أخبار - 2020.06.26

البــوهيميّـون في الأدب التّــونسـيّ مـــن التّمرُّد إلـى الانـكـسـار

البــوهيميّـون في الأدب التّــونسـيّ مـــن التّمرُّد إلـى الانـكـسـار

بقلم د. الحبيب الدريدي - اعتادت معاجم اللّغة والأدب أن تعرّف «البوهيميّ» «Le bohème» بأنّه ذاك الفنّان أو الأديب الذي يعيش على الكفاف ويحيا حياة مضطربة مشوَّشة ويميل إلى التّطرّح في ديارات اللّهو والشّراب ويعيش بين التّيه والتّشرّد وعدم الاستقرار. غير أنّنا نرى أنّ البوهيميّة Le bohémianisme حالة مركّبة ومعقّدة  تتداخل فيها عناصر عديدة فيها الذّاتيّ الحميم وفيها الموضوعيّ الاجتماعيّ.

لعلّ أيسر السّبل إلى وضع تعريف قريب المأخذ هو القول بأنّ البوهيميّ أديب خاض تجارب بالمعنى الذي قصده هايدغرHeidegger في بعض كتاباته من لفظ «التّجربة» ولا سيّما حين يقول: «أن نخوض تجربةً مع شيء يعني أنَّ هذا الذّي نتّجه إليه ونيمّمه إنّما هو يلمسنا ويخاطبنا ويسكننا حتّى نصبح مثله ..»

وعلى هذا النّحو فإنّ أدب البوهيميّين هو من جنس أدب التّجارب، ذاك الأدب الذي يُغامر بالكيان ويطوّح به في أفق غير معتادٍ (يُراجع مقال الأستاذ العادل خضر «جدّة القديم محاولة لتحديد حداثة البطل في أدب المسعدي»، ضمن مجموع محمود المسعدي مبدعا ومفكّرا). ومن ثَمَّ فإنّ هذا الأدب لا يُدرَسُ بمقولات نقديّة متعارفة أو بمقولات «قويّة» على حدّ عبارة الفيلسوف الإيطالي جياني فاتيمو من قبيل «البنية والدّلالة» و«الأسلوب» و«الأصالة» و«المعاصرة» و«وظيفة الأدب» و«التّحوّلات الاجتماعيّة» وغيرها. والمقولات «القويّة» عنده هي التي تبحث عن أبنية ثابتة ومرجعيّات قادرة على توفير أساسٍ وحيدٍ ونهائيٍّ لفهم الأثر الأدبيّ، وهي لذلك لا تناسب أدب التّجارب لأنّها لا تُساعد على فهمه وقراءته بل هي تشوّهه وتُحرّفه وتصرفنا عمّا ينبغي الالتفات إليه حقّا كهشاشة الإنسان في هذا العالم وقلّة بأسه وحقارة شأنه وشقائه ومآله إلى الفناء والزّوال بما يجعـل وجوده في النّهاية بلا أساس مكين ولا ضمانة.

فإذا اعتبرنا أدب البوهيميّين من «أدب التّجارب» صار من الضّروريّ أن نضرب صفحا عن المقولات القويّة اليقينيّة الثّابتة وأن نستبدلها بما يُسمّيه «فاتيمو» مقولات «ضعيفة» وهي تلك التّي تولي عناية لما انفلت من كلّ يقين وحساب وعقل وحكمة لأنّ هذا الذّي انفلت هو من جنس ما لم نُفكّر فيه وما لم نتوقّعه.

في ضوء هذا التّصوّر سنحاول أن نعرض لنماذج من التّجارب البوهيميّة في أدبنا التّونسيّ الحديث والمعاصر، وهي تجارب تشترك في النّزوع إلى العدميّة Nihilisme المتأتيّة من الإحساس الفاجع بالفَقْد وما يترتّب عنه من وعي بتفكّك الكيان وتلاشيه.

وقد تظهر هذه النّزعة في أربعة تجليّات أساسيّة هي:

اليأس والخيبة والإحباط

التّشاؤم والتّبرّم والقلق النّفسيّ والحيرة
الثّورة على السّائد والقديم ورفض كلّ شكل من أشكال السّلطة (الأخلاقيّة،الاجتماعيّة، السّياسيّة ...)
الميل إلى اللّذّة باعتبارها وجها من وجوه الخلاص من مأساويّة الوضع البشريّ.

محمّد العريبي (1915 - 1946)

يبدو أنّ ما أيقظ مشاعر الرّفض والثّورة والتّمرّد في نفس العريبي وفكره هو حادثة جرت في الحفل الذّي أُقيم بتونس سنة 1933 لإحياء ذكرى وفاة شاعر النّيل حافظ إبراهيم، فلمّا تُليت قصيدة شاعر الجزائر مفدي زكريّا: «كَذَبَ النَّاسُ أنتَ لستَ بميِّتٍ ...» استاء بعضُ شيوخ الزّيتونة وأنكروا هذا القول ورموا الشّاعر بالكفر والإلحاد، وأثار ذلك جدلًا بين مؤيّدٍ للشّاعر ومعارضٍ فترك هذا الحادث في نفس العريبي، وهو في السّابعة عشرة من عمره، صراعا باطنيًّا عنيفًا. وانتهى به الأمر إلى أن انقطع عن دروس الجامع الأعظم وتخلّى عن اللّباس التّقليديّ لطلبة الزّيتونة، وترك مطالعة الكتب العربيّة بجميع أنواعها وأقبل على مطالعة الكتب الفرنسيّة وأصبح يهيم بأفكار الطّاهر الحدّاد وقاسم أمين بعد أن كان يُعلنُ بافتخار «أنّه لن يُوسّخَ عينيهِ بمطالعة هذيانهما»، ويذكر زين العابدين السّنوسي أنّه أصبح «يُمزّق برقعَ كلّ امرأةٍ تتستَّرُ لكشفها أمام أعين الخلق أجمعين».

لقد داخله شكٌّ عاصفٌ في ما كان يُعتبرُ من المسلّمات والثّوابت فثار على القـديم وعلى الثّقافة التّقليديّة السّـائدة وراح يبحث في الآداب الغربيّة عن معينٍ جـديد يستقي منه معنى الوجود.

وفي تلك السّنة نفسها 1933 التحق بجماعة «تحت السّور» وقُبل انخراطُهُ بعدما قرأ عليهم قصيدة «المَلال» التّي أحدثت ضجّةً كبرى كادت أن تلحقه بالحدّاد والشّابّي المارقَيْن وتصنّفه في عداد الزّنادقة. وهي قصيدة بالغة الأهميّة في مساره الفكريّ والإبداعيّ تلخّص أوفى تلخيصٍ مذهبه البوهيميّ، فهي انفكاك من سلطة المعقول ولواذٌ باللّامعقول وتحرّرٌ من التّعاليم والضّوابط والقواعد يصل حدّ «العبث» بالمقدّسات والاستخفاف بها، وهي تعبير في النّهاية عن اليأس من العثور على معنى للوجود بما يُفضي إلى الشّعور باللّعنة والعدميّة وسوء المنقلَب في الدُّنيا:

مَلَلـــتُ العقـــل والدّينـــا    فهــــــاتِ الكـــأسَ واسقينـــــا
وغــــنِّ فالغنـــا ســلـــوى    وبعــــثٌ للمُنـــى فـــيــنــــــا
وهــــيّا نــــرفـــع الكــأس    عـــلى نـــخـــــبِ المـــصـلّينـــا

إلى أن يقول في آخر القصيدة:  

دعينــــي أعتـــزلْ نفســـي    أمـــــزّقْ ستـــــر إحســـاســي
فــأقـــطــــفُ لعنـــة الرّبّ    وأحــــصـــدُ لعنــــة النّـــــاس
وأضحــــكُ إذ أرى نحســـي    يُعـــــانقُ شـــامــــخ اليــــأسِ

وتنقّل العريبي بين برازافيل والجزائر وباريس حيثُ توفيّ في ديسمبر 1946 في بيت صديقته الفرنسيّة. ولا يُعلم إن كان ذلك انتحارا أو نتيجة الإسراف في الشّراب.

منوّر صمادح (1931 - 1998)

نشأت أزمة منوّر صمادح من التقاء ثلاثة عوامل كُبرى:

أزمة القيم التّي لاحظها بُعَيْدَ الاستقلال، فقد رأى تدافع بعض صغار النّفوس نحو احتلال المواقع والمناصب بعد أن آل الأمر إلى التّونسيّين فاستفحلت الانتهازيّة والأنانيّة والنّفاق الاجتماعيّ والدّسائس. وقد لخّص تلك الأزمة في البيت الشّهيرين:

شيـــــئـــــان في بـلــــدي    قــــد خيّــــبــــــــا أمـــلــــي
الصّـــــــــدق في القـــــول    والإخـــــــــلاصُ في العمــــــل

وهكذا وقع في مفارقة عاصفة، فإمّا أن يصدع برأيه صريحا جارحا وهو ما لم يعد متاحا، وإمّا أن يصمت ويخنع ويخون ضميره ووعيه وهو أمرٌ لا يُحتمَلُ.
وضعيّته في الإذاعة حيث كان مراقبا للبرامج، وهو موقع حسّاسٌ يُحسدُ عليه، فكان هدفا للمكائد والدّسائس والأراجيف والمؤامرات حتّى بات محلّ تتبّع أمنيّ.

خيبة عاطفيّة مريرة زلزلت كيانهُ وأحبطت عزمهُ وأخمدت لهيب نشاطه، فدخل في حلقة مفرغة من الانهيار العصبيّ فالعلاج فالانهيار من جديد.

إنّ الخيبة التّي مُني بها هي خيبة الشّاعر الموهوب لا تُقدّرُ موهبته، والوطنيّ المتحمّس يُخمد الواقع لهيب حماسته، والموظّف المرموق يتألّب عليه الأعداء فيُرمى في غياهب الإهمال، والعاشق المستهام يهزأُ الدّهر بأمله البكر، فيشعر بالعبثيّة ويفقد المعنى، ذلك أنّه لم يحتمل ما أصاب المجتمع من تشوّهاتٍ وانحرافاتٍ ولم يرض لنفسه الحالمة الطّامحة ما لقيته من تثبيط وجفاءٍ فانتابهُ شعور بالاغتراب دفعه تدريجيّا إلى الهروب والانفصال عن الواقع والانكفاء على النّفس، فأقبل على اللّذات إقبالا شديدا مُفرطا منهجه في ذلك «وداوني بالتّي كانت هي الدّاءُ» كما يذكر شقيقه عبد الرّحيم صمادح في تقديم أعماله الكاملة.

ورشحت من أشعاره أصداء النّزعة البوهيميّة والدّعوة إلى التّهتّك واجتناءاللّذات، فهو يقول في قصيدة ليالي العمر:

تهتّكْ في الهوى ما شئتَ وامرحْ    ولا تُخـــفِ المغبّـــة والمــلامَا
فما تجنــــي سوى اللّذّات فيها    ودع آلامـــها لمـــن استقاما

ولكنّها اللّذّة التّي يحتمي بها من اضطرام حرائق اليأس والخيبة والعدم في نفسه:

في فؤادي مناحــــــة وشُجونْ    وحــــريقٌ وعاصفٌ مجنون
الضّباب الكثيف يغمـر روحي    وضياعــي تحارُ فيه الظّنون
أنا كأسٌ بغير خمـــــرٍ وأُفـــقٌ    مات فيه الضّياءُ فهو دجون
ونشيــــد معــــذّبٌ رجّعـتــه    في أســــاها مزاهري واللّحون
أنا قبــــرٌ دفنـــتُ فيه الأماني    ودمــــوعٌ وفيّـــة لا تخـونْ

جمال الدّين حمدي (1935 - 2000)

قصّةٌ من أشدّ قصص الشّعراء مأساويّة لخّصها صاحبها في الاسم المستعار الذّي راسل به الصّحف والإذاعة في خمسينات القرن الماضي وهو «التّائه الغريب». وُلد الشّاعر بقبلّي سنة 1935 وانتقل مع والده الذّي كان يشتغل بالقضاء إلى العاصمة، انتمى إلى التّعليم الزّيتونيّ حتّى شهادة التّحصيل، وقبل أن يدخل امتحاناتها نشبت خصومة بينه وبين أحد أساتذته انتهت بفصله عن الدّراسة فصلا نهائيّا، ونزل الخبر كالصّاعقة على والده القاضي المثقّف، فأقدم في نوبة غضب جامح على طرده من البيت، وهكذا أُلقي شــــابًّا إلى حياة التّسكّع والضّياع يُجرّبها مرّة عسيرة.

ولم تكفه محنة الطّرد من الجامع الأعظم ومحنة النّبذ من البيت الأسريّ حتّى يبلوه الدّهر بوفاة أمّه وقدوم امرأة جديدة لتحتلّ مكانها، فتعمّقت الأزمة مصطبغة بالحقد والرّغبة في الانتقام. ولم يجد من ملاذٍ سوى أن يزيد إلى غربته النّفسيّة غربة حقيقيّة فاختار الهجرة إلى فرنسا، وهناك انتسب إلى معهد اللّغات الشّرقيّة، ولكنّ ضيق ذات اليد وحياة التّشرّد والضّياع حالا دونه ومواصلة الدّراسة فعاد إلى تونس يجرّ أذيال سعيٍ خائبٍ ومرارة حبٍّ مستحيل بسبب عدم تكافئ المستوى الاجتماعيّ مع أستاذة اللّغات الشّرقيّة «إيفاEva».

تزوّج جمال الدّين حمدي بعد أن انتُدب موظّفا بالشّؤون العدليّة بإدارة الأمن الوطنيّ سنة 1957، ولكنّ هذا الزّواج لم يدم سوى سنوات قليلة وانتهى نهاية فاجعة بسبب الخيانة حسب رواية محمّد صالح الجابري في كتابة « الشّعر التّونسيّ المعاصر» . ولكنّ الشّاعر خلَّد هذه الأزمة المريرة بقصيدة رائعة (ندم ومرارة) تــروي القصّة على لســـان المـــرأة نفســـها:

في طريقـــي أنا أســـير إليه مـــلء نفسي هــواجسي المجنونهْ
وظنــــونٌ تميـــدُ بي عاصـــفاتٍ كاللّيــــالي صـــلابةً ورعــونه
أتُـــرى مـــا يزالُ ينتظرُ الآن رجـــوعي أم أوصــد الباب دونه
خنتُـــهُ خنتُــهُ وقد كنـتُ أقسمتُ مدى العمرِ أنّني لن أخونه

وهكذا تنقّل من صدمة الطّفولة المروّعة وصدمة الشّباب الضّائع إلى صدمة الخطيئة المدوّية فأسلم الشّاعر نفسه إلى قتامة اليأس والحزن:

خيبـــةٌ إثـــر خيبةٍ فجـــرُ عُمرـــي وعـــذابٌ صباحُه ومساؤهْ
وفــــراغٌ أعــــوامـــه قـــد تقـــضّت وبهـــا ودَّع الفُؤادَ رجاؤُهْ

محمّد المهدي بن نصيب (1954 - 2003)

اعتبره بعض النّقّاد أحد « النّواسيّين» الجدد لأنّه اعتنق مذهب أبي نوّاس في التّهتّك والإغراق في اللّذّة الحسيّة. لم ينل درجات علميّة عُليا لأنّ مساره التّعليميّ توقّف عند حدود الباكالوريا دون أن يحصل على شهادتها. ورغم ذلك فقد كان يحمل ثقافة تنويريّة لا بأس بها صهرتها النّقاشات السّياسيّة والصّراعات الإيديولوجيّة التي خاضها مناضلا يساريّا يُحارب التّيّارات الدّينيّة والفكر القروسطي ويُناهض الخانعين للثّقافة التّقليديّة الذين يرزحون تحت ركام الجمود الفكريّ والانغلاق والتحجّر.

واصطبغ شعره بصبغة الكآبة والتبرّم والشّكوى ورثاء النّفس لأنّه كان في قطيعة شبه تامّة مع محيطه بأبعاده المختلفة: فهي قطيعة سياسيّة لأنّه كان ثائرا رافضا لكلّ سلطةٍ، وهي قطيعة إيديولوجيّة لأنّه كان ضائقا كلّ الضّيق بالفكر المتشدّد الذّي أهدر دمه وأصدر في شأنه حكم الإعدام:

مـــــا طعـــــــــمُ الشّــــــــعـــــــــر
وســـاقي تُداعبها قطرات من نهر حياةٍ
والأخــــرى تســــافر نحـــو القــبـــــر
مسجـــون في قمقــــم هــذه اللّعنــات
محكــومٌ إعـــــــداما وبالإثـــــبــــات

وهي قطيعة فنيّة إبداعيّة لأنّ أهل الشّعر والمشتغلين به لم يقدّروا موهبته ولم يقبلوا خياراته الفنيّة الخارجة عن المألوف. ولمّا وجد أنّه مرفوض منبوذ تتعاوره السّهام من جميع الاتّجاهات اعتصم بالخمرة والتّجربة الحسيّة الإيروسيّة عساه يرتوي من ظمإ الحيرة والوحشة، فلا غرابة إذا أن يسميّ مجموعته الشّعريّة الثّانية «قصائد ظامئة».

تتراءى البوهيميّة في النّهاية تجربة إبداعيّة وجوديّة في آن صادرة عن شعور عاتٍ وممضٍّ بهشاشة الوجود الإنسانيّ وانتفاء المعنى. وهي تعكس حيرة عميقة تطوّح بالفرد وتقذف به إلى مجاهل الاغتراب والوحشة، فهو أشبه بأبي هريرة المسعدي « مات في باطنه بعض ما يكون به الإنسان إنسانًا أو عميتْ بصيرةٌ «فيكون ذلك أوّل انحداره إلى نحبه..

د. الحبيب الدريدي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.