عبد العزيز قاسم: في ذكرى المناضل الكبير الطاهر بن عمار

في مثل هذا اليوم، 8 ماي 1985، منذ خمس وثلاثين سنة خلت، توفي المرحوم الطاهر بن عمار. من ترى يذكر هذا المناضل الكبير من غير جيل الاستقلال وبقايا مناضلي الحركة الوطنية؟

أكتب هذه الكلمة باعتباري شاهدا ولو عن بعد على جزء حساس من الفترة الدقيقة الفاصلة بين آخر مراحل الاستعمار وبدايات الاستقلال. أكتب منطلقا من رؤية ذاتية لأشياء عشتها مستندا في ذلك من باب التذكير والتذكر إلى ما كتب في الموضوع.

منذ سنيّ مراهقتي الأولى كان اسم الطاهر بن عمار يتردد في بيتنا المشبع بقيم الحزب الحر الدستوري إبان تأسيسه في عشرينات القرن الماضي. كان هذا الاسم يتواتر إلى جانب مشاهير الزمان: الشيخ عبد العزيز الثعالبي، محيي الدين القليبي، صالح فرحات، أحمد بن ميلاد، المنصف المستيري عن اللجنة التنفيذية والحبيب بورقيبة، محمود الماطري، صالح بن يوسف، المنجي سليم، الهادي نويرة، الباهي الأدغم عن الديوان السياسي. كان الطاهر بن عمار واحدا من هؤلاء المناضلين عاشرهم وشاركهم همومهم وآمالهم، ناقشهم وناقشوه وجادلهم وجادلوه وساعدهم ماديا ومعنويا.

الطاهر بن عمار من مواليد 1889. كان أصغر بأربع عشرة سنة من مؤسس الحزب عبد العزيز الثعالبي (1876-1944) ويكبر مجدد الحزب الحبيب بورقيبة (  1903 - 2000) بأربع عشرة. وعوامل السن في تلك الحقب تلعب دورها في تنسيب الولاء والامتثال. ولقد انخرط الطاهر بن عمار في كل الإرهاصات والخطوات المؤدية سنة 1920 إلى تنظيم حركة التحرير في شكل هيكل جامع، فكان إلى جانب الشيخ  الثعالبي من مؤسسي الحزب الحر الدستوري إلا أنه كان من أوائل المنشقين عنه لا اختلافا في الجوهر والغاية بل لأنه يحمل رأيا مغايرا في التمشي وطرق العمل.

كان الطاهر بن عمار رجلا براغماتيا يريد أن يقتلع من سلطات الاستعمار ما يمكن اقتلاعه من فوائد عملية ومن حقوق ملموسة لعامة الناس من داخل منظومة الحماية ذاتها مشاطرا في ذلك رأي رفيق آخر من رفقاء الحزب هو المحامي حسن القلاتي (1878-1966) الذي سرعان ما أسس الحزب الإصلاحي الذي لم يعمر طويلا تحت اتهامات اللجنة التنفيذية له بالخيانة. وفي سنة 1928 يترشح الطاهر بن عمار لانتخابات المجلس الكبير ويفوز فيه برئاسة القسم التونسي وفي نفس الوقت يترأس الحجرة الفلاحية بالشمال. ومن على منبر المجلس كان يدافع عن الفلاحين التونسيين ويعمل على حماية أراضيهم خاصة بعد استفحال صعوبات الثلاثينات المنجرة عن أزمة 1929 العالمية.

ولم يكن الحزب آنذاك ينظر بعين الرضى  إلى التعامل مع نظام الحكم ولكن الرجل لم يقطع علاقاته لا  مع الشيخ الثعالبي ولا مع أمينه العام المحامي صالح فرحات. كان الكل يعلم ويصدق في دخيلة نفسه ما سبق أن قاله منظرو الانتماء الوطني ومؤرخوه إن الفلاحين بسبب علاقتهم الحميمة بالأرض وطنيون بامتياز ولقد كان الطاهر بن عمار مصداقا لهذه المقولة ومعلوم أن الاستعمار يتجلى في الاستيلاء على الأرض.
هذه الواقعية قربته من النظرية البورقيبية "خذ وطالب" كما أن تجربته في المجلس الكبير وعبر العمل الجمعياتي الهادئ مكنته من نسج علاقات استراتيجية  قوية مع الأوساط الفرنسية التحررية وظفها لإنجاح ما أنيط بعهدته من مهام تاريخية في المرحلة الحاسمة.

جاء منداس فراس في الحادي والثلاثين من جويلية 1954 وأعلن  من قصر الباي بقرطاج عن اعتراف الحكومة الفرنسية باستقلال تونس الداخلي وفق تراتيب يتفق بشأنها من خلال مفاوضات بين البلدين. وبعد أسبوع واحد تشكلت لهذا الغرض حكومة استثنائية واتفقت كل الأطراف المعنية على أن الرجل المناسب لرئاستها هو الطاهر بن عمار دون سواه. كانت الحكومة تتضمن وزراء محوريين من الحزب الدستوري الجديد وأعضاء آخرين من الوجهاء المستقلين. وبحنكته تمكن رئيس الحكومة من تقريب وجهات النظر وفي 3 من جوان 1955وقع اتفاقية الاستقلال الداخلي وتم التمديد لحكومته لإتمام المسيرة نحو الاستقلال التام. لم تكن الأمور سهلة ومرة أخرى يوقع مع نظيره الفرنسي يوم 20 مارس 1956 وثيقة الاستقلال التام. وكانت عودته مظفرة إلى تونس فسلم الأمانة إلى الباي يوم 9 أفريل ليخلفه الحبيب بورقيبة على رأس الوزارة الأولى. لكنه لم يبتعد بعد عن دوائر الحكم إذ نجحت قائمته في انتخابات المجلس التأسيسي التي أجريت في 25 مارس 1956.

والجدير بالذكر أن حكومة الطاهر بن عمار، إضافة إلى ما أجرته من مفاوضات صعبة، مارست كامل صلاحياتها كأي حكومة مسؤولة عن الأمن ومقومات الحياة العامة. كانت الفترة مضطربة قلقة. وقد بدأت تشتعل نار الفتنة اليوسفية وكان هناك اغتيالات واختطافات وبذل رئيس الحكومة قصارى جهده لتهدئة الوضع وتحييد قوات الأمن إزاء كل الأطراف المتنازعة وكان الرهان مستحيلا.

وبعد سنتين من تنحيه عن الحكم فتحت في وجهه أبواب الجحيم فجأة. ففي فجر 7 مارس 1958، قبيل الذكرى الثانية لعيد الاستقلال بأيام داهمت الشرطة بيت الطاهر بن عمار مداهمة أفضت إلى اعتقاله بتهمة تهرب ضريبي وإلى اعتقال زوجته وأخيها، على خلفية إخفاء مصوغ أودعته إياها إحدى الأميرات. ولا يتسع المجال هنا للدخول في التفاصيل. وأحيل من أراد أن يتوسع في ذلك إلى كتابين مهمين يلقيان الضوء على مسيرة الرجل الاستثنائية وعلى أفضاله على القضية الوطنية وعلى ما كابده من عنت الأقدار:

1. خليفة شاطر، الطاهر بن عمار( 1889-1985 )، دار نرفانا للنشر، تونس 2010 (بالفرنسية).
2. الشاذلي بن عمار، كفاح رجل ومصير أمة، تونس 2015 بالعربية وترجمة بالفرنسية مزيدة ومنقحة، تونس 2017.

ما أود أن أشهد به هو أن الجماهير في ذلك الوقت اندهشت ولم يفتها أن التهم كانت كيدية تتعلق أساسا برفض الإدلاء بشهادة طُلبتْ منه ثم إن الرجل نائب بالمجلس التأسيسي ضربت حصانته عرض الحائط. وعلم الجميع في الإبان بكلمته عندما أراد ضابط الأمن أن يكبل يده اليسرى :" لا، دَعِ اليسرى وضع الكبّالة في اليمنى هذه التي أمضت وثيقة الاستقلال".

ويصعد إلى ذهني قول ابن المعتز:

قد كان ما كان مما لست أذكره *** فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر

ولقد سبق لي أن أدليت في مؤسسة التميمي بشهادتي فيما يتعلق بقضية مؤلمة أخرى ما كان لها أن تحصل، تلك التي ذهب ضحيتها أول مبرز تونسي هو محمد عطية الذي أدار المعهد الصادقي بكفاءة عالية.

ومهما يكن فإن الرئيس الحبيب بورقيبة قد كفّر بالنسبة إلى الطاهر بن عمار، إلى حد كبير، عن كل ذلك إذ رد له الاعتبار بتقليده الصنف الأكبر من وسام الاستقلال بمناسبة عيد الجمهورية  الثاني عشر.

ويحق للعائلة أن تشعر بالمرارة إزاء غياب الرفاق عن جنازة فقيد الوطن وقد كان يستحق أن يحظى بجنازة تليق بمقامه. ولكن الأقدار تتدارك في الكثير من الأحيان وبالهدوء الذي لا يفسر فتعيد ذكر الذين نسيتهم الأيام عمدا أو غفلة. إذ هناك إلى حد علمي شارعان يحملان اسم الطاهر بن عمار، أحدهما يربط بين المنار 2 والمنزه 9 ، والثاني يصل المرسى بقرطاج أملكار. والبقية تأتي...

وبعد هذا تدعوني أحداث التاريخ وتقلبات الدهر إلى التأمل والتفلسف فأستنتج أن الحكم لعنة تنزل على أدمغة المعارضة وعلى رؤوس الموالاة أيضا. ماذا حل بأحمد بن صالح ومحمد مزالي وبورقيبة نفسه؟ وتخطيء الطبقة الحاكمة اليوم خطأ فادحا إذا ظنت أن هذه اللعنة لا تصيب إلا الآخرين.

عبد العزيز قاسم