عامر بوعزّة- تـــوظيف الدرامـا سياسيــا: مـن المــســتــفيـد؟
بقلم عامر بوعزّة - بعد بثّ الحلقات الأولى من المسلسلين التلفزيونيين »قلب الذيب« لبسّام الحمراوي و»الفرقة 27« ليسري بوعصيدة، اضطرت التلفزة التونسية إلى أن تضيف إلى مقدّمة كلّ واحد منهما عبارة تشير إلى إنّه عمل درامي لا علاقة له بالواقع. تمّ التدارك بعد مواجهة ضغط شعبي كبير شهدته صفحات التواصل الاجتماعي في ردّة فعل انطباعية أولى مخيّبة للآمال، لا سيّما أنّ العملين قُدّما قبل العرض بطريقة مثيرة، فالأوّل تمّ تسويقه بوصفه مسلسلا يحمل رؤية مغايرة لتاريخ المقاومة المسلّحة في تونس، وفجّر نزاعا قضائيا أوّل من نوعه بين التلفزة العمومية وإحدى قنوات القطاع الخاصّ حول أحقيّة كلّ طرف منهما في اقتنائه، أمّا الثاني فتمّ الترويج له باعتباره أوّل مسلسل عن المؤسّسة العسكرية.
ذلك مع موجة من الانتقادات الموجّهة عربيا إلى الأعمال الدرامية الرمضانية وما تنطوي عليه من توجيه سياسي، وانصبّ الاهتمام في هذا الخصوص على المسلسل الكويتي «أم هارون» الذي صُوّر في الإمارات وتدور أحداثه حول التمييز في معاملة اليهود داخل المجتمع الخليجي مع تنامي الحركة الصهيونية. فقد اتّهم هذا العمل بتشويه الحقائق التاريخية والتمهيد للتطبيع مع إسرائيل، كما يواجه المسلسل السعودي «المخرج7» نفس التهمة لكن بحدّة أكبر، إذ اعتبر بعض النقّاد أنّ الأمر في هذه الحالة أخطر من مجرّد مسلسل وتطبيع، إذ يرون أنّ هذه الأعمال وسيلة سياسية للتأثير النفسي في الشعوب بهدف إخضاعها لتقبّل فكرة الاعتراف بإسرائيل.
وفعليا كان للدراما التلفزيونية هذا العام صدى في الأوساط السياسية، فوزارة الخارجية الإسرائيلية ندّدت في بيان لها بالمسلسل المصري «النهاية» الذي ينتمي إلى فئة الفانتازيا والخيال المستقبلي، وتدور أحداثه في زمن تمّ فيه تحرير القدس في حرب توصف على لسان إحدى الشخصيات بأنّها «انتهت بسرعة وتسبّبت في تدمير دولة إسرائيل الصهيونية بعد أقلّ من مئة عام من قيامها»، وعلّق المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي عمّا اعتبره «ردود فعل كارهة لليهود» قائلا: «إنّنا اليوم لسنا شعبا مغلوبا على أمره يستغيث بالآخرين، وإنّما دولة عاقدة العزم على النضال من أجل سلامة وأمن مواطنيها».
ثمّة إذن مؤيّدات قوية على أنّ التداخل بين السياسة والدراما أصبح أمرا واقعا في البلدان العربية وأنّ كثيرا من المضامين الفنية لا يمكن عزلها عن سياقها التاريخي وعن وظيفتها الثقافية، لما تمتاز به الدراما التلفزيونية من قوة تأثير على الصعيد النفسي. وتفرض هذه المؤيدات نفسها في الأعمال الدرامية التي قدّمتها التلفزة الوطنية بشكل تفقد معه العبارة التي تشير إلى أنّ العمل خيالي ولا صلة له بالواقع أيّ معنى، وهي قرائن موضوعية تتعلّق بالأحداث الدرامية والشخصيات والأفكار الأساسية التي تريد هذه الأعمال تجذيرها في ذهن المتقبّل وغرسها في وجدانه.
النموذج الأوّل مسلسل «قلب الذيب» الذي تنطلق أحداثه العام 1948، وتتعلّق بدور المقاومة في الضغط على سلطة الاستعمار بعمليات مسلّحة في الجبال والتضاريس الوعرة. ويرتكز الجانب الدرامي في هذا العمل على مواقف كلاسيكية تتعلق بالشرف والخيانة والثأر والبطولة، وقد نبّه عدد من المؤرخين منذ الحلقات الأولى إلى وجود أخطاء تاريخية فادحة في السيناريو والإخراج.ومن السهل على المشاهد أن يلاحظ من تلقاء نفسه وبمحض المقارنة مع أعمال أخرى بساطة المعالجة الدرامية في هذا العمل وسطحية الرؤية الفنية، فقد تصرّف كاتب السيناريو في تصويرالنضال المشترك بين التونسيين والجزائريين دون معرفة دقيقة بالخلفية التاريخية وقدّمه في شكل رومنسي مثالي، والحال أنّه لا يمكن فصل علاقات التعاون بين الحركات الثورية في بلدان المغرب العربي عن سياقها التاريخي والإيديولوجي الحقيقي فهي في الأصل ثمرة عمل قام به زعماء الحركات الوطنية منذ الحرب العالمية الثانية وأفضى إلى إنشاء مكتب المغرب العربي عام 1947ولجنة تحرير المغرب العربي عام 1948، ولئن كان القادة متفقين من حيث المبدأ على العمل المشترك في مواجهة مستعمر واحد، فإنّ المدى الذي يمكن أن يبلغه هذا التعاون كان جوهر الاختلاف، فشقّ يرى أنّ فكرة المغرب العربي تعني التضامن والتنسيق وشقّ يطمح إلى الوحدة العضوية، من ذلك أنّ وفدا جزائريا جاء في جانفي 1949 للتباحث مع الحزب الحرّ الدستوري حول خطة إنشاء جبهة كفاح مغاربية موحدة لكن صالح ابن يوسف تردّد بشأن ذلك و شكّك بنجاح مغامرة لم يضعها حزبه في الحسبان وردّ على محدثيه بالقول «إنّ أي توحيد للجهود يعرقل استقلال تونس وهي تختلف في وضعيتها عن الجزائر التي تعدّ مستعمرة فرنسية»
لكن «قلب الذيب» لم يكن معنيا البتة باحترام التاريخ والمواضعات المألوفة في مثل هذه الأعمال الدرامية، وقدّم قراءة لمرحلة محددة من تاريخ الكفاح الوطني تغلب عليها النوازع الذاتية لجيل من «المثقفين» يتكئ في مطالعاته على تدوينات الفايسبوك والثقافة الشعبوية الطاغية، وهي لا تخرج عن إطار الفكرة المرجعية للتنظيمات الراديكالية التي تقدم نفسها متحدثة باسم الخط الثوري والتي لا تعترف بوثيقة الاستقلال، وترى أنّ الحداثة في مجتمع اليوم وليدة العقلية الاستعمارية (أيتام فرنسا)، وأنّ الاستعمار يواصل إلى اليوم نهب ثروات البلاد التونسية وخيراتها وعلى رأسها الملح والبترول! هذه القراءة تسعى دائما إلى تخوين القيادة السياسية للحركة الوطنية وتعكير صورتها الرمزية وقد رأينا في المسلسل ولأوّل مرة في التلفزيون الرسمي المناضلين الدستوريين في الخمارات والكاباريهات وبشخصيات ضعيفة خانعة ومهزوزة وبلا فاعلية تذكر! كما إنّ المسلسل لم يذكر الزعيم التاريخي للحركة الوطنية وغيّبه تماما وبدا المؤلف متلهّفا للوصول إلى فكرة الولادة الرمزية الناتجة عن اغتصاب معمّر فرنسي لفتاة تونسية ليكرس فكرة تجذر الاستعمار في المجتمع التونسي.
في مسلسل «الفرقة 27» توجد مفارقة مثيرة للاستغراب والسخرية، فبعد لحظات من عرض الشارة التي تنفي أي علاقة للعمل بالواقع، تظهر الفقرة الدعائية للمؤسّسة البنكية الراعية للمسلسل والتي تصفه بأنّه «أول مسلسل عن المؤسسة العسكرية في تونس»!، ولئن كانت الغاية المعلنة هي الاحتفاء بدور الجيش التونسي في محاربة الإرهاب وتضحياته الجسيمة فإنّ المسلسل يقدم الظاهرة الإرهابية بشكل نمطي معروف في الدراما التونسية، حيث لا صلة للإرهابيين بالإسلام السياسي إنّما هم دائما صنيعة شبكات أجنبية لها امتدادات في الداخل تمثلها عائلات بورجوازية متنفذة وتشرف بحكم موقعها وقربها من السلطة ومراكز القوى والنفوذ على تسيير الاقتصاد الموازي عبر إدارة شبكات التهريب.
وإذا استثنينا مسلسل «يوميات امرأة» الذي أنتج العام 2013 والذي صوّر عملية غسيل دماغ خضع لها شاب يعاني من مشاكل نفسية واجتماعية بعد انتدابه من قبل التيار السلفي في أحد مساجد جربة، فإنّ جلّ الأعمال الدرامية تتحاشى الخوض في علاقة الإرهاب بالتيارات الإسلامية وإن فعلت فإنّها تجعل من الإرهابي شخصا مزيفا مارقا ينتحل صفة المتطرف الديني ولا يمثلها حقيقة (ناعورة الهواء، الجزء الثاني 2015). بعض الأعمال الأخرى تملّصت بذكاء شديد وبحبكة فنية راقية من نمطية العلاقة بين الإرهاب والتهريب (الدوامة 2017) أما مسلسل «الفرقة 27» فقد جعل من فيليب رجل المخابرات الأجنبية البطل الخارق الذي يتحكم في كل شيء وجعل من العناصر الإرهابية مجرد كومبارس في يد عصابة غايتها تهريب أجهزة التلفزيون والمكيّفات لبيعها في سوق المنصف باي! ويقف وراءها رجل أعمال سلطته لا تقاوم وبإمكانه أن يشتري بثروته كل شيء.
ولئن كان المستوى الفني الهزيل الذي قدّمت به هذه الأطروحة ينزع عن المسلسل أي إمكانية للتأثير النفسي وأي خطورة على الوجدان الجمعي فإنّه من المهم أيضا الانتباه هنا إلى أنّ صاحب هذا العمل لم يفعل شيئا غير استدعاء المقولات الرائجة في الوسط السياسي الواقعي وإخراجها في مظهر درامي. فكثير من محترفي السياسة والقيادات المرموقة يؤمنون بأنّ الإرهاب صنيعة المخابرات الأجنبية وأنّ شبكات التهريب والاقتصاد الموازي هي التي تقف وراء التفجيرات والعمليات الانتحارية، وهم ينزعون عن الإرهاب في تونس كلّ صلة بالإسلام السياسي والتطرف الديني وها هي التلفزة تقدّم هذه الرؤية الشعبوية التي يتبناها (ويا للمصادفة!) المتحدثون باسم الخط الثوري ذاتهم. فالذين لا يؤمنون بالدولة الوطنية المستقلة هم ذاتهم الذين يفسرون الإرهاب دائما بأنّه من صنع المخابرات الأجنبية. وهذه النظرية باقية وتتمدد. لا يمكن الاستهانة بدور الدراما في تغيير الحقائق فعلاوة على كونها أداة فعّالة للتأثير النفسي تعمل المسلسلات على صنع النماذج وترسيخ القيم في الاتجاهين السلبي والإيجابي،ومثلما يجتهد المبدعون التونسيون في تجريد الظاهرة الإرهابية من أي علاقة بالإسلام السياسي عندما يتناولونها تلفزيونيا (الأمر مختلف في السينما) فإنّ الدراما المصرية تذهب في الاتجاه المعاكس تماما، حيث تمعن عبر ميزانيات ضخمة وأعمال متتالية في تعرية الجانب الدموي لتنظيم الإخوان المسلمين على مرّ التاريخ، وفي أحدث الأعمال المميزة هذا العام يصور مسلسل «الاختيار» قصة حياة أحمد منسي شهيد المؤسسة العسكرية والإرهابي المنشقّ عنها «هشام عشماوي». والمسلسل وإن كان يعكس بوضوح وجهة النظر الرسمية ويمجد المؤسّسة العسكرية فإنّه قد صيغ بإتقان لا يضاهى، ولئن كانت التلفزة التونسية واقعة تحت تأثير إكراهات سياسية تحدّ من اختياراتها وتفرض عليها عرض مضامين خلافية مستفزة فإنّ ما تؤاخذ عليه حقا هو التفريط في موقعها المرجعي، فهي المؤسّسة الوحيدة القادرة اليوم على تمويل أعمال تاريخية حقيقية ينتدب لها كبار المحترفين من كتاب السيناريو والمحققين، كما يمكنها تذليل الهوة الفاصلة بين عالم الرواية وعالم الدراما باقتناء حقوق بعض الأعمال الأدبية وتحويلها إلى أعمال تلفزيونية، وفي هذا السياق لا يدري أحد لماذا تعطلت فكرة المسلسل المأخوذ من رواية البشير خريف «الدقلة في عراجينها» وقد شرع فعليا في تنفيذه منذ سنوات بعيدة.
لكنّ أخطر ما يمكن أن يؤاخذ عليه التلفزيون هو تساهله في التعامل مع الصناعة الدرامية، فبينما ينتظر منه أن يصوغ كراس شروط يحمي الاختصاصات الفنية الدقيقة ككتابة السيناريو والمراجعة الدرامية والتدقيق اللغوي والتحقيق التاريخي...الخ، نجده يتعامل بسهولة مع فكرة «الوان مان شو»، ويقتني بأموال المجموعة الوطنية أعمالا يقوم فيها المخرج بدور السيناريست والمؤرخ ومصمّم الديكور ويتقمص أحد الأدوار أيضا، ويتعارض هذا بوضوح مع مقتضيات الجودة وضرورة احترام المشاهدين والحفاظ على الرصيد الوطني من الأعمال الدرامية الناجحة وتنميته، فالمستوى الهزيل الذي بدا عليه مسلسل «الفرقة 27» على عدّة مستويات يطرح أكثر من استفهام حول الآلية المعتمدة حاليا في اختيار الأعمال الدرامية وتمويلها وما إذا كانت مطابقة لقواعد الحوكمة الرشيدة والشفافية ومحيّدة فعلا عن أيّ مؤثّرات جانبية.
عامر بوعزّة
- اكتب تعليق
- تعليق