الاقتصاد الاجتماعي التضامني او القطاع الثالث: مصلحة وطنية، ضرورة اقتصادية وثروة حضارية
يناقش مجلس نواب الشعب هذه الايام واحد من اهم القوانين والمراجع التشريعية التي سيكون لها دور بارز في نحت المستقبل الاقتصادي للبلاد والتي من المنتظر أن تشكل اللبنة الاولى لمنوال تنموي جديد لمرحلة ما بعد ازمة الكورونا، وهو القانون الذي ينظم قطاع الاقتصاد الاجتماعي التضامني والمناشط المرتبطة به او ما اضحى يعرف في الاوساط الاقتصادية ب"القطاع الثالث"، وهو القطاع النابع من المجتمع والذي يهدف لخدمة المجتمع والفئات الاجتماعية الهشة و يعد مكمِّلا لمهام القطاع العام الحكومي (الأول) الذي تنهض به الدولة، ومتكاملاً مع القطاع الخاص الربحي (الثاني) الذي يديره السوق.
ماهي دوافع الاهتمام بهذا القطاع الثالث (الاقتصاد الاجتماعي التضامني) وماهي خصائصه ومبادئه ومرتكزاته الأساسية، وما هي اصوله التاريخية والحضارية، ولماذا يعتبر النهوض به وتطويره مصلحة وطنية وضرورة اقتصادية خصوصا في هذه اللحظة التاريخية الفارقة في تاريخ البلاد؟
مفهوم الاقتصاد الاجتماعي التضامني
يعبّر مفهوم الاقتصاد الاجتماعي التضامني عن مجموع الأنشطة الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تنتظم في شكل بنيات مهيكلة أو تجمّعات لأشخاص ذاتيّين أو معنويّين، بهدف تحقيقِ المصلحة الجماعيّة والمجتمعيّة، وهي أنشطة مستقلة تخضع لتدبيرٍ مستقلّ وديمقراطيّ وتشاركيّ، يكون الانخراطُ فيه حرّا.
ظهر المفهوم أولاً في ألمانيا وفرنسا في ثمانينيات القرن الماضي، وفي مطلع القرن الحالي انتشر في بقية دول العالم، يعتبر الاقتصاد الاجتماعي التضامني بمثابة القطاع الثالث في الاقتصاد الرأسمالي المختلط الذي يختلف عن القطاعين العام والخاص. ومن الناحية النظرية يندرج مفهوم الاقتصاد الاجتماعي التضامني ضمن ما يعرف بمنوال اقتصاد السوق الاجتماعي الذي يسعى للمزاوجة بين هدفي الربح وخدمة المجتمع ويختلف بالتالي عن اقتصاد السوق الليبرالي واقتصاد السوق الاشتراكي.
شهد هذا المفهوم نموا ملحوظا إثر انهيار المنظومة الاشتراكية في تسعينات القرن الماضي وتحوّل إلى مطلب اجتماعي عالمي خصوصا بعد اندلاع الأزمة الماليّة العالميّة عام 2008 التي أبانت عن مساوئ نمط الإنتاج الرأسمالي وعدم استقراره البنيوي وتفاقم المديونية وعجز الدولة الرأسمالية عن تحمّل مجمل الأعباء الاجتماعية في الاقتصاد.
ويعزى النمو الملفت لهذا القطاع في السنوات الأخيرة الى العديد من الأسباب منها عجز الدولة الحديثة عن القيام بدورها التمويلي ووظيفتها التعديلية في الاقتصاد وتنامي الحاجة الى تفعيل رأس المال الاجتماعي لحماية الفئات المتضررة من الخوصصة، تساوقا مع الحراك المتصاعد دوليا للمطالبة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للأفراد وفشل مقولة الدولة “الصفرية”(صفر دولة) وهيمنة القطاع الخاص على المجتمع بالإضافة الى مأزق اللجوء للمديونية في تمويل الاقتصاد وتوليد الثروة وفشل النظام الاقتصادي السائد في تحقيق العدالة الاجتماعية في معظم البلدان.
ويعتمد مفهوم الاقتصاد الاجتماعي التضامني على جملة من المبادئ التأصيلية التي تميزه عن باقي القطاعات الفاعلة في الاقتصاد، وفي مقدمتها: الطوعية حيث يشكل العمل التطوعي والتلقائي للأفراد المصدر الأساسي للمبادرات الاجتماعية وتكون عضوية الافراد وانسحابهم مفتوحة وطوعية دون تمييز بين الناس، والجماعية التي تعني أولوية المصلحة المشتركة على المصلحة الفردية، وخدمة المجتمع بمعنى أولوية الانسان وقيمة العمل على رأس المال، ومبدأ التضامن والتعاون بين افراد المجتمع الدي يهدف من خلاله البعد غير الربحي الى التمكين الاقتصادي للشرائح الهشة والفئات المحرومة. كما يستند أيضا الى مبدأ العدل الاجتماعي عبر التوازن بين متطلبات الجدوى الاقتصادية وقيم التضامن الاجتماعي ويعتمد على منهج التداول الديمقراطي على التسيير ويحرص على فكرة الاستدامة البيئية التي تتحقق بها المحافظة على البيئة والثروات الطبيعية وترشيد استغلالها.
أهداف الاقتصاد الاجتماعي التضامني وآلياته
يرمي قطاع الاقتصاد الاجتماعي التضامني الى جملة من الاهداف الاجتماعية والتنموية منها بعث مشاريع تشاركية غير ربحية (او ذات ربحية محدودة) تدار بالاعتماد على مبدأ الديمقراطية القاعدية ويعاد استثمار فائض إنتاجها لتحقيق أهداف اجتماعية، الغرض منها فك العزلة على الفئات الهشة اقتصاديا واجتماعيا وتوفير الفرصة أمامها لتتمكن من تحقيق اندماجها داخل المنظومة المجتمعية الشاملة. كما يهدف الى توفير منظومة تمويل تضامنية بديلة تجنب الارتهان الكلي للبنوك والشروط التي تفرضها ويكون محورها تحقيق الغايات الاجتماعية والمجتمعية العامة مثل التنمية المستدامة، التشغيل، التجارة العادلة، الاستثمار المسؤول اجتماعيا، المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات والنشاطات، محاربة الفقر والتهميش والإقصاء...
ويتكون هذا القطاع المجتمعي من التعاونيات في مختلف المجالات، شركات التأمين ذات الصبغة التعاونية، التعاضديات او المشروعات المشتركة، مؤسسات التمويل الاصغر المكونة في شكل جمعياتي، مجاميع التنمية في قطاع الفلاحة والصّيد البحري ، مؤسسات العمل الاجتماعي والرعاية الاجتماعية، منظمات المجتمع المدني المحلية، جمعيات العمل التطوعي والخيري ،ونقابات العمال والمنظمات الممثلة للعاطلين عن العمل.
الاقتصاد الاجتماعي التضامني عبر العالم
يشهد قطاع الاقتصاد الاجتماعي التضامني نموا ملحوظا عبر مختلف انحاء العالم ويزداد تطورا واتساعا يوما بعد يوم . ففي الولايات المتحدة يضم هذا القطاع ما يزيد عن 1،5 مليون منظمة خيرية تمكنت عام 2018 من جذب 427 بليون دولار تم توجيهها الي تمويل مشروعات متنوعة من دور العبادة ومؤسسات تعليمية وصحية وقدمت العديد من المنح والخدمات الإنسانية. وفي أوروبا توجد حوالي 2 مليون منظمة، بحيث توجد جمعية لكل 250 مواطن ضمن الاتحاد الأوروبي. ويشغل قطاع الجمعيات بكل أصنافه حوالي 5،6 مليون مواطن، ويشكل ما يربو عن 10٪ من الناتج الإجمالي.
تضم فرنسا ما يزيد عن مليون جمعية وفق قانون الجمعيات 1901 وقانون 1905 المتعلق بالجمعيات ذات الطبيعة الدينية (بمعدل 190 جمعية جديدة يوميا) بالإضافة إلى حوالي 1500 مؤسسة خيرية (وقفية) مصنفة تحت مسمى Fondations.
وتحتل ألمانيا المرتبة الثانية عالميا بعد الولايات المتحدة من حيث عدد المؤسسات الخيرية الشعبية التي يفوق عددها 6500، وهي في موقع الصدارة في أوروبا من حيث عدد ونوعية وقوانين المؤسسات الخيرية. وتقدر الهيئة الاتحادية للمؤسسات الخيرية الألمانية رأسمال المؤسسات الخيرية بأكثر من100 مليار يورو. وفي بريطانيا يشتمل القطاع على 62 الف منظمة تشغل 800 الف موظف. وفي الهند يحتوي القطاع على 2،2 مليون منظمة تشغل 30 مليون عامل معظمهم من النساء . كما بلغ عدد المنتفعين عالميا من خدمات الحماية الصحية والاجتماعية التي تقدمها جمعيات المنافع المتبادلة العالمية 170 مليون.
وقد شهدت البيئة التشريعية للنشاط الخيري والوقفي في كل الأقطار الأوروبية تطورات مهمة في اتجاه دعم هذا القطاع وتعزيز مكانته وتفعيل دوره للنهوض بأعباء لم يعد بوسع الحكومات القيام بها . فقد سن للبرلمان الاوروبي منذعام 2012 قانون اوروبي خاص بالمؤسسات الخيرية (الوقفية): La fondation européenne الذي يسمح بتأسيس مؤسسات خيرية بشروط مالية ميسرة 25000 يورو عند التأسيس وبنفس المزايا والاعفاءات الضريبية داخل كل قطر أوروبي.
وتشمل التشريعات الفرنسية في مجال العمل الجمعياتي والخيري ثلاثة أصناف من المؤسسات : الجمعيات ذات النفع العام التي تقوم لأغراض غير ربحية وفق قانون الجمعيات لعام 1901 وقانون فصل السلطات بين الكنائس والدولة لعام 1905 ( اكثر من مليون جمعية ومؤسسة خيرية اجتماعية)، والمنظمات الخيرية: fondations التي يتم بموجبها وقف أموال معينة من العقارات أو المنقولات للإنفاق من ريعها على أغراض خيرية و منافع عامة لا تستهدف الربح، والصناديق الخيرية ( الوقفية) fonds de dotation وهي خيار وسيط بين نظام الجمعيات الواسع الانتشار والذي له صلاحيات محدودة من جهة ونظام المنظمات الخيرية fondations الذي يتسم بصعوبة التطبيق من جراء الصرامة القانونية التي ترتبط به من جهة أخرى.
القطاع الاجتماعي التضامني ثروة أساسية في الحضارة الاسلامية: (بضاعتنا ردت الينا)
اذا كان العالم الغربي اكتشف هذا القطاع الاجتماعي التضامني حديثا فان الإسلام له سبق تاريخي ملحوظ في الاهتمام بهذا الجانب عبر ما يعرف بالقطاع غير الربحي الذي يعتبر مجالا أوسع واشمل واعم من الاقتصاد الاجتماعي التضامني بالمفهوم المعاصر. فالاقتصاد الإسلامي من حيث البناء الهيكلي يقوم على قطاعين لا غنى لاحدهما عن الآخر: القطاع الربحي(التبادلي) والقطاع غير الربحي (الخيري). والملاحظ ان التشريع الإسلامي للقطاع غير الربحي (الخيري) سابق للتشريع الخاص بالقطاع الربحي ، فقد فرضت الزكاة في السنة الثانية للهجرة بينما كان تحريم الربا في السنة الثامنة.
يُطلق القطاع غير الربحي (الخيري) على جميع المنظمات التي لا تسعى إلى الربح، ويضم الجمعيات الخيرية والجمعيات التعاونية والجمعيات التطوعية والمؤسسات الوقفية، والتي يتم تأسيسها بهدف تقديم كافة أشكال الخدمات الثقافية والدينية والتعليمية والمهنية والخدمات العامة بدون أي هدف مادي مقابل هذه الخدمات، وقد حظي هذا القطاع بأولوية في الاهتمام عبر تاريخ الحضارة الإسلامية يشكِّل القطاع الرئيسي الأول من حيث الحجم الكبير لموارده البشرية (التطوع) وموارده المالية (الأوقاف والتبرعات والزكاة) التي فاقت في أحيان كثيرة الموارد المالية لبيت مال المسلمين، كما أنها فاقت في حالات كثيرة حجم الموارد التجارية في عصور مضت من التاريخ الإسلامي.
وقد ساهم هذا التوازن في الاقتصاد بين القطاعين الربحي (التبادلي) وغير الربحي (الخيري)، في بناء الحضارة الإسلامية على مدار حقبة طويلة من الزمن، فهما للاقتصاد كالجناحين للطائر، حيث ان الاقتصاد مثل الطائر لا يمكن ان يحلق إلا بجناحين. وقد قام بأدوار وظيفية هامة في ترشيد الإنفاق من خلال توجيهه نحو القطاعات الأكثر احتياجاً في المجتمع وهو ما من شأنه أن يحد من الإفراط في توسع الأسواق، ومن ثم يقلل فرص الهبوط والانكماش. كما عمل النشاط غير الربحي على إعادة توزيع الثروة الذي يحد من تركزها لدى فئة قليلة، ومن ثم يسمح باستمرار النمو الاقتصادي بسبب ما يتمتع به هذا القطاع غير الربحي من قدر عال من الكفاءة، لأنه قائم على الحوافز والمبادرات الذاتية مع مرونة كبيرة ولا مركزية تفتقر إليها أجهزة القطاع العام. فالعلاقة بين الاقتصاد الربحي وغير الربحي علاقة ترابطية متلازمة لا يمكن ان يستغني احدهما عن الاخر: الربحي ضروري لتوليد الثروة وغير الربحي ضروري لإعادة التوزيع وتحقيق العدالة.
فالنشاط غير الربحي يقوم بوظيفة مزدوجة اقتصادية واجتماعية ضرورية من جهة منع الكنز الذي يقود الى الانكماش ومن جهة تصحيح الاختلالات في عملية التوزيع التي تقود الى عدم الاستقرار.
والمتأمل في خصائص القطاع غير الربحي يجدها تتطابق مع القطاع الاجتماعي التضامني، فالقطاعان يقومان على
نشاطات تقوم على التطوع الذي يهدف الى فعل الخير ومساعدة الغير، ولكل منهما أغراض غير ربحية بالأساس واذا قدمت خدمات بمقابل لا توزع الأرباح، كما ان محور كل منهما ومحركهما الإحسان (الإرفاق والتبرعات) وهو أداة من أدوات إعادة التوزيع وتحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية، وقد تميز القطاع غير الربحي ببعض النشاطات الخاصة التي لها دور بارز في استدامة رأس المال الاجتماعي (صلة الأرحام مثلا)، وهي مسألة على غاية من الأهمية لما تقوم به من دور في التماسك الاجتماعي وتقوية الروابط الأسرية وترابط الأجيال. وهو معنى إضافي يدل على قيمة وفعالية العلاقات الاجتماعية ودور التعاون والثقة في تحقيق الأهداف الاقتصادية.
ومن التطبيقات المعاصرة لهذا القطاع نجد العديد من المؤسسات مثل صناديق الزكاة التي تشكل إيراداتها الحديثة حوالي 10٪ من الناتج الاجمالي لمعظم الدول الإسلامية، الى جانب المؤسسات الوقفية التي تقوم بدور اجتماعي هام يساهم في تخفيف الاعباء المالية على الدولة من صحة وتعليم وخدمات اجتماعية متعددة. ونجد كذلك مؤسسة القرض الحسن التي تقوم بها بعض المؤسسات المالية الإسلامية في عدة بلدان، وأيضا منظومة الجمعيات الخيرية ذات النشاطات المتعددة من كفالة ايتام ومساعدة المعوزين وغير ذلك، وكذلك مؤسسات التكافل الاجتماعي القائمة على البر والصدقات والنذر والكفارات بالإضافة الى التعاونيات المالية وهي جمعيات قائمة على التطوع ومبنية على الثقة بين الأعضاء، ومؤسسات التامين التكافلي القائمة على التناهد والتبرع والمواساة والعمرى والرقبى والوقف.
الاقتصاد الاجتماعي التضامني مصلحة وطنية وضرورة اقتصادية
إرساء هذا القطاع الحيوي اضحى مصلحة وطنية وضرورة اقتصادية في آن واحد. فهو يعد مصلحة وطنية لأنه يمثل فرصة لتعضيد جهود الدولة في الرعاية الاجتماعية للشرائح والفئات المهمشة وتعزيز الادماج الاجتماعي للأفراد وصناعة رأس مال اجتماعي يسند راس المال البشري والمالي في بناء الثروة الحقيقية وتعزيز التضامن والعدالة الاجتماعية في المجتمع. كما ان النهوض بمثل هذا القطاع يسهم في الحد من الفوارق الاجتماعية عبر توفير فرص اقتصادية للشرائح الهشة ويدعم اللحمة الوطنية والتماسك الاجتماعي الذي يعد المحرار الحقيقي لنجاح المسار التنموي بالبلاد.
أما الضرورة الاقتصادية لهذا القطاع فهي تتجسد في تحقيق التوازن الاقتصادي والتكامل الوظيفي بين القطاعات ، هذا التوازن الذي اصبح مفقودا في ظل التجاذب المزمن بين كل من القطاع العام والقطاع الخاص والتنازع حول أحقية كل منهما في قيادة العملية التنموية، هذا التجاذب الذي أضاع البوصلة الاقتصادية للبلاد من مراهنة حينا على التأميم وريادة القطاع العام الى التعويل حينا آخر على الخوصصة وتسليم المقود الى القطاع الخاص. الاستنجاد بالقطاع الثالث يقضي على هذه الثنائية السلبية ويصحح الخلل الهيكلي في القطاعات الكبرى التي يقوم عليها الاقتصاد ويحدد لكل واحد منهم وظيفته الاقتصادية والاجتماعية ضمن نظرة تكاملية مجدية.
د. محمد النوري
أستاذ وباحث في الاقتصاد والتمويل الإسلامي
- اكتب تعليق
- تعليق