عماد الحزقي : منزلة لا ينالها إلا أهل المواهب والعزائم

توفيق الحبيّب وفاطمة الهنتاتي - أعطته أقداره أكثر مما كان يأمل ويتمنى.. عطاء ظلَّ مَعينُه مدرارا. وضع عماد الحزقي دراسة الحقوق نصب عينيه منذ الصغر، وسار على الدرب بإرادة وحزم، مُمَنِّيا النفس بأن يصبح دبلوماسيا أو أن يُلحق بمنظمة دولية، لكن القدر شاء شيئا آخر...  التحق صاحبنا بالمحكمة الإدارية قاضيا، وارتقى سُلّم الوظيف حتى بلغ درجة مندوب دولة عام، وترقى إلى منصب رئيس أول مؤسس للهيئة الوطنية للنفاذ إلى المعلومة. وها قد أصبح اليوم وزيرا للدفاع... سار عماد الحزقي على الدرب حتى بلغ أعلى المراتب بيسر وفي صمت. أخذ المشعل على رأس وزارة الدفاع الوطني من يد كريم الجموسي.. اجتاز كلاهما مناظرة المحكمة الإدارية في سنة 1995، وكان النجاح حليفهما وحدهما.

لم يعتمد عماد الحزقي عبر كل مساره على الحظ وحده.. اجتهد وثابر، وواظب وداوم، حتى يبلغ أقصى درجات الاقتدار والكفاءة . نأى بنفسه عن الطرق السهلة والأعمال البسيطة ، ولم يكتف بمجرد المرور، والقيام بما يُكَلّفُ به من أعمال. بصفته قاضيا ساميا بالمحكمة الإدارية، أصدر مئات القرارات التي يُعْتدُّ بها في مجال فقه القضاء، ويَرجع إليها  أهل الاختصاص ممن يعلمون أنها نابعة من إرادةٍ لتبيان الحق والتعمق في تأويل النصوص بكل كفاءة واقتدار، والفصل في المسائل بكامل الاستقلالية والتجرد..

يؤمن عماد الحزقي في قرارة نفسه وعمق وجدانه بأنّ دولة الحق والقانون ينبغي في المطلق أو تؤسس على قيم ومبادئ الشفافية والحوكمة الجيدة والشعور بالمسؤولية في كل ما يتعلق بإتيان الأفعال والفَوْه بالأقوال. فعلى هذه الأسس تبنى الديمقراطية... اتخذ الحزقي من كل هذه القيم والمبادئ ومن الحقوق والحريات ديدنا ودَأْبًاً ، لا يخشى لومة لائم. ترشحه لرئاسة الهيئة الوطنية للنفاذ إلى المعلومة  في سنة 2017 بصفته قاضيا إداريا لم يصدر عن اعتباط، ولم يكن محض صدفة . لقد فاز بأصوات أغلبية الأصوات (في 18 جويلية 2017 ) ... وما فوزه هذا إلا مؤشر على استقلاليته تجاه كل الأحزاب السياسية وعلى كفاءته واستقامته.

وكان يدرك تماما أن مهمته على رأس الهيئة على امتداد ست سنوات لن تكون مجرد نزهة . عليه أن يّحوِّل المبادئ والأهداف المنصوص عليها ضمن القانون الأساسي (عدد 22 – 2016  بتاريخ 24 مارس 2016)  المتعلق بحق النفاذ إلى المعلومة إلى واقع ملموس، وحقيقة ثابتة محمولة على جميع الأطراف المعنية تحت إشراف هيئة مستقلة تحظى بكل احترام ومصداقية. كان لا بد من أن يتولى هذه المسؤولية مع رفاقه الثمانية أعضاء مجلس الهيئة بعد أن أدى القسم في 20 سبتمبر 2017 أمام رئيس الجمهورية المرحوم الباجي قائد السبسي، وأن يُشَمِّر على ساعد الجد، ويؤدي المهمة بالكامل كأحسن ما يكون الأداء.

العمل مضن وشاق لا محالة.. أمام الهيئة ميزانية يجب أن تُصرف، عليها أن تبحث لها عن مكاتب، وأن تنتدب الموظفين، وأن تضع طرق عمل وتصرُّف، وأن تحرص على توفير بيئة عمل مؤاتية تساعد على إقرار علاقات تعاون وثيق بين كل الأعضاء، ومع الإدارة المركزية ومختلف الأطراف المعنية، وأن تضع الإجراءات وفق قواعد وضوابط بعينها ، وأن ترسي قواعد اتصال سلس وناجع، وأن تصدر دليلا عمليا وتُمْضي على اتفاقات تعاون مع عدد من الوزارات (الفلاحة، النقل، التربية، الشؤون الدينية...) ومع المؤسسات العمومية (تونس الجوية، الشركة التونسية للكهرباء والغاز...) وتنظر في العرائض التي ترد عليها، وتُصْدر مئات القرارات ذات الصبغة القضائية التي يمكن أن تؤلف مدونة قضائية خاصة بها و أن تسهر على تطبيق هذه القرارات...

ويتسع نشاط الهيئة إلى أكثر من ذلك. فقد توفقت إلى نسج علاقات مع الخارج على نطاق واسع .. كانت الهيئة الوطنية للنفاذ إلى المعلومة، من خلال رئيسها، عضوا مؤسِّسا صُلْب الشبكة الإفريقية لهيئات النفاذ إلى المعلومة. واختيرت كعضو في الشبكة الدولية إبان انعقاد قمتها بجوهانسبورغ في مارس 2019. فقد لاقت التجربة التونسية الناشئة اهتماما كبيرا في الخارج، وتلقى رئيس الهيئة الوطنية للنفاذ إلى المعلومة دعوة للمشاركة في القمة اللاتينية الأمريكية لهيئات النفاذ إلى المعلومة المنعقدة في مكسيكو في شهر نوفمبر الماضي. وبنفس هذه المناسبة، نزل رئيس الهيئة الوطنية للنفاذ إلى المعلومة  ضيفا على نظيره المكسيكي الذي يتراس مجموعة هيئات النفاذ إلى المعلومة في منطقة أمريكا اللاتينية، وتلقى منه دعوة  للقيام بزيارة عمل وتبادل . وشمل نسيج العلاقات مع الخارج منظمة اليونسكو ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية إلى جانب العديد من المؤسسات والمنظمات غير الحكومية

الجزاء على قدر العمل

رفعت الهيئة عن طريق رئيسها عماد الحزقي تقريرها السنوي الأول عن حصيلة نشاطها إلى  رئيس الجمهورية في 14 فيفري 2020 .. وهو يوم الاحتفال بعيد الحب أو يوم القديس فالنتين .. لهذا اليوم  أكثر من معنى ورمز بالنسبة إلى الهيئة الوطنية للنفاذ إلى المعلومة التي قدمت حصيلة نشاطها إلى رئيس الدولة ( ثم إلى كل من رئيس مجلس نواب الشعب ورئيس الحكومة)... وبالنسبة كذلك إلى الرئيس قيس سعيد الذي التقى في نفس المناسبة بقصر قرطاج أحد طلبته بكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس وأحد القضاة السامين بالمحكمة الإدارية، وما انفك ينظر اليه بعين الرضا والتقدير نظرا لوجاهة أحكامه القضائية التي تنم عن سعة معارفه واستقلاليته، ويثمن وجوده على رأس الهيئة الوطنية للنفاذ إلى المعلومة وكان من أبرز أعضائها المؤسسين. 

كان الياس الفخفاخ في ذلك الوقت منهمكا في مشاوراته جريا وراء تشكيل حكومته. وتشكلت الحكومة، وشاءت الأقدار أن يعين عماد الحزقي، بناء على اقتراح من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، على رأس وزارة سيادية ديدنها الانضباط والوطنية، وهي وزارة الدفاع الوطني حيث بمقدوره أن يفيد ويأتي بالإضافة المرجوة وهذا شرف أثيل يناله. وكان ذلك إيذانا بانطلاق مرحلة جديدة تبشر بأن تكون حبلى بالأحداث والأفعال الجسام..

من قرية الحزق نبدأ ..

ينتسب عماد الحزقي إلى قرية الحزق، ومنها اشتق لقب العائلة، وكان للقرية عظيم الأثر في نحت ملامح شخصيته وتنشئته على أنبل القيم . تقع قرية الحزق على بعد 40 كيلومترا من مدينة صفاقس، على طريق الشابة، غير بعيد عن موقع أشولا (بطرية) الأثري وميناء الصيد البحري باللوزة.. هناك تمتد زراعات الخضر وغراسات الأشجار المثمرة  من زيتون وتفاح ومشمش وخوخ.. على هذا الأديم الشاسع، يلتقي البحر بكل ثرواته السمكية الطائلة بالأرض الخصبة بخضارها وثمارها ، الزاخرة بمواقعها الأثرية الجميلة... تؤلف كل هذه المناطق مجتمعة – حزق، اللوزة، بَطرِيَّة - منطقة بلدية تعُدُّ حوالي 20 ألف ساكن .. توجد على رأسها السيدة منى سالم (أستاذة فيزياء وكيمياء) وتعاضدها في الكتابة العامة امرأة كذلك هي السيدة بسمة حسونة..  وهو ما يحمل أكثر من مغزى.

شب عماد الحزقي إذن في هذه البيئة الريفية الحميمة ، لكنه ولد في تونس العاصمة في 19 سبتمبر 1968 حيث استقر والده من زمن بعيد، وكان يشتغل في مؤسسة عالمية، وتزوج فتاة قريبة من العائلة ولدت بتونس وعملت موظفة بوزارة المالية . كان عماد أكبر أشقائه الخمسة بين إناث وذكور نشؤوا جميعا  في ألفة وتوادد. ثم ذاق صاحبنا طعم الأبوة بدوره بعد أن أنجب ثلاثة أبناء. وانتقل بين أكثر من مدرسة ومعهد بضاحية أريانة وحي الوردية بالعاصمة قبل نيله شهادة البكالوريا (1988) بمعهد  محسن العياري الثانوي بحي مونفلوري بتونس.

كان كثيرا ما يأخذه والده إلى ملعب المنزه، وكانا من أحباء نادي الترجي الرياضي لكرة القدم، تستهويهما براعة نجومه من أمثال تميم الحزامي وطارق ذياب وغيرهما. كان لجده لأمه المناضل والقاضي ذائع الصيت محمد الحبيب الحزقي أعمق الأثر في حياته، ومن هنا نبع ميل عماد إلى العلوم القانونية وشغفه بها.   
التحق عماد الحزقي بكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية حين فتحت أبوابها بضاحية أريانة وتتلمذ على يد ثلة من خيرة الأساتذة كعبد الفتاح عمر، ومحمد الشرفي، والصادق بلعيد، وعياض بن عاشور، وعبد الباقي الهرماسي، ومحمود المستيري، وأحمد ونيس، وفاضل وهشام موسى، وفاروق المشري ، وكلثوم مزيو...

نانسي، باريس، لاهاي، سالونيك

بعد حصوله على شهادة الأستاذية في العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية، شدَّ عماد الحزقي الرحال إلى فرنسا (1992) حيث حصل على شهادة الدراسات المعمقة في القانون الدولي العام من جامعة نانسي 2 ، والتحق بعد ذلك بكلية الحقوق - جامعة باريس 1 - حيث حصل على شهادة ثانية في الدراسات المعمقة في القانون العام, وشرع في إعداد موضوع دكتوراه في القانون الإنساني الدولي بإشراف الأستاذ جان-بيار كينوديك ، ثم شارك في عديد التربصات بأكاديمية القانون الدولي بلاهاي ومعهد الإدارة العامة بباريس والمعهد الأوروبي لحقوق الإنسان بسالونيك باليونان. 

القضاء الإداري

ضربات الحظ لم تتوقف... ومعها المفاجآت السارة . فتحت المحكمة الإدارية مناظرة لانتداب قضاة، وكان عماد الحزقي من بين المترشحين المائة الذين طلبوا المشاركة فيها. لم ينجح من بين هؤلاء جميعا غير مرشَّحيْن اثنين هما كريم الجموسي (وزير عدل سابق ووزير دفاع وطني بالنيابة سابق) وعماد الحزقي. وانطلق صاحبنا في سبتمبر 1995 في حياته المهنية الطويلة كقاض إداري بإشراف الأستاذ بشير التكاري، تخللتها فترة قصيرة عَمِل فيها مستشارا للشؤون الخارجية بوزارة الشؤون الخارجية . 

عماد الحزقي مغرم بالدبلوماسية، وطالما منّى النفس بالظفر بمنصب دبلوماسي في الخارج، وبأن يصبح سفيرا في يوم من الأيام. سنحت له فرصة ... فتحت وزارة الشؤون الخارجية مناظرة لانتداب مستشارين للشؤون الخارجية.. شارك عماد في المناظرة ونجح. استُقْبل بعدها بحفاوة من قِبل الكاتب العام حسين بوزيد الذي كان ممنونا بضم هذا القاضي المتميز إلى وزارة الشؤون الخارجية وكان يوجد على رأسها وقتئذ السيد الحبيب بن يحيى وأُلْحِق عماد الحزقي بالدائرة القانونية . مباشرته عمله في هذه الدائرة لم تتجاوز العامين (جويلية 1996- فيفري 1998) عاد بعدها من حيث أتى، وواصل عمله حتى جويلية 2017 ... قضى إذًنْ في المجمل 22 سنة قاضيا بالمحكمة الإدارية (20 سنة) ودبلوماسيا في الشؤون القانونية (عامان)... لم يتخلف عماد الحزقي في الأثناء وطوال هذا المسار عن التدريس بالمعهد العالي للقضاء وبالمدرسة الوطنية للإدارة .

وتأسيسا على تجربته صلب دائرة التعقيب بالمحكمة الإدارية وخبرته الفائقة في مادة القانون الجبائي، عُيِّن عماد الحزقي لمدة خمس سنوات (2012-2017) رئيسا للجنة إعادة النظر في قرارات التوظيف الاجباري للأداء بوزارة المالية. وأنصفت اللجنة الآلاف من دافعي الضرائب الذين عجزوا عن ممارسة حقوقهم في الاحتكام الى القضاء.

ونرى عماد الحزقي في حياته الخاصة مولعا بالمطالعة وبالموسيقى والسنما، يبدي تعلقا قويا بأسرته، يغمرها بفيض محبته وعطفه...

المعروف عن عماد الحزقي في رحاب المحكمة الإدارية أنّه يسلك سلوك القاضي الأمين الشريف  (قاضي عام دولة) يُصْدِر القرارت بعد التحري الشديد والتثبت الدقيق؛ يعطي لكل حق حقه؛ يذهب بعيدا في حفظ الحريات، كل اهتمامه مّنصبٌّ على الوقائع والملفات والإجراءات، لا يتردد أبدا في توجيه الإدانة حسبما يُمْليه عليه ضميره، لا سلطان عليه لغير القانون... حسبه أن يكون عادلا ومنصفا ... كان ذلك دأبه ومنهجه قبل سنة 2011 وبعدها .. غاية ما يصبو إليه هو أن تبقى الدولة ثابتة راسخة منيعة، متشبثة بقواعد الحوكمة الرشيدة، حريصة على الشفافية والتمسك بالحق في النفاذ إلى المعلومة. وهو مستميت في الدفاع عن هذه المبادئ عبر كتاباته ومحاضراته في كلية العلوم القانونية (حيث تعرف على زوجته التي انضمت فيما بعد إلى سلك المحاماة) وفي غيرها من المحافل.

توفيق الحبيّب وفاطمة الهنتاتي