فيصل العلاني: خواطر حول المرسوم عدد 8 لسنة 2020 المتعلق بتعليق الإجراءات والآجال
يطال فيروس كورونا خلايا الجهاز التنفسي، وقد يطال غيرها من الخلايا ويطال كذلك القواعد القانونية وهي الخلايا الأساسية للنظام القانوني......
نعم فلقد اضطرت السّلطة التشريعية في بلادنا تحت وطأة جائحة الكورونا إلى إصدار قانون تفوّض بمقتضاه إصدار المراسيم إلى رئيس الحكومة في مجال القانون، وهذا التفويض يحيط به فيروس كورونا من كل جانب ، فالجائحة هي أساس التفويض ، والمراسيم ليس لها من غاية سوى التصدي لهذه الجائحة ، وسنّ قواعد قانونية لها سمات ثلاث فهي ظرفية وهي استثنائية وهي ضرورية.
استنادا الى هذا التفويض من قبل السلطة التشريعية أصدار رئيس الحكومة المرسوم عدد 8 لسنة 2020 بتاريخ 17 أفريل 2020 و المتعلق بتعليق الإجراءات والآجال.
وهذا المرسوم هو موضوع هذه الخواطر.
عنوان المرسوم عدد 8 لسنة 2020 هو البداية في ذلك، صحيح ان العناوين (عناوين القوانين / عناوين المراسيم....) ليست لها قيمة القاعدة القانونية، ولكن لها أهمية كبرى في فهم النصّ التشريعي وفي تأويله.
وقد تضمن عنوان المرسوم عدد 8 لسنة 2020 جملة من المصلحات التي لا بد من تحديد مدلولها وضبط معانيها.
المصطلح الأول هو مصطلح "التعليق"، والتعليق يعني الإيقاف أو التوقف، وقد اشتهر هذا المصطلح في المادة التعاقدية حيث يعني مصطلح تعليق العقد ايقاف تنفيذه، كما يستعمل مصطلح التعليق في كثير من المواد القانونية الأخرى من بينها مثلا مادة الإجراءات الجماعية التي يكون في إطارها ما يسمّى بتعليق إجراءات التنفيذ، والمعنى المشترك في كل هذه المواد هو ان التعليق لا يلغي الوجود القانوني للاتفاق او العقد او الإجراءات وإنما يجعل من التنفيذ امرأ معلقا.
والتعليق موضوع المرسوم عدد 8 لسنة 2020 هو تعليق لجملة من القواعد القانونية فماذا يعني ذلك؟
ان القواعد القانونية والتشريعية منها تحديدا، لها حياة بدايتها دخول القاعدة حيز النفاذ ونهايتها الإلغاء او النسخ طبق أحكام الفصل 542 م ا ع ، ومن أهم خصائص القاعدة القانونية خاصية الإلزام الذي يتمظهر من خلال الجزاء ، وتتضح من هنا معالم التعليق ودلالاته . فتعليق القاعدة القانونية يعني عدم تطبيقها، عدم نفاذها عدم تحقيق الجزاء المضمن بها وعدم إعماله ، فالقاعدة القانونية موضوع التعليق هي قاعدة موجودة لم يقع نسخها ، ولكن لا يمكن تنفيذها، فلقد رجع سيفها إلى غمده وذلك إلى حين.
على أساس هذا التحديد لمفهوم التعليق ((suspension – تعليق القواعد القانونية – تظهر جملة من الفروق بين التعليق (suspension) والقطع (interruption) من جهة، وبين التعليق والتمديد (prorogation) من جهة أخرى.
● فالقطع أو الانقطاع (interruption) هو واقعة تؤدي الى وقف سريان التقادم أو مرور الزمن، فيمحو رجعيا المدة المنقضية بحيث إذا غاب التقادم او سريان الأجل بعد هذه الواقعة لا تؤخذ المهلة السابقة والمنقضية في الحسبان، فالقطع او الانقطاع هو إذن مصطلح خاص بالتقادم، ولا يمكن إعمال هذا المصطلح للدلالة على عدم تنفيذ جملة من القواعد القانونية ارتأى المشرع تعليقها.
● امّا التمديد (prorogation) فيعنى لغة الزيادة في الشيء فتمديد الأجل مثلا هو الزيادة فيه، كذلك الشأن بالنسبة لتمديد الاختصاص فهو إضافة ما لم يكن فيه، ويتّضح من خلال هذا التعريف أن مصطلح التمديد هو مصطلح قاصر عن التعبير عن إرادة المشرع التي تهدف الى ايقاف نفاذ جملة من القواعد القانونية.
ويستخلص من كل هذا أن استعمال مصطلح التعليق هو استعمال وجيه ودقيق.
المصطلح الثاني هو مصطلح "الإجراءات"، والإجراءات هي جملة الشكليات الموصلة الى الحق، ويثير هذا المصطلح ملاحظتين: أولهما تتعلق بإطلاقيه مصطلح الإجراءات وشموليته، وتتعلق ثانيهما بطبيعة الإجراءات المتّسمة بالصّرامة وبشدة الجزاء المسلط على مخالفتها ومن هنا تبرز أهمية التعليق.
المصطلح الثالث هو مصطلح "الآجال"، وللأجل معنيان: المعنى الأول خاص بمادة الإجراءات وهو المهلة (Délai)، والمعنى الثاني خاص بمادة الالتزامات وهو حصول زمن التنفيذ او زمن الوفاء (Terme)
فهل يقتصر المرسوم على المعنى الأول ام يشمل أيضا المعنى الثاني؟
لقد جاءت عبارة الآجال مطلقة فتؤخذ إذن على إطلاقها حتى وإن اقترنت بعبارة الإجراءات، وهذا ما تؤكده عبارات الفصل الأول من المرسوم.
إن تعليق القواعد القانونية المتعلقة بالإجراءات والآجال أمر اقتضته جائحة كبرى شملت كل بلدان العالم ولم يكن المشرع التونسي هو المشرع الوحيد الذي أقر أحكاما ظرفية واستثنائية، بل لقد قام جلّ المشرعين بذلك، كالمشرع الفرنسي والمشرع المغربي وغيرهما.
وتعليق القانون لأسباب كبرى كالحروب والجوائح لا يعدّ من الأمور المحدثة، فلقد عرفته كثير من الأنظمة القانونية على مر الزمان ولعل من أشهرها في تاريخنا العربي الإسلامي تعليق عمر بن الخطاب تطبيق حدّ السّرقة فيما يعرف بعام الرمادة.
تلك هي إذن بعض الملامح العامّة للمرسوم عدد 8 لسنة 2020 وإطاره العام الذي يلوح من عنوان.
أما من حيث مضمونه فما قاله المرسوم عدد 8 لسنة 2020 كان صريحا فيه هو نطاقه (I)، اما ما لم يقله و ما سكت عنه فهو كيفية تطبيقه و اعماله (II)
I – نطاق المرسوم عدد 8 لسنة 2020
نطاق المرسوم عدد 8 لسنة 2020 يتحدد من خلال القواعد القانونية موضوع التعليق(أ) ومن خلال مدة التعليق (ب)
1- القواعد موضوع التعليق
● يتضح من خلال عنوان المرسوم ومن خلال قاعدة فصله الأول أن القواعد القانونية موضوع التعليق هي مبدئيا القواعد الإجرائية أو القواعد المتعلقة بالإجراءات، وتشمل قواعد الإجراءات كل القواعد المتعلقة بالدعاوى وبصدور الأحكام وتنفيذها وطرق الطّعن فيها وإجمالا كل القواعد المتعلقة بحماية الحقوق المهدّدة او المتنازع حولها (E. Glasson et A. Tissier, Traité) De procédure civile, P1
● ويلاحظ ان المشرع التونسي قد ذهب الى أبعد من هذا التعريف الواسع للإجراءات والقواعد الإجرائية في الفصل الأول من المرسوم عدد 8 لسنة 2020 ، اذ لا يقتصر هذا الفصل على الإجراءات المدنية والتجارية باعتبارها القانون الإجرائي المشترك، بل تعداه إلى كل القواعد الإجرائية الخاصة والمضمنة بمجلات قانونية أخرى غير مجلة المرافعات المدنية والتجارة وبقوانين خاصة، كما أن الفصل الأول لا يقتصر على الإجراءات المتعلقة بالنزاعات ( Procédures contentieuses) بل يشمل كذلك كل الإجراءات بقطع النظر عن طبيعتها وعن الغاية منها.
● إن الشمولية المطلقة في تحديد القواعد الإجرائية موضوع التعليق والتي تتأكد من خلال أسلوب صياغة الفصل الأول ومن خلال عنوان المرسوم وكذلك من خلال جملة الاطلاعات (visa) التي أنبنى عليها المرسوم، لها ما يبرّرها واقعا وقانونا.
واقعا بالنظر الى استحالة القيام بأي إجراء قضائي او غير قضائي في ظلّ الحجر الصحي العام.
قانونا بالنظر إلى استحالة التحديد والحصر، فتحديد قواعد إجرائية بعينها وحصر موضوع التعليق فيها يقتضي البحث عن معيار أداة للفصل، وهذا المعيار يصعب بل يستحيل إيجاده.
فالشّمولية والإطلاق في تعليق القواعد الإجرائية هو حلّ يقتضيه الواقع ويفرضه المنطق القانوني ، وهو حلّ يضمن عدم الاجتهاد فيما إذا كان هذا الإجراء او ذاك موضوع تعليق ام لا، فالحلّ عام وشامل لا يستثني أي إجراء - على أنه لا بد من الملاحظة أن محرّري المرسوم عدد 8 لسنة 2020 قد أرادوا التعبير عن هذه الشّمولية وعن هذا الإطلاق من خلال كثرة الإطلاعات اوّلا ومن خلال عموميّة الألفاظ وكثرة العطف بالفصل الأول ، والحال انه كان بالإمكان التعبير عن ذلك بأسلوب أخر أكثر بساطة وأكثر تعبيرا عن الشمولية والإطلاق.
* والتساؤل الذي يجب طرحه في هذا الإطار هو: هل تنحصر القواعد القانونية موضوع التعليق في القواعد الإجرائية ام تتعداها الى بعض القواعد الموضوعية؟
القواعد القانونية الموضوعية هي كل القواعد القانونية التي ليس لها طابع اجرائي.
ولا يشمل التعليق بصفة مبدئية القواعد الموضوعية ، الاّ ان القراءة المعمّقة لأحكام الفصل الأول من المرسوم عدد 8 لسنة 2020 تؤدي إلى القول بأن التعليق يشمل أيضا بعض القواعد الموضوعية ، من هذه القواعد تلك المتعلقة بالتقادم المكسب والمتعلقة بالالتزامات والعقود والصور في هذا الإطار كثيرة ومن بينها صورة العقد غير محدّد المدّة الذي قام المتعاقد على أساسه بالتنبيه على معاقده قبل بداية التعليق ( أي قبل 11 مارس 2020 ) والتعبير عن رغبته في إنهاء العقد وحدد بذلك مهلة معقولة جاءت نهايتها أثناء مدة التعليق فهل حصل إنهاء العقد؟ قطعا لا، لأن جميع الآجال قد وقع تعليقها.
* من خلال هذا المثال يمكن القول ان القواعد الموضوعية التي شملها التعليق ويؤثر فيها هي القواعد التي من بين عناصرها عنصر الزمن ومن أبرزها قواعد الفصول136 وما بعده من مجلة الالتزامات والعقود التي جاءت تحت عنوان " الأجل".
المهم ولمزيد التبسيط يمكن القول ان المرسوم عدد 8 لسنة 2020 جعل من التعليق المبدأ وعدم التعليق الاستثناء والاستثناء يجب ان يكون صريحا وضيقا على غرار الفصل الثالث من نفس المرسوم المتعلق بقضايا الموقفين.
* ان للقانون (Droit) دور في تنظيم الزمن، وان للزمن (Temps) دور في تنظيم القانون! في إطار هذه العلاقة المتشعبة بين القانون والزمن جاء المرسوم عدد 8 لسنة 2020 فطرحت بكل جلاء قدرة القانون على تنظيم الزمن فأمره بالتوّقّف حكميّا!
ب – المدّة الزمنية للتعليق
المدّة بعض من الزّمن لها بداية ولها نهاية.
وبداية التعليق طبق أحكام الفصل الثاني من المرسوم عدد 8 لسنة 2020 هو يوم 11 مارس 2020.
بداية التعليق هي إذن في تاريخ سابق لتاريخ صدور المرسوم، والقانون ذو المفعول الرجعي جائز بطبيعته (قرار تعقيبي مدني عدد 8410 مؤرخ في 16 جانفي 1975 نشرية محكمة التعقيب 1975 صفحة 42).
فالمشرع يمكنه إصدار قوانين ذات مفعول رجعي كلّما رأى في ذلك تحقيقا للمصلحة العامة شريطة ان ينصّ على ذلك صراحة.
وقد تكون هناك جملة من المبررات الواقعية في اختيار تاريخ 11 مارس 2020 منطلقا للتعليق، من أهمّها ما قرّره بعض رؤساء المحاكم من " تعليق للعمل".
ولا بدّ من الملاحظة ان الأيام اللاحقة لتاريخ 11 مارس 2020 والسابقة لتاريخ 22 مارس 2020 منطلق الحجر الصّحي العام كانت أيام عمل، وهذا يعني ان القيام بالإجراءات (تبليغ / تنبيه ...) هي فرضيّة قائمة مما يطرح التساؤل حول مآلها؟
ان الإعمال الإجرائية الواقعة بين تاريخ 11 مارس 2020 وتاريخ 22 مارس 2020 هي أعمال غير موجودة قانونا أي كأنها لم تقع وذلك على أساس المرسوم عدد 8 لسنة 2020 الذّي حدّد بداية التعليق من يوم 11 مارس 2020.
أمّا نهاية التعليق فتطرح جملة من الملاحظات الأساسيّة:
اولا: النّهاية غير محددة، وهذا أمر طبيعي لارتباط نهاية التعليق بالوضع الوبائي العام وبإجراءات الحجر الصحي وزمن رفعها.
ثانيا: يكون تحديد النهاية مستقبلا بمقتضى أمر حكومي في مرحلة أولى وبمرور شهر (ثلاثون يوما) على صدور هذا الأمر بالحكومي.
لماذا أمر حكومي؟ لأنه لا يمكن إلغاء المرسوم عدد 8 لسنة 2020 (كما سنبيّن ذلك لاحقا).
ما هو موضوع هذا الأمر الحكومي؟ الموضوع يمكن ان يكون عاما: رفع إجراءات الحجر والرجوع إلى الحالة العادية.
ومهما يكن موضوع الأمر الحكومي فلا بدّ ان يحدّد بكل وضوح انه هو الأمر الحكومي المقصود بالفصل الثاني من المرسوم عدد 8 لسنة 2020.
ثالثا: قد يتساءل البعض عن مدة الشهر ومدى الوجاهة في إضافتها ، والحقيقة ان هذه المدّة ضرورية إذ خلالها سيقع إعادة احتساب الآجال وتحديد ما وقع القيام به من إجراءات قبل تاريخ 11 مارس 2020 وما يجب إتمامه....، مدّة شهر هي إذن فترة انتقالية لازمة خصوصا بالنسبة للمحامين والمتقاضين والقضاة للإعادة عودتهم الى الخالة العادية .
● ويتجه الأخذ بعين الاعتبار إمكانية تزامن نهاية التعليق مع العطلة القضائية (من 15 جويلية الى 15 سبتمبر) وهو ما من شانه أن يجعل من نهاية التعليق أمرا أكثر اضطرابا وتعقيدا لذلك فانه من المتجه التنسيق الكامل في تحديد العطلة القضائية وإنهاء التعليق مع كافة المتدخلين في مرفق العدل.
تلك هي إذن بعض الملاحظات المتعلقة بنهاية التعليق وبمّدته بصفة عامّة بعد ابراز نطاقه من حيث القواعد موضوع التعليق، فما هي اثاره.
II- تطبيق المرسوم عدد 8 لسنة 2020
إذا كان التطبيق الحيني للمرسوم عدد 8 هو تعليق القواعد القانونية المشمولة به، فان تطبيق هذا المرسوم في المستقبل يطرح العديد من الإشكالات التي لا بد من تحديدها وإيجاد الحلول لها.
وتنضوي هذه الإشكالات والحلول المقترحة لها تحت عنوانين اثنين يتعلق أولهما بخصائص المرسوم عدد 8 لسنة 2020(أ) وثانيها بديمومة هذا المرسوم (ب).
1- خصائص هذا المرسوم عدد 8 لسنة 2020
للمرسوم عدد 8 لسنة 2020جملة من الخصائص التي تخدد كيفية تطبيقه مستقبلا .
* قواعد المرسوم عدد 8 لسنة 2020 هي قواعد آمرة
القواعد الآمرة هي القواعد التي لا يجوز الاتفاق على مخالفتها. و قد يقوم المشرع بتحديد الصبغة الآمرة للقاعدة القانونية من طريق التصريح (استعمال عبارات صريحة في منع الاتفاق على ما يخالف القاعدة الآمرة من قبيل "لا يمكن ، لا يجوز أو يعد باطلا كل شرط مخالف أو الشرط المخالف لا عمل عليه ) و قد تظهر الصبغة الآمرة للقاعدة القانونية من اسلوبها او طريقة صياغتها و حتى من خلال موضوعها.
و بالرجوع الى قواعد المرسوم عدد 8 لسنة 2020 يتضح انها قواعد آمرة و لا يجوز الاتفاق على ما يخالفها و كذالك من خلال صيغة الأمر و استعمال زمن المضارع المؤدي له "تعلق" ... " يستأنف ".
و لهذه الصيغة الآمرة لقواعد المرسوم عدد 8 لسنة 2020 جملة من النتائج من بينها انه لا يجوز للأطراف المتعاقدة خلال فترة التعليق الاتفاق على تحديد اجل أو تقديمة أو تأخيره بما يخالف الاحكام الآمرة للمرسوم عدد 8 لسنة 2020.
وتعتبر هذه الاتفاقات – ان وقعت – اتفاقات باطلة بطلانا مطلقا لمخالفتها قواعد آمرة صدرت في ظروف جد خاصة.
قواعد المرسوم عدد 8 لسنة 2020 هي اذن قواعد ملزمة للأطراف المتعاقدة وملزمة للقاضي الذي عليه ان يسعى الى حسن تطبيقها تحقيقا للمصلحة العامة.
* قواعد المرسوم عدد 8 لسنة 2020 هي قواعد تتعلق بالنظام العام
النظام العام هو جملة المبادئ التي يقوم عليها المجتمع في أساسه.
والقواعد المتعلقة بأساس من هذه الأسس.
قد ارتبط المرسوم عدد 8 لسنة 2020 بغرض محدد هو التصدي لجائحة كبرى تمثل خطرا محدقا بالبلاد والعباد ومن هنا فان المرسوم عدد 8 لسنة 2020 يرتبط ارتباطا وثيقا بالمصلحة العامة وبحماية المجتمع كله وتنظيم العلاقات بين افرادها بما يتماشى والخطر المحدق بهم.
ولقد كان بإمكان محرري المرسوم التنصيص صراحة على تعلق احكامه بالنظام العام (و هو أسلوب متبع في بعض التشاريع المقارنة).
و ما من شك في ان القضاء التونسي (عدلي او اداري أو مالي ) سيقر في أول مناسبة تتاح له طبيعة المرسوم عدد 8 لسنة 2020 بوصفه مرسوما يتعلق بالنظام العام.
ويستنتج من هذه الطبيعة جملة من النتائج التطبيقية الهامة من بينها ان القاضي – وهو الحارس على النظام العام وتحقيق المصلحة العامة – يثير احكام المرسوم عدد 8 لسنة 2020 من تلقاء نفسه ومنها كذلك إمكانية اثارة هذه الطبيعة لأول مرة امام محكمة القانون عدلية او إدارية
اعتبارا قواعد المرسوم عدد 8 لسنة 2020 قواعد آمرة ذات علاقة بالنظام العام يتماشى وخيار المشرع الذي رفض ان تكون جائحة الكورونا اطارا ومدخلا للاجتهاد القاضي، ومن خلال هذا الخيار يضمن المشرع التونسي المساواة ويضمن وحدة الآراء القانونية واحترام الوضعيات والمراكز القانونية.
2 – ديمومة المرسوم عدد 8 لسنة 2020
من صفات القاعدة القانونية الديمومة او الدوام . و لا تعني هذه الصفة خلود او ازلية القاعدة القانونية و انما تعني ان القاعدة القانونية تخمل في طياتها النزعة الى الدوام بما يشعر المخاطبين بها بالطمئنينة و الاستقارار.
و قد يبدو المرسوم عدد 8 لسنة 2020 لأول وهلة مرسوما "ظرفيا " و لا دوام لقواعده و هذا غير صحيح فالذي يتسم بالظرفية هو التعليق الذي جاء به المرسوم، اما المرسوم ذاته فلا يمكن ان يكون ظرفيا و نفي الظرفية عن قواعد المرسوم عدد 8 لسنة 2020 يعني انه لا يمكن نسخها او الغاءها بمجرد رفع الحجر الصحي العام و تخديد نهاية التعليق ، و هذا ما يفسر ان تحديد نهاية التعليق تكون بمقتضى أمر حكومي و ليس بمرسوم فلا مجال للكلام هنا عن قاعدة توازي الشكليات ذلك ان القواعد المضمنة بالمرسوم عدد 8 لسنة 2020 ستبقى محل تطبيق لمدة زمنية قد تطول لتعلقها بالآجال و ما انجر عن ذلك من حقوق قد تكون موضع نزاع مستقبلا فادعاء اكتساب ملكية بالتقادم على أساس حوز بحسن نية استمر لعشر سنوات انقطعت مدة التعليق الذي جاء به المرسوم عدد 8 لسنة 2020 و الدفع بهذا الانقطاع لا يمكن ان يكون على أساس قواعد منسوخة.
ويتضح هكذا ان الاستناد الى قواعد المرسوم عدد 8 لسنة 2020 والدفع بها قد يستمران لمدة زمنية طويلة جدا.
ولئن غابت ظرفية المرسوم عدد 8 من حيث محتواه أي من حيث قواعده فان ظرفيته من حيث الشكل لم تغب نظرا لخضوعه للإجراءات المصادقة طبقا لأحكام الفصل 70 من الدستور . و هذا يعني ان قواعد المرسوم ستبقى موجودة و ستلبس ثيايا جديدة هي ثياب القانون عند عرضها للمصادقة عليها . و في هذا الاطار و حسب رايينا ليس هناك خيار لمجلس نواب الشعب سواء المصادقة على المرسوم عدد 8 لسنة 2020 و تحصينه لان كل رفضا ضمنيا او صريحا للمصادقة تفقد كل قواعد المرسوم حصانتها و ديمومتها و هو ما يدخل ارتباكا كبيرا على انسجام المنظومة القانونية ككل.
فيصل العلاني
أستاذ بكليّة الحقوق والعلوم السياسية بتونس ومحام لدى محكمة التعقيب
- اكتب تعليق
- تعليق