أخبار - 2020.06.02

في الذكرى الخمسين لوفاة المرحوم علي الرّيـاحي: نهاية حياة وبـداية أسطورة

في الذكرى الخمسين لوفاة المرحوم علي الرّيـاحي: نهــاية حياة وبـداية أسطورة

بقلم علي اللواتي - أيّ سرّ في بقاء صورة علي الرّياحي حيّة في ذهن التّونسيين رغم مرور عقود خمسة على وفاته، ولِـمَ هذا الشغف بترداد أغانيه في شتّى المناسبات؟ لعلّنا نجد إجابةً عن السّؤال فيما تثيره تلك الأغاني من شجن في الذين أدركوه ، وما ترسمه من صور وأحاسيس للجيل الحاضر الذي يجد فيها من القيم ما يشدّه إلى جذوره ويصالحه مع هويته. لا شكّ أنّ آثار علي الرّياحي (وغيره من كبار المبدعين التّونسيين) تشكّل حلقات وصل قويّة بين الماضي والحاضر وفروعًا عتيدةً في شجرة الرّوح الجماعيّةا المثقلة بثمار من كلّ العصور؛ وما شغف النّاس بأغاني الرّياحي إلاّتمثّلٌ حالـِمٌ لِزمنٍ كان فيه للّحن والكلمة والأداء نكهة خاصّة وحسّ عميق بالانتماء إلى هذه الأرض.

علي الرّياحي خلال طفولته وشبابه مرحلةً تنوّعت خلالها  أساليب الغناء بين محلّيّة ومستوردة؛ وكان أهمّ أسباب ذلك التّنوّع ظهور الفونوغراف بتونس في السّنوات الأولى من القرن العشرين؛ فقد أتى بتقاليد سماع مغايرة لتلك التي عهدها المجتمع من قبل ونقل صوت المنشد أو المطرب من المجالس الخاصّة إلى المقاهي والأسواق ومنها إلى  آفاق لا حدود لها.اندرجت تجربة علي الرّياحي ومسيرته في ذلك السّياق الجديد للممارسة الموسيقية التي باتت تسمح للمغنّيّ بالخروج من دوره المتواضع ضمن التّخت التقليدي ليكتسب أكثر حضورًا وتميّزًا. وذاك ما حلم علي الرّياحي بتحقيقه منذ مراهقته : أن يكون مطربا وملحّنا «عصريّا»، بل أن يقيم تظاهرة بمفرده لا يشاركه فيها مطرب آخر؛ وقد تمّ له ما أراد ولمـَّا يتجاوز سنّ الرّابعة والعشرين.

خطوات أولى على طريق صعب

وُلد علي الرّياحي سنة 1912 بتونس، وتابع تعليمه في المدرسة الابتدائيّة خير الدّين ثمّ  بالمدرسة «الخلدونيّة بسوق العطّارين والتحق بعد ذلك بـ «معهد كارنو» الفرنسي ليغادره في السّنوات النّهائية قبل الباكالوريا. وكان أوّل اهتمامه بالتّصوير الذي تعلّمه على أستاذه بالمعهد الرّسّام المعروف بيير بوشارل (Pierre Boucherle).ورغم أنّ والد علي الرّياحي وعمّه كانا مولعين بالموسيقى والطّرب، غير أنّه  لم يكن متوقّعًا أن يتّجه في يوم ما إلى احتراف الفنّ، فأسرته تنتمي إلى وسط اجتماعيّ محافظ حيث تنتسب إلى الشّيخ العالم، المفتي والشّاعر سيدي إبراهيم الرّياحي (1766 ـــ 1850)؛ ولعلّ الطّريق الذي سلكه الفنّان النّاشئ لم يكن سهلا، إذ اعترف في حديث له بأنّه «ضحّى كثيرا» من أجل تحقيق حلمه؛ أمّا عن تأهيله الفنّي، فهو لم يدرس الموسيقى في مؤسسّة ولم يتعلّم العزف على آلة.

كان الشّغف بالغناء يدفعه إلى التّردّد خفيةً على جار الأسرة الشّيخ الموسيقي وصانع الأعواد عبد العزيز الجميّل ليأخذ عنه بعضًا من التّراث المشرقي ويستمع إلى غناء سيّد درويش والشّيخ الصّفتي والشّيخ أبو العلا محمد. وفجأة وقبل إتمام دراسته الثّانويّة، قرّر مغادرة المدرسة واحتراف الغناء، ولم يكن له في البداية من رصيد سوى أغاني منيرة المهديّة وأمّ كلثوم وعبد الوهّاب، لكن لم يلبث أن دخل مغامرة الإبداع الذّاتي وكانت ثمرتها الأولى، كلمةً ولحنًا،  أغنيّته المعروفة «في ضوء القميرة».

جيل الأغنية التّونسية الجديدة

منذ أواخر العشرينات من القرن الماضي برزت صِيَغٌ جديدة للأغنيّة التّونسيّة من إنتاج فنّانّين تتّسم أعمالهم بالتّحرّر نسبيّا من أنماط الغناء القديمة والتّعبير عن اختيارات ذاتيّة في المواضيع وأسلوب التّلحين والغناء. وكان علي الرّياحي من أبرز المؤسّسين لهذا التّيّار الذي انطلق مع محمّد التريكي بأغنيته «زعمة يصافي الدّهر « وشكّلت ببنيتها المبتكرة وتنوّعها النّغمي، تحوّلاً عن نمط أغنية «الفوندو» التّقليدي؛ وسار على خطى التّريكي آخرون مثل محمد الجموسي والهادي الجويني وعلي الرّياحي وصالح الخميسي وغيرهم. كانوا فرسان حلبة الموسيقى الجديدة وأنتجوا أغنيّة تتميّز موضوعًا وأسلوبًا عن الأغنيّة التّقليديّة التّراثية كما يُنتِجُها المعهد الرّشيدي للموسيقى الذي تأسّس في العام 1934. وقد أراد ذلك الجيل مواكبة التحوّلات الطارئة على الحياة الاجتماعيّة التّائقة إلى الحداثة والمتأثّرة منذ عقود بالرّائج من الموسيقى المشرقيّة، وخاصّة المصريّة، مثل «الدّور» و»الموّال» و»الطّقطوقة»، وببعض الألحان والإيقاعات الآتية من أوروبا أو أمريكا اللاّتينية. 

حفل 1939 بقصر الجمعيّات

ممّا يلفت الانتباه في مسيرة علي الرّياحي، رغبتُه في تأكيد ذاته خارج الأطر التّقليديّة للممارسة الموسيقيّة. لم تعد المناسبات العائلية والجلسات الفنية في المقاهي تُشْبِعُ طموحه فأقدم على تنظيم حفل بإمكاناته الخاصّة يوم 17 ديسمبر 1936 بــ «قصر الجمعيّات الفرنسيّة» (دار الثّقافة ابن رشيق حاليّا) وغنّى فيه بمفرده بمصاحبة فرقة محمد التّريكي التي ضمّت مشاهير الموسيقيين مثل الهادي الجويني وعلي السّريتي ويوسف سلامة وإبراهيم صالح. وقد أخبرني المرحوم علي السّريتي أن الحفل الأوّل لم يحقّق أمل الفنّان إذ كان إقبال الجمهور ضعيفًا؛ ويُروى أنّ أحد المشاركين من الموسيقيين نصح علي الرّياحي أن يمتهن عملا آخر غير الغناء !  ولكن ذلك لم يفتّ في عضده ولم يثْنِهِ عن إعادة الكرّة بعد فترة قصيرة، بإقامة حفل ثانٍ في القاعة ذاتها، موكلاً إعداده هذه المرّة إلى مهنِيٍّ مختصّ في تنظيم الحفلات، وكان النّجاح باهرًا والإقبال كبيرًا؛ وهكذا حقّق ما كان يحلم به في مراهقته مؤسّسا مفهوما جديدا للفنّان ــ المنتج للحفل الفنّي كمشروع ذاتي بما يلزمه من تخطيط ووسائل إنجاز؛ وتلك لعمري تجربة بارزة وغير مسبوقة على طريق «الحداثة» حيث يواجه الفنّان الجمهور في إطار عرض  «بصري»  (show) مع الاهتمام بلباس المطرب وهيئته الخاصّة (look). وقد جلب ذلك النّجاح لعلي الرّياحي اهتمام مؤسّسة الإذاعة التّونسيّة فعمل بها طيلة عقود وسجّل فيها عددا كبيرا من أعماله.

كنز من الأغاني يتحدّى الزّمن

هناك أغانٍ يُشغف به النّاس كلّ الشّغف عند ظهورها وسرعان ما  يتلاشى الافتتان بها فتُنْسى؛ وأخرى قد لا تحظى بقبول كبير عند ولادتها ولكنّها تكتسب القدرة على البقاء إلى ما بعد رحيل مبدعيها, وإلى هذا الصّنف تنتمي أغاني علي الرّياحي التي تُولَدُ بخصائص تدفعها نحو الالتحام بالرّوح الجماعيّة لتصبح جزءًا أصيلاً من رصيد تراثيّ عريق.

إنّ أغنيات مثل «العالم يضحك» و«يا شاغلة بالي» و«زهر البنفسج» و«يا اللّي ظالمني» و«تنساني وتهجرني علاش» و «عايش من غير أمل في حبّك» وأخرى كثيرة مثلها، لا تزال تراثا حيّا يردّده التونسيون من كلّ الفئات وفي مختلف الجهات إلى اليوم، والواقع أنّها باتت مورد رزق لمطربين كثيرين يردّدونها في حفلاتهم الخاصّة أو في الأعراس. ويؤكّد أحد أعماله الأخيرة : «حبيبتي زنجيّة»، شعر نورالدّين صمّود، بأسلوب تأليفها المتقنّ، بأنّ علي الرّياحي من المجدّدين في تلحين القصيد باللّغة الفصحى.كتب علي الرّياحي الكثير من كلمات أغانيه، غير أنّ أكثرها من نظم المرحوم محمود بورقيبة؛ والمعلوم أنّ الأخير هو من أطلق على الفنّان لقب «مطرب الخضراء» فلازمه حتّى نهاية حياته، كما كان يلقّب أيضا بــ «شحرور الخضراء».

أمّا بخصوص الصّنعة والأسلوب فلم يكن بوسع على الرّياحي أن يجدّد الكثير في بنية الأغنية وموضوعها، غير أنّه حقّق في أغانيه تأليفًا طريفًا بين المقام الشّرقيّ والذّوق التّونسي إذ طَعَّمَ النّغم الشّرقيّ ببعض ممّا تعلّمه من «الطّبوع» المحلّيّة، وابتدع من ذلك جملا موسيقيّة أصيلة أضافت إليها العاميّة أصواتها المميّزة وإيقاعاتها الخاصّة حتّى كأنّ المقام الشّرقيّ وُلِدَ تونسيًّا.

وأتى اليوم الذي توقّفت فيه أنفاس علي الرّياحي إثر جلطة دماغيّة وهو على ركح المسرح البلدي؛ في 27 مارس 1970 رحل «مطرب الخضراء» وانقطع «شحرورها» عن الغناء. انتهت حياته تاركة أسى وحسرةً في قلوب مواطنيه، وآذن ذلك ببداية أسطورته كمبدعُ عبّر أعمق تعبير عن الشّخصية التّونسية ولا تزال أغانيه تنبض بالحياة وتتردّد على ألسنة المطربين وعموم النّاس. لقد بنى الفنّان لنفسه شخصيّة متكاملة ككاتب كلمات وملحّن ومطرب خارج إطار «المعهد الرّشيدي»، قلعة الأصالة الموسيقيّة، غير أنّه سرعان ما أقنع جمهوره بأنّه الأعمق أصالة «تونسيّة» في أبناء جيله.

علي اللواتي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.