبكة العنكبوتية، هذه الأيام، فصرت أتابع برامجها وأنا بعيد عن الوطن والجوار، فأعادت لي سالف الذكريات، وجميل البرامج، خصوصا أن أصواتا ألفتها وتفاعلت معها لا تزال في رباطها الإعلامي المستنير النافع.
في ختم هذه الكلمة أود اقتراح ما يأتي:
• لا ريب أن الوفاء لفقيدنا رحمه الله تعالى، والحاجة المعرفية والدعوية، والإعلامية، كل أولئك يقتضي التفكير في الإعداد لمؤتمر علمي يعنى بدراسة فكره ومنهجه الدعوي، ولا تعدم تونس من ينهض بهذه المهمة.
• إنشاء برنامج حول تراث الإذاعة التونسية الديني، يعرض ما لديها من أحاديث ومحاضرات و مادة ثقافية وعلمية لأعلام تونس كالشيخ الطاهر بن عاشور والشيخ الفاضل بن عاشور وغيرهما من أعلام الفكر الديني الإصلاحي التونسي.
• إذاعة تلاوات قرآنية لطالما تعطرت بها الأسماع من إذاعة تونس في الماضي كتلاوات الشيخ علي البراق رحمه الله.
• أناشيد ومدائح السُلامية الممتعة.
أما بالنسبة لدور القناة في مواكبة ومرافقة المرحلة الجديدة لتونس؛ فأحسب من موقع المستمع المحب المتخصص أكاديميا في هذا النوع من الدعوة والإعلام، مع احترامي الكامل الواجب بعدم تجاوز الموقع الطبيعي إلى أي شبهة تدخل أو توجيه من طرف خفي ، فالأمة تعاني الآن أشد المعاناة من هذا الأسلوب الجديد في علاقاتها بعضها ببعض أن من المناسب لها الإصرار على طبع المادة الإعلامية بالطابع التونسي والمغربي والزيتوني ،حفاظا على التمايز والأصالة وتقديم النموذج الأرشد للخطاب الديني الواعي الرحب. وأرى أن هذامن أكبر التحديات التي أسأل الله تعالى أن يوفقهم في رفعها إزاء موجات اجتلاء الخصوصية المغربية في التدين والتمذهب المالكي، والتعقل الواعي لروح الشرع والدين في السياق الإنساني الذي تتأهب فيه المبادئ الرفيعة لتقديم الأنفع و الأليق بإنسانية الإنسان. ومن نعم الله تعالى علينا في منطقتنا المغربية أن خامتنا الدينية الوسطية المعتدلة الأقرب للفطرة الإنساني ةوالعقل الواعي، والقلب السليم، لا تزال محفوظة عن إعادة التوجيه بقدر لا زال واسع المساحة البشرية، ومن تعرضها للسرقة من القوى الرأسمالية والعولمة الطاغية.
أرى أن منطقتنا المغربية – بحمد الله وفضله – خزان تأوي إليه روح الإسلام الحقيقية، تنتظر الفرصة المناسبة كي تنبعث انطلاقة حضارية، تخاطب العمقالفطري للإنسان، وتخاطبه وتوجهه في فضائه الحضاري الرحيب، مما ينجم عنه تلاقى قوى الإبداع والابتكار في العالم، محققة وعد الله تعالى بنصرة دينه علىنحو تسعد فيه البشرية بهذا النصر الحضاري الإنساني الباني الذي يعلي منقيم الوجود الفعالة الخيَرة .لذا فالإعلام الذي يتحرك في هذا الفضاء سيحظى بفضيلة المشاركة وصنع هذا النصر المرتقب.
أما بالنسبة للحالة التونسية المتحولة إيجابيا إن شاء الله تعالى ــــــ رغمالصعوبات التي تعرض لها ــــــ ، فأرى أن تُفعّل الإذاعة برامج تفاعلية في مختلف المجالات تدفع نحو فاعلية الإنجاز لمسار تنموي وفق القيم الإسلامية الإيجابية الحية الحضارية ، وتوجه نحو مسارات التنمية مع تركيزها على العنصرالبشري أي أثمن ثروة في الإنجاز الحضاري.
ختاما أسأل الله تعالى لكم السداد والتوفيق ونفع العباد والبلاد. ولفقيدنا الكبيرالرحمة والمغفرة وفراديس الجنان .
الدكتور محمّد مراح
الجزائر
- اكتب تعليق
- تعليق
تنويه : الحقيقة أني كنبت المقال منذ نحو سنتيبن ، وسعيت لنشره في منبر تونسي وسعيت في الأمر ، لكن لم يكنب التوفيق للمسعى . فلما عثرت على موقع {ليدرز } راقني شكلا ومحتوى، فوجدت من إدراته الكريمة التجاوب الطيب فنشر المقال هنا . لذا وجب قراءة المقال في بعض جوانبه ضمن وقت كتابته . شكرا