في الذكرى الرابعة والستين لميلاد السياسة الخارجية التونسية (1956-2020) الزعيم بورقيبة ودبلوماسية اللعب في نادي الكبار
لقد كان الهدف الأسمى للدبلوماسية التونسية قبل الاستقلال وبعده هي مصالح تونس وسيادتها وسمعتها. ويعود الفضل للزعيم بورقيبة بمواقفه وتصريحاته وزياراته المكوكية عبر عواصم العالم وكذلك مبادراته حول العديد من القضايا الدولية .كل ذلك ساعد على بلورة و وضع أسس السياسة الخارجية التونسية ومنح تونس إشعاعا عالميا حققت من خلاله مكاسب عديدة لبناء تونس المستقلة وتدعيم حضورها الدولي .وقد نجح الرئيس بورقيبة في فترة وجيزة عبر تكثيف الاتصالات السياسية وزيارات رسمية عديدة في إقامة علاقات ودية مع كبار زعماء العالم شرقا وغربا وعلى مستوى العالم الإسلامي وفي القارة الأفريقية
صورة للزعيم بورقيبة مستقبلا الرئيس الأمريكي أيزنهاور خلال زيارته الرسمية لتونس في 17-16 ديسمبر 1959
صورة للرئيس بورقيبة في موكب جنازة الرئيس الأمريكي الراحل أيزنهاور في 30 مارس 1969 بواشنطن حيث تصدر الصف الأول لكبار الشخصيات العالمية المشاركة .من اليسار الى اليمين : الرئيس نيكسون ، أرملة وابنة بزنهاور، شاه أيران ، ملك بلجيكا ، الرئيس بورقيبة ، الرئيس الفرنسي الجنرال دي غول .
تونس ودبلوماسية الانفتاح والتعاون الدولي
كان التعاون المتعدد الأطراف أحد المكونات الأساسية للمنظومة التي وضعها المجتمع الدولي لمواجهة التحديات العالمية بعد الحرب العالمية الثانية . وقد انخرطت تونس منذ السنوات الأولى للاستقلال بشكل فعال ونشيط : في التعاون الثنائي ومتعدد الأطراف ، وداخل منظومة الأمم المتحدة في إطار المؤسسات المالية والتجارية الدولية وخاصة البنك الدولي ، أو في سياق المنظمات الإقليمية كجامعة الدول العربية ومنظمة الوحدة الأفريقية التي ساهمت تونس في تأسيسها في ماي 1963 أو ضمن المجموعات الاقتصادية بشكل عام مثل السوق الأوروبية المشتركة.
بل أكثر من ذلك ، فقد انتهجت تونس سياسات الانفتاح على العالم الخارجي وتكثيف سيل التعاون الدولي وبلورة مفاهيم الصداقة مع الدول والشعوب جميعها غربا وشرقا وتجنب الانخراط في المحاور السياسية أو الأيدولوجية زمن الحرب الباردة ورياحها العاصفة، كل ذلك ضمن رؤية استراتيجية واقعية قوامها الدفاع على المصالح الوطنية والاستفادة القصوى من التعاون الدولي لجلب المنافع المادية والعلمية للشعب التونسي الذي كان في أشد الحاجة لها خلال سنوات ما بعد الاستقلال حيث كانت البلاد تعاني من الفقر والجهل والخصاصة والمرض.
صورة للرئيس بورقيبة مع ملك النرويج أولاف وولي العهد و ألأمير هارولد أثناء زيارة رسمية للنرويج عام 1964
وبالفعل، فقد أتت هذه الرؤية الواقعية أكلها وثمارها حيث تحولت تونس ، هذا البلد الصغير الذي لم بكن تعداد سكانه يبلغ خمسة ملايين نسمة في مطلع الستينيات ، تحول الى قبلة لكبار الزوار من الرؤساء والزعماء العالميين من أمثال الرئيس الأمريكي أيزنهاور ورئيس ألمانيا الغربية كونراد أدنهاوروالرئيس الأندونيسي أحمد سكارنو والزعيم اليوغسلافي بروزتيتو والزعيم الصيني شو وان لاي وملكة بريطانيا أليزابيت الثانية الى جانب كل الزعماء الأفارقة من أمثال الرئيس السنغالي سنغور و رئيس الزائير موبوتو و الزعيم ألغاني كوامي نكرومة والمالي موديبو كايتا والقائمة تطول.
صورة للرئيس بورقيبة وسط زعماء حركة عدم الانحياز في المؤتمر التأسيسي الأول ببلغراد 1-5 سبتمبر.1961 .ويظهر في الصورة من اليسار الى اليمين بورقيبة ,احمد سوكارنو (أندونيسيا) ,السيدة باندرنايكا (سريلانكا) والزعيم الهندي نهرو والزعيم الغاني نكرومة والأمبراطور الأثيوبي هايلاسلاسي والرئيس اليوغسلافي تيتو وغيرهم من الزعماء الآخرين.
وهذا ما سيفتح الباب لتعاون حقيقي مع مختلف البلدان بما في ذلك دول المعسكر الاشتراكي كالاتحاد السوفييتي والصين الشعبية ، تعاون مثمر استفادت منه تونس بشكل كبير حيث تدفقت على تونس قروض ميسرة ومساعدات مالية وفنية كبيرة أضافة الى الحصول على آلاف المنح الدراسية للطلاب التونسيين في الخارج.
صورة من زيارة الملكة أليزبت الثانية لتونس في21 أكتوبر 1980
تونس وحركات التحرّر الوطني ومناهضة الميز العنصري
أبدت تونس تعاونا وتضامنا فعالا ومتواصلا مع حركات التحررالوطني في القارة الأفريقية عموما وحركة التحرّر الجزائرية على وجه الخصوص ،حيث كان لبورقيبة مواقف مشرفة من هذه القضية كما رأينا أعلاه .بالإضافة ، وقفت تونس موقفا مبدئيا وحازما ضدّ الميز العنصري في جنوب افريقيا وساندت سياسيا وماديا المناضلين ضدّ هذا الميز وعلى رأسهم نلسن مندلا الذي زار تونس وحصل على دعمها له عام 1965 في اطار الاستعداد لخوض الكفاح المسلح ضد الأقلية البيضاء.
صورة من زيارة الزعيم الغاني كوامن نكرومة ، رائد الوحدة الأفريقية ، لتونس عام 1966
وفي اطار هذه الرؤية الشاملة للعلاقات بين الدول وتجاه قضايا الاستعمار وحركات التحرّر تتنزّل موافق بورقيبة من قضية فلسطين منذ أربعينيات القرن الماضي حيث سبق له الاطلاع على جوانب الصراع العربي الصهيوني وذلك عبر زيارته لفلسطين والأردن عام 1947 . ومنذ الاستقلال دأبت تونس على الدوام في الدفاع عن القضية الفلسطينية . ولسنا في حاجة الى التذكير هنا بالمواقف الجريئة التي تبناها الرئيس بورقيبة بخصوص القضية الفلسطينية بدءا بخطاب أريحا عام 1965 وانتهاء باحتضان منظمة التحرير في تونس على أثر اخراج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت في سبتمبر 1982 طوال أكثر من عشر سنوات الى جانب احتضان جامعة الدول العربية في مطلع الثمانينيات.
وخلاصة القول ،ونحن نستحضر بعض الصفحات المضيئة في تاريخ الدبلوماسية التونسية ، لا يسعنا سوى التأكيد على صورة تونس الجميلة التي كانت سائدة في العالم كله خلال تلك المرحلة الحاسمة بفضل الرؤية الحكيمة التي سعت تونس الى انتهاجها وتبنيها على الصعيد الخارجي. ولو كان المجال يسمح بذلك ، لرويت للقارء الكريم حول هذه الصورة المتألقة العديد من الذكريات والوقائع الشخصية التي عشتها من خلال زياراتي لعشرات الدول والبلدان ومشاركتي كخبير دولي في عشرات الملتقيات والمؤتمرات عبر العالم.....
في هذه الظروف الصعبة ، يحق للتونسيين أن يتحسروا على الماضي وأن يستعيدوا في ذاكرتهم بعضا من هذه المكاسب والإنجازات التي لازالت تونس تعيش من رصيدها حتى اليوم رغم ضياع الكثير منها بعد 2011 ، صونا لهذا الماضي المشرف من مساعي القدح والتشويه والتضليل وأملا في تجاوز الحاضر الأليم والعمل على تحقيق المستقبل ألأفضل .وهي مسؤولية تقع على عاتق كل الوطنيين الشرفاء ، نساء ورجالا ، من أجل أن تستعيد تونس المكانة التي تستحق بين الأمم وان تواجه التحديات الخطيرة التي أصبحت تحيط بها من كل جانب وسط ركام الأزمات الاقتصادية العالمية وتداعيات وباء كورونا الخطير.
محى الدين الحضري - خبير مستشار دولي
قراءة المزيد
- اكتب تعليق
- تعليق