محي الدين سليمان المصري: الشــاذلي القليــبي بيـن الآمال والعقبات والنـتائج
بقلم د.محي الدين سليمان المصري - انتقل مقرّ جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس كما هو معروف إثر توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر والكيان الصهيوني) عام 1979، وكانت القاهرة مقرّا للجامعة لمدّة خمس وثلاثين عاما.
وقد اختيرت تونس لتكون المقر الجديد للجامعة العربية لأسباب كثيرة أهمّها واقعية تونس وعقلانيتها واعتدالها وحكمتها، ورصانة نظامها السياسي، كما ساعد على ذلك تناقضات سياسية بينيّة بين أكثر الأقطار العربية، وانتخب لهذه المرحلة الصعبة المفكّر والسياسي التونسي المعروف الأستاذ الشاذلي القليبي أمينا عاما للجامعة فهو ابن نظام بورقيبة العريق الذي تولّى المسوؤلية بعد كفاح شعبي طويل، وصاحب استراتيجية المراحل وصولا إلى الاستقلال التامّ.
الجدير بالذكــــر أنّ تـــونس قرّرت الحفـــاظ على استقــــلالية الجامعة العربية، ممّا أتاح لأمينها العامّ حرية التحرّك في رسم التوحّهات وفِي تنظيم الهيكل العام للجامعة ورفدها بكل الطاقات العربية ومن كلّ الجنســيات وخـــاصة الجنسيّـــة المصرية.
كان الأستاذ الشاذلي يدرك بحكم ثقافته وتجربته الوطنية والقومية أنّ أزمة الجامعة العربية لم تكن في المقرّ فقط ، فالمقرّ يمكن أن يكون هنا أو هناك فكلّ عاصمة عربية يمكن أن تكون مقرّا للجامعة إذا كانت قريبة من الأماني القومية، ورأى أنّ الأزمة تكمن في المبادئ والوثائق الأساسية التي تحكم القرارات كالميثاق والوثائق الأخرى التي وضعت قبل خمس وثلاثين سنة فلم تعد قادرة على التلائم مع إرادة الشعوب العربية وتطلّعاتها إلى تحقيق الأهداف والآمال القومية في الحرية والوحدة وتحرير الأرض المغتصبة، وبخاصّة أنّ هذه الوثائق الأساسية للجامعة كانت وسيلة لتمرير الكثير من الأخطاء أو تفسيرها تفسيرا لا ينسجم مع الواقع العربي بحجج مختلفة.
كما أدرك وبحكم تجربته الثقافية العميقة أنّ الأزمة الأخلاقية السياسية تكمن أيضا في تناقضات مواقف الدول تجاه القضايا المصيرية، وفقْد روح الثقة بينها سواء في التكامل أو التكافل أو التعاون العربي، وأنّ هناك تناقضا أكبر بين إرادة الشعوب وإرادة الحكّام.
ومن خلال هذا الوعي رأى أنّ الوضع لا بدّ أن يعالج عن طريق نشر الوعي القومي وتنميته على كل المستويات ثقافيا واجتماعيا وسياسيا وتربويا، وأنّ ذلك يحتاج إلى مشروع قومي ذي أبعاد شمولية وعلى مستوى الشعوب في الوطن العربي.
وهنا يلتقي فكر الشاذلي المثقف بفكر السياسي المثقف الواعي، ومن هنا أيضا يبدو الشاذلي القليبي الرجل الأهمّ في تاريخ العمل العربي المشترك، فلأوّل مرة يتّخذ مشروع عربي ركيزته الأولى الإنسان العربي وليس الحاكم والسياسي فقط، وهي رؤية جديدة لم تعتد الجامعة على طرحها أو ممارستها.
أمّا وثيقة ميثاق الجامعة العربية فقد وجد الأستاذ الشاذلي أنّ بحثه سيؤدّي إلى اختلاف كبير بين الدول، فرأى أن يؤجّل بحثه إلى حين، ورأى أنّ وضع وثائق مهمة بديلة أخرى تعالج القضايا الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية والتربوية هي الأهمّ في هذه المرحلة، ورأى أيضا أنّ المرحلة تتطلّب تنشيط مؤسّسات العمل العربي المشترك، وعقد لقاءات سريعة متعاقبة لا بد أن تكون الطريق الأقرب لتحقيق إصدار هذه الوثائق. ففي عام 1979 وهو العام الذي أنتخب فيه دعا إلى مؤتمر قمّة يعقد في تونس في شهر نوفمبر بهدف لقاء عربي بعد كامب ديفيد يتجاوز فيه الأزمات السياسية الخلافية، وتقرّر أيضا عقد قمة اقتصادية في عمان.ولتكون الوثائق والقرارات علمية موضوعية متخصّصة دعا أكثر من ثمانين متخصّص في كلّ المجالات العربية لوضع وثائق متخصّصة في هذه المجالات المتعدّدة، وتمّ عقد الاجتماع في الحبانية-العراق في شهر يناير(جانفي) 1980وتمكّن المشاركون
من إصدار الوثائق المهمة التالية:
1- استراتيجية العمل المشترك
2- الميثاق الاقتصادي القومي
3- عقد التنمية العربية
4- الخطّة الشاملة لتنفيذ عقد التنمية
5 - المخاطر المستقبلية للتحدّي الصهيوني.
وفي عام 1980 عُقدت القمّة الاقتصادية في عمّان-الأردن وأقرّت الوثائق الهامّة التي أصدرها الخبراء ومندوبو الدول (في الحبانية-بغداد) وكلّها وثائق هامّة تجاوزت في معانيها ومضامينها وألفاظها ميثاق الجامعة العربية، كما أصدر المؤتمر قرارات بعقد القمة سنويا في شهر نوفمبر من كلّ عام ورفع مستوى تمثيل الدول بحيث لا يقلّ عن رئيس الدول أو نائبه أو رئيس الوزراء.
ومن الملاحظ أنّ هذه القرارات كانت تهدف إلى تجاوز الميثاق وأنّ العمل قد بدأ بتحويل الجامعة العربية إلى مؤسّسة قومية ذات أهداف شعبية متعدّدة، وأنّ مرحلة جديدة قد بدأت في الجامعة العربية.
ومن الملاحظ أيضا أنّ الملوك والرؤساء العرب وقّعوا على وثائق وقرارات على هذا المستوى القومي الرفيع سواء في معانيها أو ألفاظها كالتخلّف والتجزئة والتبعية وهي قرارات وألفاظ لم يكن من السهل وضعها في أية وثائق للجامعة العربية، بالإضافة إلى أنّ بعضها كان شعارات تطلقها الطلائع القومية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.
وهكذا تكون الجامعة وخلال أقلّ من عام واحد على انتخاب الأستاذ الشاذلي القليبي أمينا للجامعة العربية قد وفّقت في تنشيط مؤسّسات العمل العربي المشترك فعقدت قمتين وأصدرت وثائق مهمّة في المجالات الاقتصادية والتربوية (محو الأمية) والثقافية ومجابهة الخطر الصهيوني والسعي إلى نموّ الوعي القومي.
وتوالى عمل الشاذلي القليبي فركّز على وحدة العمل العربي المشترك واعتبر أنّ مؤسّسات العمل العربي المتعددة تشكّل وحدة مع الأمانة العامة لتحقيق أهدافها الفنية المتخصّصة وبذلك أنهى الخلاف الذي استمرّ سنوات بين الأمانة العامة ومنظماتها البالغ عددها 22 منظمة.
كما سعى المرحوم الأستاذ الشاذلي القليبي إلى تحويل مؤسّسة الجامعة إلى ناد يلتقي فيه المثقّفون والمفكّرون العرب من الاختصاصات العربية المتعدّدة فعقدت الندوات التي حضرها جمهور غفير من كلّ الأقطار العربية سعى من خلالها المشاركون إلى رفد الجامعة بأرائهم لتطوير العمل العربي المشترك تمهيدا لشعبنته وإدارته بطرق ديمقراطية وساعد على ذلك وجود المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ومديرها العام الدكتور محي الدين صابر في تونس وبذلك اشترك العربيان في محاولات تحويل الجامعة إلى مؤسّسة قومية.
ولتحقيق الصلة بين الجمهور العربي ومؤسّسات الجامعة خصّص ساعة موحدة اسبوعيا في كلّ الإذاعات العربية سميّت «بيت العرب» تجمع في هذه الساعة التي تذاع في كلّ الدول العربية الأفكار المشتركة للمساعدة في شرح المفهوم القومي وتوثيق العلاقة بين الشعب العربي الواحد، كما أصدر مجلة «شؤون عربية» لتحقيق هذا الهدف الكبير الساعي إلى تنمية النموّ القومي.
وفي هذه الفترة بالذات تطوّرت الظروف العربية نحو الأسوأ سواء في لبنان أو على مستوى القضية الفلسطينية، وعلى مستويات أخرى ليس المجال الآن لذكرها، فانتقل المرحوم الشاذلي القليبي إلى لبنان لإيجاد تسوية للأزمة في هذا البلد وزار كلّ الدول الأوروبية لشرح الأوضاع في الأرض المحتلة والتجاوزات الصهيونية لقرارات الأمم المتحدة ولإدانة العدوان الإسرائيلي. كما زار دولا آسيوية متعددّة لشرح الأوضاع في الأرض العربية المحتلّة ودحضا للعدوان الصهيوني على لبنان ومارس كلّ الوسائل الدبلوماسية والسياسية لنشر حقائق الوضع العربي وخاصة لدعم العراق في حربه ضدّ إيران، وأسّس مكاتب للجامعة العربية لمواصلة هذه المهمّة في أكبر العواصم العالمية، فضلا عن الجهود الكبيرة التي بذلها لتنقية الأجواء العربية، ولاسيّما العلاقات السورية العراقية.
النتائج
وهنا لا بدّ أن يتساءل القارئ الكريم، لماذا وصلت الجامعة العربية إلى ما وصلت إليه؟ تقول سيرة الراحل الكبير إنّه بذل خلال السنوات العشر التي تولّى فيها الأمانة جهدا كبيرا فوضع الوثائق والاستراتيجيات في كلّ المجالات العربية، وعقد القمم المختلفة، وعاش على أرض الواقع العربي بفهم ودراية وخبرة سعيا إلى تحقيق الأهداف القومية العليا متجاوزا كل العقبات وبكل الوسائل الأخلاقية لشق طريق جديد للواقع القومي إلا أنّ الظروف السياسية والتناقض الكبير بين السياسيين واختلاف وجهات النظر وضآلة الطموح وسيطرة اليأس واختلاف مصادر القرار، وضياع الاستراتيجيات كان يمثّل العقبات الكأداء التي حالت دون الوصول إلى الأهداف القومية التي سعى إليها الأستاذ الشاذلي وبذلك قام الراحل الكبير بالواجب الكبير بأمانة وإخلاص ليس من السهل أن يقوم بها أمين عام أو فريق متكامل يؤمن بوحدة هذه الأمة.
كان الشاذلي صاحب رسالة ورغم كلّ الذي حصل فقد أصرّ على مشروعه في وقت وقف فيه الكثيرون يتكلّمون ولكن بدون مشروع، ولا بدّ في هذا المجال أن نورد بعضا من مشروعه:
«إنّ مجتمعاتنا ودولنا والمنطقة العربية بأسرها بأمسّ الحاجة اليوم إلى مراجعة مقاصدها وأساليب التعاطي معها وذلك باتّخاذ فلسفة جديدة للعمل العربي المشترك تقوم على مشروع حضاري يشترك المجتمع في وضعه ويكون من مقاصده تسريع النهضة في كلّ أقطارها حتى لا تبقى المنطقة العربية ممزقة أشلاء متناثرة شبابها يستحي من الانتماء إليها».
وفي عام 1990 عادت الجامعة العربية إلى القاهرة بعد تفعيل المادّة العاشرة من الميثاق التي تنصّ على أنّ القاهرة هي المقرّ الدائم للجامعة العربية، وعقدت القمة في القاهرة في العام نفسه فقرّرت الموافقة على تدويل الحرب ضد العراق بعد احتلاله للكويت.فاستقال الراحل الكبير الشاذلي القليبي من الأمانة العامة.
وهنا لا بدّ لنا من الوقوف احتراما لتلك الشخصية القومية لأسباب كثيرة أهمّها أنّه أعطى للأمّة معنى الأمّة الواحدة بآمالها وطموحاتها وظلّ مؤمنا بالعمل العربي المشترك رغم كلّ النكسات التي أصابته، ورغم كلّ ذلك طرح مشروعا حضاريا لبناء النمو القومي والمهمّ أنّه صاحب رؤية وموقف استراتيجي صلب لا يعرف الارتجال، واستقال هذا الرجل العظيم تعبيرا عن مبدإ قومي أخلاقي ينحني أمامه الرجال.
رحل هذا الرجل لكنّه سيبقى حيّا ما دامت هناك أمّة من المحيط إلى الخليج.
وفيما يلي بعض وقائع هذه الاستقالة:
«كنت منفردا في مواجهة نفسي، فقد كان الأمر يتعلّق بمشكلة خطرة فقد تجنّبت أيّ اتّصال هاتفي مع الخارج، وما كنت أريد أن تتداخل آراء بعض الأصدقاء أو المعاونين مع مشاغل ذاتية، كان لا بدّ أن يكون قراري حرّا , أن أتحمّل مسؤوليته بملء إرادتي، وفي الثالث من ايلول سبتمبر 1990 قرّرت أن أغادر منصبي في صمت أو يكاد حتى لا أصب الزيت على النار في وقت بلغ فيه الشقاق العربي ذروته، إذ لم يكن ثمة درس يلقّن لأحد، فالجميع يشتركون في تحمّل المسؤولية وأنا في المقام الأول إذ لم أتمكّن من تجنيب البلدين الجارين هذه العاقبة الوخيمة لخصومة تافهة وفاجعة في الآن نفسه جعلتهما يتواجهان منذ أســـابيع عدة».
وهكذا استقال الراحل الكبير بأخلاقية ضميرية يندر أن يتحلّى بها مسؤول في منصب كبير كأمين عام للجامعة العربية.
رحم الله الراحل الكبير الأستاذ الشاذلي القليبي.
محي الدين سليمان المصري
دبلوماسي أردني سابق صاحب كتاب «تاريخ العمل العربي المشترك: الآمال والعقبات والنتائج»،
وكتاب «جامعة الدول العربية من كامب ديفد إلى تونس»، نشر وتوزيع مؤسّسات بن عبد الله، تونس
- اكتب تعليق
- تعليق