راشد الغنّوشي في الذكرى الأولى لوفاة الباجي قايد السبسي : التوافق الذي صنعناه حيّ وهو الخيار الأفضل لتونس وعنوان نجاح ثورتها
سنة أولى تمرّ، هذا السبت 25 جويلية 2020 على وفاة الرئيس الراحل، الباجي قايد السبسي، أول رئيس ديموقراطي منتخب في اقتراع عام، حر وشفاف، و فاعل رئيسي هام في المشهد السياسي الحديث. و تشرع ليدرز، بداية من اليوم، في نشر سلسلة من الشهادات الحصرية التي أمدها بها عدد من رؤساء الحكومات الاجنبية، و كبار الشخصيات التونسية والاجنبية.
ويكشف الاستاذ راشد الغنوشي، في هذه الوثيقة التى حررها بنفسه لمجلة ليدرز في مطلع هذه الأسبوع، جوانب خفية عن علاقته بالرئيس الباجي قايد السبسي، يفصح عنها لأول مرة، بما تتضمنه من معطيات هامة، و يطرح من جديد خيار التوافق الوطني، منهجا أوحد لتونس، يتأكد اكثر اليوم بالذات. (قراءة المقال بالفرنسية)
سي الباجي.. الصديق والرفيق والديمقراطي المؤمن بالثورة، لا أعتقد أنّ لحظة الكتابة عن صديقي الراحل سي الباجي قائد السبسي، سنة بعد وفاته، لحظة يسيرة بعد سنوات من تلازم المسارات حتى في المرحلة التي غلب فيها الظن بأنّنا أخذنا طريق القطيعة أو الصدام.
من الصعب أن تختزل الكلمات علاقة اختلط فيها الشخصي بالسياسي في خلطة كيمياوية جمعت رجلين قادمين من عالمين مختلفين بل متنافرين، ليصنعا معا عبر ما يعرف "بلقاء الشيخين"، ملحمة التوافق الوطني التي كانت لحظة فاصلة في تاريخ الثورة التونسية، بل الربيع العربي.
حين جلسنا معا في منتدى دافوس كان العالم يشاهد وحدة تونس في تنوعها وفي توازنها بين من يمثّل ثقافة الاحتجاج المؤمنة بالدولة وثقافة الدولة المؤمنة بالديمقراطية، الغنوشي كان يرفض الفوضى والاستبداد والدكتاتورية والحقد والانتقام والإقصاء والباجي كان يرفض الفوضى والاستبداد والدكتاتورية والإقصاء، الغنوشي جاءت به الثورة من منفى الخارج، بعد منفى دام 20 سنة والباجي أعادته الثورة من منفى الداخل الذي قضى فيه عشرين سنة، كلاهما التقط اللحظة بأن تونس لا يجب أن تبقى رهينة الماضي وان الثورة أمانة ومسؤولية.
لقاء باريس لم يكن لقاء الصدفة أو الصفقة بل كان محطة في مسيرة التقت فيها الهمم على تأكيد الاستثناء التونسي.
بعد لقاء باريس الذي أذبنا فيه الجليد واتفقنا على المبادئ العامة اَي ضرورة الحوار للخروج من الأزمة وتجنب الإقصاء زارني سي الباجي في منزلي في النحلي في إشارة واضحة بأنّ الأيادي ممدودة وأنّ طورا جديدا بدأ في علاقتنا التي شهدت 3 أطوار:
الأوّل خلال رئاسته للحكومة سنة 2011 وكان طور الاحترام المتبادل والحوار وجمعتني به لقاءات عديدة في مكتبه بالقصبة. وأذكر هنا أنّي زرته في منزله بسكرة يوم 22 اكتوبر عشية الانتخابات التشريعية وأكّد لي أنّ الدولة ستحترم إرادة الشعب.
الطور الثاني والذي لم يطل والحمد لله هو طور "الجفوة". النهضة اختارت الترويكا وهو اختار المعارضة. ونطرح اليوم سؤالا :
هل كانت أزمة 2013 لتكون لو اخترنا مشهدا سياسيا أساسه تحالف استراتيجي بين قوى الثورة وقوى النظام القديم بقيادة سي الباجي؟ الصفحة طويت بسرعة في أوت 2013 والدليل حصل على أنّ استقرار تونس سياسيا يحتاج مصالحة شاملة أساسها المصالحة بين الإسلاميين والدساترة.
لم يكن من اليسير الإقناع بهذا الخيار في النهضة والنداء بعد انتخابات 2014. ولئن وجدنا الحلّ في البرلمان بتصويت النهضة لمرشح النداء في الرئاسة السيد محمد الناصر وتصويت النداء للاستاذ عبد الفتاح مورو نائبا له، فقد كان تشكيل الحكومة محنة، وامتحانا في ظلّ إصرار بعض القوى في النداء على إقصاء النهضة حتى لا يخون النداء ناخبيه.
في آخر لقاء بيني وبيني سي الباجي في منزله بسكرة يوما قبل الإعلان عن حكومة الصيد الأولى كان ثمة صراع بين خياري التوافق والإقصاء وكان سي الباجي مع التوافق بالطبع، وكنت مقتنعا بأنّ المطلوب ليس عدد الوزارات التي ستحصل عليها النهضة بل هزم مشروع الإقصاء والاستئصال.
قبلنا في الحقيقة بوزير واحد في الحكومة لأنّنا كنا ندرك أنّ المعركة كانت رمزية وأن النهضة التي قد تكون فوتت فرصة توافق نوعي سنة 2011، مدعوة للتفكير بعقل إبداعي يتجاوز الحسابات الفئوية الضيقة ويلتقط لحظة وطنية طوت صفحة الانقسام الحاد الذي خلفته الانتخابات الرئاسية والتشريعية.
سنة 2016 كان سي الباجي حريصا على حضوري مؤتمرالنداء بسوسة وأذكر طرفة وهو أنّ سيارتي تعطلت في زحمة المرور فأعطى تعليماته بتخفيض سرعة موكبه الرئاسي حتى نصل في نفس الوقت. مشهد الغنوشي في قاعة كانت منذ أشهر تهتف ضده، ومشهد سي الباجي رحمه الله في قاعة رادس يخاطب شباب النهضة الذي طالما هتف ضد النداء، شكّل لوحة جميلة تونسية خالصة، عنوانها انتصار تونس على ثقافة الحقد والكراهية والإقصاء.
هل كان بالإمكان أن نمضي خطوات أكثر على درب المصالحة وطي صفحة الماضي وترجمة المنجز التوافقي تنمويا؟
نعم ولكن التقليل من شأن المنجز التوافقي او محاولة تشويهه والانقلاب عليه مرفوض، لأنّ إنقاذ التجربة الديمقراطية لم يكن شيئا بسيطا والأيام تؤكد لكل ذي رأي حصيف أن تراجع ثقافة التوافق في وضع سياسي هشّ يقابله تنامي مخاطر الفوضى السياسية، والاحتقان.
من يقرأ هذه الكلمات سيدرك أنّ التوافق الذي صنعناه حيّ وأنه الخيار الأفضل لتونس وعنوان نجاح ثورتها.
توافق انبنى على علاقة وجدانية منزّهة عن المصالح الضيقة و"تخديم المخ".
كانت لكل منا رؤيته في كثير من الملفات، ولكن التقينا تحت خيمة المصلحة الوطنية والمحبة الشخصية، فكان خلافنا رحمة ولقاؤنا فرصة للتقدم بتونس نحو المزيد من الأمن والاستقرار.
أذكر ونحن في بيته في سكرة أنّ أحد الحاضرين في اللقاء المضيق قال " سي الباجي انت والشيخ أخوة"، فأجابه "بل نحن أصدقاء لان الأخ لا يختار شقيقه وقد لا يتفق معه ولكن الصديق يختار صديقه". كان خيارا صائبا مني ومنه ، استفادت منه تونس والحمد لله، في الماضي ولكن في أنّه سيبقى بمشيئة الله أحد مفاتيح الحاضر والمستقبل.
رحمك الله أخي وصديقي سي الباجي العزيز.
راشد الغنّوشي
- اكتب تعليق
- تعليق