أخبار - 2020.05.26

عبد الحفيظ الهرقام: الشاذلي القليبي سياسيّا ووطنيّا

عبد الحفيظ الهرقام: الشاذلي القليبي سياسيّا ووطنيّا

ما يعرف عن الراحل الأستاذ الشاذلي القليبي أنّه شخص شديد الاتّزان، هادئ الطبع، نقيّ السريرة، يميل إلى العمل الرصين، مع دقّة وثبات لافتين، بعيدا عن صخب السياسة ويؤثر الأفعال على الأقوال، وهو ما يستوجب ممّن يروم استجلاء جذور وعيه الوطني وملامح مقاربته للعمل السياسي وأسلوب تعامله مع مختلف المسؤوليات التي نهض بأعبائها سبر أغوار عالمه واستكناه دوافع مواقفه وتحليل منطلقات فكره، من خلال المحطّات التي ميّزت حياته، وبالرجوع  إلى خطبه وكتاباته، علاوة على استقراء حصيلة منجزاته، لأنّ الشاذلي القليبي، رجل الفكر والسياسة، هو رجل براغماتي بالأساس.

لكي نستكشف عالم الأستاذ الشاذلي القليبي الرحب ونتبيّن العوامل التي ساهمت في نحت شخصيّته وأثّرت في  تشكّل وعيه الوطني، لا بدّ لنا من أن نعود إلى فترة طفولته، و«الطفل أب الإنسان» كما قال الشاعر الإنقليزي ويليام وردزور (William Wordsworth). ولعلّ ما يسترعي الانتباه أنّ رجالا كان لهم  دور حاسم في رسم معالم طريق السيد الشاذلي القليبي، بدءا بعمّه إبراهيم الذي تدخّل لترسيمه بالفرع الصادقي، في الوقت الذي كاد فيه الطفل أن ينخرط في مدرسة قريبة من المنزل العائلي، والفرع الصادقي يمتاز إذّاك عن سائر المدارس الابتدائيّة بمستوى عال في تعليم العربيّة والفرنسيّة. وعلى يدي معلّمه الشيخ «محمّد الزغواني» تعلّم مبادئ اللغة والنحو والصرف ونهل من منابع الإسلام السمحة و جبل على مكارم الأخلاق، علاوة على ما تلقّاه من أسرته المحافظة من تربية أصيلة، فكان منذ الصبا متيقّظا إلى أهميّة الدين في الحياة.

عندما أحرز الشهادة الابتدائيّة تباينت الآراء في العائلة حول وجهته الدراسيّة، هل يلتحق بالمدرسة الصادقيّة أم بالمدرسة الفرنسيّة؟وقد أصرّ هذه المرّة زوج عمّته محي الدين القليبي، مدير الحزب الحرّ الدستوري، على أن يتقدّم إلى مناظرة الالتحاق بالصادقيّة، وكأنّ القدر أراد أن يكون الشاذلي القليبي صادقيّا.

تأثير المدرسة الصادقيّة فيه 

لقد كانت الدراسة بالمعهد الصادقي مرحلة مفصليّة في حياته، فبفضل مشائخ الزيتونة، عمر العدّاسي والبشير النيفر ومحمّد الفاضل ابن عاشور والمختار بن محمود تشبّع بروحيّة الإسلام وعرف جمال اللغة العربيّة وإمكاناتها الخطابيّة. وأخذ عن أستاذه عبدالوهاب بكير قواعد الكتابة أمّا أستاذه محمود المسعدي فأيقظ فيه موهبة الفكر وعرّفه منزلة الأدب. ومن خلال أساتذته الفرنسيّين، عرف الشاب اليافع تاريخ المستعمر وأدرك أسباب تقدّم الغرب واكتشف كنوز الحضارة الفرنسيّة في شتّى مجالات الإبداع الفكري والأدبي. وكان ما يتلقّاه من هؤلاء الأساتذة من علوم ومعارف مصدر انبهار يختلط بالمرارة، إذ سرعان ما يزول بمجرّد مبارحته  فضاء المدرسة ليصطدم  بحالة الذلّ والهوان التي يعيشها شعب مولّى عليه يتوق إلى الحرية والانعتاق.

يقول السيد الشاذلي القليبي في هذا الصدد: «كان الاستعمار ...سياسيّا واقتصاديّا وكان أيضا ثقافيّا وحضاريّا: مستمسكا بالحكم، مستأثرا بالثروات، متطلّعا إلى أن يملك العقول، ليفرض نِظرته إلى مصير البلاد. وفي كلّ ذلك، كان تأثير عميق، ولو من طرف خفيّ، لجدليّة العلاقة بين الغالب والمغلوب- التي كان ابن خلدون  أوّل من أشار إليها - وما تنشئه في النفوس من نزاع بين العَداء والإعجاب، وما تدفع إليه من رغبة في تقليد المستعمر والاقتداء بأحواله، مع دوام التصميم على مقاومة سيطرته، هذه الثنائيّة الأليمة - المراوحة بين الرفض والانجذاب، بين الانبهار والأنفة ، بين إرادة الكفاح والانعطاف اللاشعوري -هذه الثنائيّة كانت تؤازر المساعي الوطنيّة، ولكنّها تخدم أيضا بعض الأهداف الاستعماريّة، من طرف خفيّ، فلا نستطيع مغالبتها».(1)

ولاشكّ أنّ العديد من أترابه كان يتملّكهم مثل هذا الشعور بالتمزّق  والانفصام، المثير لحسّ وطنيّ مكين ، لاسيّما وأنّ قادة من الزيتونة والصادقيّة تصدّوا لما للاستعمار من تأثير ثقافي .» ولم يكن أقلّها شأنا في إحياء الضمير واجتهار منابع الذاتيّة التونسيّة لدى تلاميذ الصادقيّة ما كانوا يسمعونه من أساتذتهم علي البلهوان ومحمود المسعدي وعبد الوهاب بكير ومن مشائخهم، ...كلّ في مجاله وكلّ بأسلوبه الخاصّ ....وكان لكلّ منهم، في فترة التوثّب الوطني ...موقع في الأنفس ودويّ في  المجتمع».(2)

وحين عزم الشابّ الحاصل على شهادة الباكالوريا وشهادة انتهاء الدراسات الصادقيّة على دراسة الطبّ بباريس، تدخّل أستاذه محمود المسعدي فدعاه في رسالة مقتضبة إلى التوجّه نحو اختصاص فيه نفع كثير للبلاد، ففهم القصد من هذه الكلمات والتحق بكليّة الآداب بجامعة السربون. هل كان الأستاذ يتنبّأ لتلميذه النابغ بمستقبل سياسي واعد؟

وهل قدّر أنّ دراسة الأدب هي المسلك الأقوم لخدمة الشأن العام والمعبر نحو تحقيق الذات واكتساب منزلة في الوجود؟ ولعلّ صاحب «مولد النسيان»  كان يرى في انغماس القليبي في عالم الأدب والفلسفة مولدٓ ضمير يقظ وفكر متوهّج لديه، هما خير سلاح يتمكّن به شابّ مثله من أن يسلك طريقه في خدمة وطنه.

تلازم الأخلاق والسياسة

في باريس،التي كانت تعتمل فيها تيّارات سياسيّة وفكريّة مختلفة وتنضح بنشاط ثقافي وفنّى حثيث، واظب الطالب الشاذلي القليبي ،إلى جانب دراسة اللغة والآداب العربيّة، على حضور عديد المحاضرات وحرص على نيل شهادات في علم النفس وعلم الاجتماع والأخلاق والفلسفة العامّة. وعلى الأرجح، أنّه درس، في هذا الإطار، العلاقة بين الأخلاق والسياسة، ولعلّه خلص إلى الإقرار،متأثّرا بأرسطو، صاحب كتاب «السياسة»، بأنّ التزاوج بينهما ضروريّ ومطلوب، وبأنّ هدف السياسة ليس في نهاية الأمرإلّا تحقيق الخير الوفير للمجموعة.وقد لا أجانب  الصواب إن أكّدت أنّ الشاذلي القليبي،كان دوما على هذا الرأي، انطلاقا من عمق إيمانه بالقيم الإنسانية ومواظبته على الشأن الديني شعورا وفكرا-باعتبار الدّين معين الأخلاق-  وأنّ تلازم الأخلاق والسياسة هو من ركائز فكره السياسي وثوابته.

الشاذلي القليبي مدرّسا ونقابيا وصحفيّا

وحينما عاد إلى تونس بعد إنهاء دراسته بباريس، انخرط في سلك التعليم واستهواه النضال النقابي، فنشط في هذا المجال، إذ كان أستاذه محمود المسعدي يشرف على نقابة التعليم الثانوي، ثمّ انضمّ الى الفريق العامل  حول صديقه السيد أحمد بن صالح لمّا انتخب أمينا عاما للاتحاد العام التونسي للشغل واضطلع بإدارة صحيفة «صوت العمل لسان الاتحاد بمعيّة شقيق الأمين العام.

كما كان للأستاذ الشاذلي القليبي نشاط بارز في ميدان الصحافة ، إذ هو من بين مؤسّسي جريدة «الصباح»ومجلّة «الندوة» وأحد كتّاب افتتاحيّة  جريدة « l’Action» الناطقة باسم الحزب الحرّ الدستوري باللغة الفرنسيّة، وبذلك أضحى اسمه معروفا في الأوساط التربويّة والنقابيّة والصحفيّة على حدّ سواء، ممّا يسّر له خوض غمار الحياة السياسيّة.

مسيرته السياسية 

دخل عالم السياسة من بوّابة الإذاعة لمّا عيّنه الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة سنة 1958 على رأس هذا الجهاز الإعلامي الوطني، في وقت كانت فيه البلاد تعيش ظروفا دقيقة، جرّاء تداعيات الخلاف المحتدم بين بورقيبة وصالح بين يوسف وما نجم عنه من انقسامات في صفوف الحزب ومخاطر كادت تهدّد البلاد والعباد. وكان على السيد الشاذلي القليبي أن يردّ بعقلانيّة ونجاعة على الحملات الإعلاميّة ضدّ تونس وزعيمها، فضلا عن  تركيز الجهود، برامجيّا، على الإسهام في تمتين الوحدة الوطنيّة والتعريف بسياسة الدولة الفتيّة وتعبئة الطاقات الحيّة من أجل إنجاحها. وعلاوة على هذين البعدين السياسي والإعلامي، اصطبغ إنتاج الإذاعة بطابع ثقافي جليّ، وفي عهده أرسيت تقاليد عمل وأقّرت توجّهات ظلّت راسخة إلى الآن.

ولا شكّ أنّ النجاحات التي حقّقها الأستاذ الشاذلي القليبي خلال إدارته للإذاعة التونسيّة ، كانت من العوامل التي  أهّلته  لتحمّل مسؤولية  تأسيس وزارة الشؤون  الثقافيّة بعد أن نال التصوّر الذي قدّمه بشأن أهدافها وخطط عملها استحسان الرئيس بورقيبة.

وانطلق الوزير في تجسيم رؤيته للعمل الثقافي الذي يعتبره عاملا مساهما في مقاومة التخلّف، والتخلّف أصله ثقافي وفكري وحضاري، وكذلك في تنمية هويّة الشعب التونسي وتطوير المجتمع مع الحفاظ على مميّزاته الاجتماعيّة والاخلاقيّة بما فيها انتماؤه إلى الحضارة العربيّة الإسلاميّة. وأبدى السيد الشاذلي القليبي حرصا شديدا على أن يكون العمل الثقافي عامل انفتاح على الحضارات الإنسانيّة، فكانت المهرجانات الدوليّة وفي مقدّمتها مهرجان قرطاج وأيّام قرطاج السينمائيّة ومعارض الكتاب، ومعارض الفنون التشكيليّة، وعروض الموسيقى والمسرح، فضلا عن الأنشطة الثقافيّة الأخرى التي لم تقتصرعلى المدن الكبرى، بل شملت أيضا البلدات الصغرى في شمال البلاد بدون استثناء، وذلك من منطلق أنّ الثقافة لا ينبغي لها أن تستهدف النخب فحسب. وقد صرفت جهود جبّارة، رغم تواضع إمكانات الدولة الفتيّة، في سبيل إضفاء طابع جماهيري على العمل الثقافي بكلّ انساقه ،فكانت دور الشعب والثقافة، ونشر المكتبات العموميّة وإطلاق حافلات السينما المتجوّلة التي كانت تجوب المدن والقرى وعمّت الأنشطة الثقافيّة مختلف الأرجاء. وقد أحاط الأستاذ الشاذلي القليبي به ثلّة من أفضل المثقّفين وفسح لهم مجال الاجتهاد والابتكار والإبداع، وذاك كان أسلوبه المميّز في التسيير.   

وهو الأسلوب نفسه الذي انتهجه لدى إشرافه على قطاع الإعلام، وكان له فيه دور رائد من حيث رسم سياساته وتوجيهه نحو التعريف ببرامج الدولة وخدمة أهدافها.

وأذكر أنّ الأستاذ الشاذلي القليبي كان يتهيّأ للالتحاق بمنصبه، سفيرا لتونس بالقاهرة ، بعد خروجه من الحكومة، وإذا بالرئيس يقرّر العدول عن هذا التعيين ويدعوه ليكون إلى جانبه، مديرا للديوان الرئاسي، تقديرا لما كان يتحلّى به من كفاءة عالية ونزاهة وتكتّم.

لقد وجد فيه رئيس الدولة المسؤول المناسب لتقلّد هذا المنصب، والرجل المتشبّع بفكرالرئيس، القادرعلى التعبير عن رؤاه الثاقبة  في العديد من المسائل الجوهريّة، كالاجتهاد في الإسلام ونبذ التطرّف والتعصّب الفكري والقضيّة الفلسطينيّة والعلاقات الدوليّة والانفتاح على الغرب.

علاوة على ذلك، يتميّز السيّد الشاذلي القليبي بتمشّ سياسي نابع من طيب الخلق يدفعه دائما إلى النأي بنفسه عن الدسائس والمناورات -وكم هي كثيرة في عالم السياسة!- وتجنّب الدخول في صراعات الأجنحة، سواء في الحزب أو في الحكومة، وكان ديدنه الحرص الدائم على الحفاظ على تماسك الدولة وهيبتها.فالكثير يشهد أنّ السيد الشاذلي القليبي لم يكن يوما تابعا لشقّ في الحكم أو طرفا في خصومة سياسيّة، بل كان سيّد نفسه، متناغما مع ذاته، وفيّا لأصدقائه ورفاق دربه، الأمر الذي جعله الصديق الودود للجميع.

نشاطه الفكري بعد الجامعة العربية 

وفي أواخر سبعينات القرن الماضي، كُتب للأستاذ الشاذلي القليبي أن يبارح الساحة السياسيّة الوطنيّة ليلتحق بفضاء أرحب، هو فضاء العمل العربي المشترك والعلاقات الدوليّة ، قبل أن يتحالف الكبر والمرض على الرئيس الحبيب بورقيبة. وبفضل مراكمة تجربته السياسيّة الواسعة ورؤاه الحصيفة المبنيّة على العقلانيّة والاستشراف اقتدر أن يحوّل جامعة الدول العربيّة إلى منظّمة رائدة وأظهر في إدارة شؤونها ما به جلب له تقدير القادة العرب وكبار الساسة في العالم، وبرهن عن حنكة سياسيّة لافتة في التعامل مع القضايا المتشعّبة المطروحة إذّاك ، مواجها التناقضات العربيّة واختلاف الأمزجة والأهواء بحكمة وصبر وأناة.

حافظ على استقلاليّة الجامعة وصان هيبتها وحماها من كلّ تدخّل في شؤونها، ممّا أكسبها سلطة أدبيّة أقوى  وقدرة أكبر على الصمود أمام أحداث عاصفة كانت تهزّ الوطن العربي وتزعزع أركانه.

بعد استقالته من الجامعة، إثر الغزو العراقي للكويت، لم تكن الساحة السياسيّة في تونس لتستهوي السيد الشاذلي القليبي وأمثاله من السياسيين، لما كانت تشكوه من انسداد الآفاق وضيق هامش التحرّك، فاكتفى بإطلالات في مناسبات وطنيّة وحزبيّة محدودة. وعادة ما ينزع المرء، إثر الخروج من دائرة الأضواء، إلى الانكماش والانزواء، لكنّ الرجل ،أقبل على حياة جديدة ملؤها التأمّل والبحث والكتابة، وظلّ دائما متيقّظا إلى واجب المثقّف في التفكير في  قضايا مجتمعه وأمّته وفي تناول شواغل عصره. وفي حواره مع الإعلاميّة الفرنسيّة جونوفياف مول ( Geneviève Moll) الذي صدر في كتاب باللغة الفرنسيّة يحمل عنوان « الشرق والغرب، السلام العنيف»(3) قدّم بعمق وجهات نظره بشأن العديد من المسائل السياسيّة والحضاريّة، كتأثيرات حرب الخليج في علاقات الدول العربيّة بالغرب، والعالم العربي في القرن الحادي والعشرين، ووزنه في ظلّ نظام العولمة. وتصدّى في جانب مهمّ من الكتاب لما يعتبره، في تقديري، من أوكد الفرائض التي على المثقّف المسلم أن يؤدّيها إزاء دينه وحضارته،ألا وهو نشر رسالة الإسلام الخالدة وإبراز ما يتميّز به من إعلاء لقيم التسامح والاعتدال والوسطيّة، دحضا لافتراءات أعداء الاسلام وردّا على دعاة العنف والتطرّف والانغلاق. 

واستثمر الأستاذ الشاذلي القليبي، من ناحية أخرى،المسافة الزمنيّة التي تفصله عن مراحل حاسمة  في العهد البورقيبي وأحداث عاشها ليخضعها لقراءة متأنّية، فأبدى رأيه في جملة من المواضيع، بنظرة ثاقبة وعين ناقدة، كموضوع الفصل بين التعليم الزيتوني والتعليم العصري وموضوع الديمقراطيّة والحريّات التي يعدّ غيابها من سلبيات الحكم البورقيبي وقد أشار إليه في كتابه المترجم من الفرنسيّة إلى العربيّة بعنوان «أضواء من الذاكرة، الحبيب بورقيبة» بقوله: «كان الحبيب بورقيبة مقتنعا بأنّ التنمية وحدها قادرة على خلق مجتمع حرّ. ولكن لا أحد من حوله كان يعتقد آنذاك أنّ التنمية والحريّة هما ثنائيّ يمكن، بل يجب أن يفضي كلّ واحد منهما إلى الآخر. وإذا كان صحيحا  أنّ التنمية توفّر الظروف الملائمة للحريات الفردية والجماعية، أليس من المعقول أيضا أنّ المزيد من الحريّة يمكن أن يسرّع من وتيرة التنمية ويحسّن الإنتاجيّة ويجنّب البلاد، دون شكّ ، بعض الأزمات المؤذية التي تركت آثارها  لفترة طويلة على الحياة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية؟ هذا السؤال لم يكن يطرح- على الأقلّ حتّى تاريخ  معيّن  وبشكل علني - وكان يبدو أنّه لم يكن يطرح نفسه، نظرا إلى سيطرة التصّور القائل بأنّ قوى معادية  غامضة تسعى لتقويض الصرح الذي يجري تشييده. ولمّا استقرّت العادة غدا من الصعب تغييرها».(4)

إنّ ما يبديه السيّد الشاذلي القليبي من إعجاب بالزعيم الحبيب بورقيبة وما يكنّه له من محبّة جنّبه الوقوع في شراك عين الرضا بعيوبه، وإنّ ملازمته لرجل عظيم مهما كانت مثيرة ومثرية لا تخلو من المخاطر كما لا تخلو من خيبات الأمل، مثلما أشار إلى ذلك الأستاذ عبد العزيز قاسم في توطئة الكتاب.

وآخر ما ألّف الفقيد كتاب «تونس وعوامل القلق العربي» وقد عالج فيه ما حصل بتونس غداة 14 جانفي 2011 على مستويات عدّة منها علاقة الثورة بالإعلام والثقافة وتقلّبات المجتمع وبما ينبغي أن تلتزم به من ضوابط. كما خصّ الزعيم الحبيب بورقيبة بصفحات مطوّلة أوضح فيها خصائص اجتهاداته الدينية في مجال تحرير المرأة ورؤاه السياسية إزاء القضيّة الفلسطينية وحول مشاريعه المجتمعية الحضارية. ومن مواضيع الكتاب الأساسيّة نظرة المؤلّف إلى الإسلام باعتباره دين القوام نافيا عنه كلّ التأويلات الموروثة عن عصور الانحطاط والتي جعلت منه مصدر عنف وإرهاب. كما تطرّق الأستاذ الشاذلي القليبي إلى ما يكابده العالم العربي من تمزّق وتدمير داعيا إلى ضرورة الأخذ بالعمل العربي المشترك وفق الخطّة التي أشرف على إعدادها وتقديمها إلى مؤتمر القمّة الحادي عشر بعمّان.

في مسيرة الأستاذ الشاذلي القليبي الطويلة، يستوقفنا حدث فريد من نوعه، ما كان ليخطر ببال أحد وما كان لأحد سواه أن يحقّقه، حدث ذو دلالة رمزيّة كبرى صنعه رئيس بلديّة قرطاج وشيخ مدينة روما السيّد أوغو فيتيري Ugo Vetere حينما وقّعا، ، في حفل مشهود، معاهدة الصلح بين مدينتيهما بعد ما يزيد على واحد وعشرين قرنا على الحرب البونيّة الثالثة.

وفي هذا الحدث الاستثنائي عنوان لعمق البعد الإنساني في وجدان السيد الشاذلي القليبي ودليل لإيمان راسخ بفضيلة الحوار بين الشعوب والحضارات. وفيه كذلك رسالة أمل في أن يكون حوض البحرالأبيض المتوسّط بحيرة أمن وسلام ومصدر عطاء حضاري لا ينقطع. 

ولكلّ عمل قام به السيد الشاذلي القليبي في مختلف مهامّه بعد رمزيّ واضح أو ضمنيّ.(5) أليس حذق فنّ الرمزيّة والإيحاء والتلميح من خصائص أسلوبه؟

تلك خواطر أوحت لي بها مسيرة الراحل الكبير الطويلة على الصعيدين الوطني والعربي، الزاخرة بالجهود المخلصة في خدمة بلاده وأمّته، كما أوحت لي بها ملامح شخصيّته المبهرة التي تمتزج فيها كاريزما السياسي  بصفاء سريرة الإ نسان وبحسّ المثقّف المرهف وباتساع أفق المفكّر.

عبد الحفيظ الهرقام

___________________________________________
1 -من محاضرة ألقاها في 29 ديسمبر 2005، بمناسبة إسناده الدكتوراه الفخرية من الجامعة التونسيّة.
2 المصدر السابق
3 - Chedli Klibi,Geneviève Moll,Orient-Occident,La paix violente. Édition Stand 1999 ,France   
4 -الشاذلي القليبي،» أضواء من الذاكرة، الحبيب بورقيبة»، الكلمة الحرّة ديميتر، تونس،  ص 17 وص 18  
5 -عبد العزيز قاسم، من توطئة الكتاب المشار إليه سابقا، ص7

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.