رشيد خشانة: النهضة وشـركاؤهـا... مـــن حلفـاء إلى غرمـاء
بقلم رشيد خشانة - تواجه الحكومة حاليا أكبر أزمة سياسية، منذ انبعاثها في 29 فيفري الماضي، أساسُها الخلاف المستحكم بين مكوّناتها، بما لم يعد يحتمل المُساكنة، ومن ثمَ بروز الحاجة إلى إعادة تشكيل الائتلاف الحاكم. وقد كانت التباينات واضحة منذ الحملة الانتخابية بين «النهضة» و»التيّار»، وبينها وبين «حركة الشعب»، وبين «التيّار» و»تحيا تونس»... حتى اعتبر البعض الحكومة «كوكتالا» متفجّرا. وأتت مناقشة اللائحة الخاصة بالسياسة الخارجية والدبلوماسية البرلمانية، في مجلس النواب، لتكون الصاعق الذي قوّض الثقة تماما بين الأطراف المؤتلفة، فالعلاقة بين مكوّنات الحكومة بعد تلك الجلسة، ليست (ولن تكون) مثلما كانت قبلها، كما أكّد ذلك بوضوح رئيس حركة «النهضة».
وبتعبير آخر، فإنّ رئيس الحركة وضع رئيس الحكومة أمام خيارين أحلاهما حنظل، فإمّا التخلّي عن وزراء «حركة الشعب» واستبدالهم بوزراء من «قلب تونس» و»ائتلاف الكرامة»، أو تنسحب «النهضة» من الائتلاف. وانسحابُها يؤدي آليا إلى إسقاط الحكومة، وربّما الاتفاق مع رئيس الجمهورية على إعادة تكليف الفخفاخ، أو ترشيح شخصية نهضوية لرئاسة حكومة جديدة.
مُلاطفة
المؤكّد أنّ «النهضة» وعدت «قلب تونس» بإدماجه في الحكومة، والأرجح أنّ هذا الأمر كان النقطة المحورية في اللقاء الذي جمع رئيسي الحزبين في بيت رئيس «النهضة». ولا أدلّ على هذا التوافق الجديد من قول رئيس «النهضة» ردّا على سؤال في الحوار الذي أجرته معه قناة «نسمة» (لصاحبها نبيل القروي) إنّ الوضع الطبيعي هو أن تكون الأحزاب الأربعة الأولى (الفائزة في الانتخابات) في الحكم. كما بشّر في الحوار نفسه، بقرب حصول «تطورات في بنية الحكومة»، موضحا أنّ ما ينطبق على «حركة الشعب» ينسحب أيضا على حزب «تحيا تونس».
في المقابل انتهج قسم كبير من نوّاب «قلب تونس»، في جلسة البرلمان أسلوب المُلاطفة، ولم يُصوّت كثير منهم على اللائحة المُدينة، مُعتبرا تهنئة السرّاج بالمُنجز العسكري مجرّد خطإ دبلوماسي، وليس أكثر من ذلك. كما أغدق نبيل القروي كثيرا من الورود على رئيس «النهضة» مُشيدا بوطنيته، ومؤكّدا أنّ ليست له أيّة مشكلة مع حزب «النهضة»، بينما يذكر التونسيون أنّه كرّر مرات، قبيل الانتخابات الأخيرة، رفضه أيّ شكل من التحالف معها. بهذه الخلفية نفهم دعوة «قلب تونس» إلى التوجّه نحو «وحدة سياسية وطنية تقودها شخصية تمثّل صوت العقل». وهذه دعوة صريحة لربط انضمام «قلب تونس» إلى الحكومة باختيار رئيس حكومة جديد، وهو ما تجلّى من هجوم القروي غير المبرّر على رئيس الحكومة الحالي. غير أنّه قال في الوقت نفسه إنّ من مصلحة تونس توسيع الحزام السياسي للحكومة، لأنّ ذلك سيكون له تأثيرٌ إيجابيٌ. على من؟ على «قلب تونس» وليس على الحكومة طبعا. غير أنّ هذه المسألة لا قول فيها لـ«قلب تونس»، لأنّها تندرج ضمن صلاحيات رئيس الجمهورية.
ائتلاف في باردو وائتلاف القصبة
وفي ضوء ما أظهرته جلسة المساءلة، تقف «النهضة» و«حركة الشعب» على طرفي نقيض في السياسة الخارجية، بما فيها الملف الليبي، الذي سيكون ملفّا تونسيا بامتياز في المرحلة المقبلة. ويجوز القول إنّ الجدل العنيف بين الحلفاء في تلك الجلسة، أظهر أمام الجميع انهيار الثقة وضآلة فرص المُساكنة بين ائتلاف في باردو وائتلاف مُواز في القصبة. فـ«حركة الشعب» تتّهم «النهضة» بإطلاق جحافل الجيش الأزرق الالكتروني للهجوم عليها، و»النهضة» تردّ بأنّ تصريحات قيادات «حركة الشعب» غير مسؤولة وأنّ تصويتها على لائحة رفض أيّ تدخل عسكري في ليبيا سبقهُ تهديد بسحب الثقة من رئيس البرلمان. وبلغ التباعد ذروته عندما صوّتت «حركة الشعب» المشاركة في الحكم، إلى جانب «الدستوري الحرّ» الذي يتزعم المعارضة، وضدّ رئيس البرلمان، شريكهـــا في الائتـــلاف الحاكم.
كما أنّ حزب «ائتلاف الكرامة» مثلا ليس على قلب رجل واحد مع «التيّار» أو «تحيا تونس»، المُشاركين في الحكومة، لكنه كثيرا ما يبدو العضد الأيمن لـ«النهضة» في البرلمان، سواء في المسائل الداخلية أم الخارجية.
وثيقة التضامن الحكومي
من هنا لم يعد الموضوع المحوري هو إصلاح العلاقة بين «النهضة» وشركائها، الذين هاجموها بشدّة في جلسة البرلمان، وإنّما إنهاء الشراكة أصلا، لاسيّما بعد تفاقم الخلاف على وثيقة الاستقرار والتضامن الحكومي. فقبل انكسار الجرة بين «النهضة» و«حركة الشعب» في البرلمان برزت خلافات عميقة أدّت إلى امتناع «النهضة» عن التوقيع على الوثيقة. وقال الغنوشي إنّه رفض التوقيع على وثيقة التضامن الحكومي «لأنّنا لسنا متضامنين، في انتظار الوصول إلى تضامن حقيقي قائم على أرضية مشتركة». ومن غير المستبعد في الوضع الراهن أن تُحفظ الوثيقة في الأدراج، خصــوصا إذا ما تغيّرت مكوّنات الائتلاف. إِلَّا أنّ ضمّ «ائتلاف الكرامة» إلى التشكيلة الحكومية، مثلما تُؤمل «النهضة»، بات اليوم مُربكا لها، بعدما سعت بجميع الوسائل، إلى طمأنة فرنسا والعواصم الغربية عموما، بأنّ نهج الاعتدال راسخ في أذهان قواعدها. وكانت مناقشة مشروع اللائحة التي تقدّم بها «ائتلاف الكرامة»، لمطالبة فرنسا بالاعتذار عن الجرائم الاستعمارية، قمّة الإحراج لرئيس البرلمان. وتتجلّى الأهمية التي يوليها الفرنسيون لمصير مشروع اللائحة، في المكالمة التي استمرت ثلاثة أرباع الساعة بين الرئيسين سعيد وماكرون، والزيارة المستعجلة التي أدّاها السفير الفرنسي لدى تونس إلى مقر «النهضة». والأرجح أنّ الحركة ستعطّل إحالة المشروع على النقاش، تفاديا لإحراجات هي في غنى عنها، لاسيّما أنّ أوضاعها الداخلية تحتاج إلى إعادة ترتيب، بعد الحل المفاجئ للمكتب التنفيذي، والبحث الجاري لإعادة تشكيله. ولا تقلّ هذه الجبهة الداخلية تعقيدا وسخونة عن الملفات الأخرى المتعلّقة بالتحالف الحكومي.
ومن المفروض، عند صدور هذا العدد أن يكون التفويض الذي حصلت عليه حكومة الفخفاخ قد انتهى يوم 11 جوان الجاري، وبالتالي أصبحت مهمّتها أعسر من ذي قبل، إذ عليها أن تمشي بين المسامير لتحافظ على أحجار الائتلاف من التساقط.
المُساكنة ليست مُداهنة
في ظلّ الخسائر الاقتصادية الكبيرة التي تحمّلها الاقتصاد الوطني جراء فيروس «كوفيد19»، والتوقّعات التي تنتظر نموّا سلبيا خلال هذا العام، تحتاج البلاد إلى وقف القصف الإعلامي المتبادل، وإيجاد صيغة للمُساكنة بين الكتل السياسية المؤمنة بالديمقراطية، بعيدا عن المُراكنة والمُداهنة. ويقتضي ذلك تأمين حدّ أدنى من الانسجام بين مكوّنات المشهد البرلماني، مع استمرار وجود معارضة، وإن كانت متشددة وقُصووية على غرار «الحزب الدستوري». ولهذا السبب يكون مفيدا من الناحية الأخلاقية والرمزية الاتفاق على ميثاق للتضامن الحكومي، يلتزم به الجميع، كي لا نرى في المستقبل، من يضع رجلا في الحكومة وأخرى في المعارضة، أو من يجلس بين كرسيين، لتحصيل فوائد من هنا وهناك.
ولابدّ من أن يكون وضعنا الداخلي سليما لكي نتمكّن من استثمار العناصر الإيجابية التي رافقت تعاطي تونس مع الجائحة، والتي شجّعت شركاءنا في الخارج، وخاصّة في أوروبا، على إبداء الاستعداد لتطوير التعاون الثنائي ومتعدّد الأطراف معنا، خصوصا في القطاع السياحي. والمهمّ هو إعادة الأمل للشباب الذي مازال عشرات منه يلجؤون للانتحار على إثر شعورهم بأنّ أبواب العمل والأمل موصدة في وجوههم، والأخطر من ذلك أنّ هذه الظاهرة شملت أطفالا، سنّهم دون الخامسة عشر وهم يمثّلون بحسب إحصاءات علمية، 16 في المئة من إجمالي المنتحرين. أليس لهؤلاء حقٌ في الحياة ... الكريمة؟
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق