عامر بوعزّة: التعـدّد الصوتـي فـي رواية المـلائـكة لا تطير
في روايتها »الملائكة لا تطير« كتبت فاطمة بن محمود عن الراهن التونسي والتحوّلات المجتمعية والفكرية التي أحدثتها الثورة وأسهم فيها تطوّر الفكر السلفي والعنف الديني. فهي تسرد حكايةً أبطالها ينتمون إلى الواقع ويمثّلونه بكلّ تعقيداته وتناقضاته. لكنّ هؤلاء الأشخاص العاديّين الذين تسلّلت الكاتبة إلى عالمهم المغلق وتجوّلت في ذاكرتهم وأحلامهم وابتكرت لهم مسارات في الحياة وقادتهم إلى نهاياتهم، شخصيات روائيّة من صنع كاتبة تطرُق عالم الرواية بتحدّ. وهذا ما تلحّ على التذكير به عبر علامات وقرائنَ ترافق القارئَ وتجعلُه يقرأ الرواية دون أن يغيب عن ذهنه لحظة أنّها عمل أدبي قائم على السّرد والتخييل.
يقتفي الخطّ الزمنيّ في الرواية المسارَ الذي تطوّر عبره تمرّد الفكر السلفي على المجتمع، فيبدأ من «أحداث سليمان»، ثمّ يعبر أحداثا أخرى وقعت في مرحلة «الترويكا» من أهمّها استقبال الدعاة، وما نجم عنه من أفكار غريبة عن المجتمع التونسي مثل فكرة «ختان البنات». ويستمدّ هذا التاريخ العامّ أهميّته من تأثيره المباشر في الصراع الذي تعيشه الذوات، وهي شخصيّات ثلاث تمـــثّل مـع السّاردة أربعة أصوات تـؤلّف رواية بوليفونية، وميخائيل باختــين يــــرى أنّ بوليفونية الرواية لا تتحقّق إلاّ بمبــدأ جوهريّ هو التعــدّد الصوتي.
عن الكاتبة والرّاوية والسّاردة
نميّز هنا لضرورة منهجيّة بين ثلاثة أصوات هي صوت الكاتبة وصوت الرّاوية وصوت السّاردة. فالتقنية الأساسية التي اعتمدتها فاطمة بن محمود في خلق التعدّد الصوتي يمكن تسميتها بتقنية «الانفصام»، حيث نجد لكلّ ذات في الرواية أكثر من صوت. وفي النصّ الإطار تظهر شخصيّة السّاردة وهي تنتظر امرأة مجهولة لتحصل منها على قصّتها، ومعاناة هذه المرأة في المنطلق لا تتجاوز حدود رغبتها في الخروج من الشعر إلى الرواية. وتبدو المسافة بين السّاردة والكاتبة منذ المستوى الأوّل هشّة حدّ التداخل، ففاطمة بن محمود أستاذة الفلسفة في المعاهد الثانويّة شاعرة وقصّاصة قبل أن تصبح روائية، وهذه المرأة الموجودة في المقهى تشبهها كثيرا: «لا أريد أن أتأخّر أكثر في كتابة روايتي الأولى»، هكذا تقول السّاردة وهي تغادر المقهى مســـرعة لتدخــل بنا عالم «سيف وليلى ونور» الذي يمثّل المستوى الثاني من مستويات السّرد المتعدّد.
وجودُ الرواية بين يدي القارئ يعني إذن أنّ السّاردة حصلت على غايتها، وسنعرف كيف تحقّق ذلك في المشهد الأخير حين تكشف النقاب عن الأدوات التي استخدمتها في الكتابة، ونعرف المرأة التي التقتها في المقهى وتسلّمت منها القصّة. لكن قبل ذلك سيعيش القارئ تفاصيل حياة ثلاث شخصيّات تؤلّف عائلة واحدة، لكلّ فرد منها عالمه الخاصّ، فينقسم المتن الرّوائي في المستوى الثاني بدوره إلى مستويين: مستوى تتولّى فيه الرّاوية دور «الرّاوي العليم»، فتتسلّل إلى عالم الشخصيات المغلق والأكثر حميميّة لتنقل ما يجدّ فيه من أحداث، ومستوى ثان تتحدّث فيه كلّ شخصيّة بصوتها الخاصّ في مونولوج يكشف أعمق خباياها. لكن كيف نميّز بين صوت الرّاوية وصوت السّاردة؟
للإجابة عن هذا السؤال ننتبه أوّلا إلى الهوامش، فالتعليقات الواردة فيها لها وظيفة أولى لا تتجاوز إرشاد القارئ وتعريفه ببعض المعطيات من خارج النصّ، كالتعريف بجماعة سليمان في هامش الصفحة 34، أو تفسير عبارة «بن علي هرب... بن علي هرب» في الصفحة 47، فيما تقوم التعليقات على تصرّفات السّاردة وحضورها بوظيفة ثانية داخليّة، إذ تتحكّم بواسطتها الكاتبة في المسافة الفاصلة بين السّاردة والشخصيّات الأخرى بوصفها صوتا مستقلاّ بذاته «تعرف السّاردة جيّدا ما يفعله سيف وإخوته في خلوتهم، لا ترغب في الدخول عليهم الآن ص17»، ولا يتوقّف حضور السّاردة بصفتها شخصا لا صوتا على الهوامش فحسب، بل نجدها في المتن حيث توهمنا الكاتبة بأنّ كلّ الشخصيات أصبحت واعية بحضورها في حياتها وأنّها تتحرّك تحت أنظارها وتسعى إلى الانفلات عنّا: «السّاردة ليست هنا، في غيابها وجد سيف فرصة التحرّر كلياّ من ضغوط الواقع رفقة إخوته في الإسلام... غابت السّاردة فوجدت ليلى الفرصة متاحة للتحرّر من حججها الواهية »ص70، كما تحاول الكاتبة إيهامنا بأنّ السّاردة تخوض مع الشخصيّات صراع وجود فقدت فيه السيطرة عليهم والقدرة على التحكّم في مصـائرهم مخرجة إيّاهم من دائرة الحبر والورق إلى الواقع، تقول نــــور:«عندما هممت بدخـــول غرفتـــي التفتُّ جهة البـــاب ولمحت السّاردة منزعجة قلقة تلوّح لي بيدها لأدخل الغـــرفة. مسكينة هـذه السّـــاردة فعـــلا ألا تفهم أن كـلّ شيء فــــاتــهـــا!» ص 274
ويمثّل المشهد الثلاثون ذروة تداخل مستويات السّرد وتشابك عوالمه، حيث تتحدّث فيه الرّاوية بضمير الأنا لتعبّر عن صدمة الكاتبة عندما قرّر سيف إجراء عمليّة ختان لابنته نور. يذكّرنا هذا المشهد بما فعله النوري بوزيد في فيلم «آخر فيلم» حين أوهم المتفرّجين بأنّه أوقف التصوير ودخل في حوار مع الممثّل لطفي العبدلي الذي يقوم بدور البطل «بهتة» والذي يحتجّ على المسار المرسوم للشخصيّة ويتمرّد على المخرج. وينقلنا هذا المشهد إلى مستوى أعلى من كلّ مستويات السّرد التي فحصناها آنفا، مستوى فوقي يدور ربّما بشكل واقعي في بيت الكاتبة نفسها، وتعكس هذه الحوارية أزمة ثقافية واجتماعية حقيقيّة تتجاوز حدود الرواية لتشمل المجتمــــع بأسره. ففي حين تــرى الرّاوية أنّ الرّواية ليست خيالية، بل واقع حقيقيّ لأنّنا نلتقي أشباه سيف يوميّا في الشارع، يرى زوجها أنّ من يفكّر بتلك الطريقة حرّ. وعن إمكانيّة أن يصبح ختان البنات شائعا في تونـــس المشهورة بنصرة المرأة ومجلّة الأحوال الشخصيّة تصطدم الرّاوية بقول زوجها: «نعم، هو حرّ، وتلك طريقته في الحفاظ على عفّة ابنتـــه وصــون شرف العائلة» ص129. هذا المشهد الذي يبدأ بســـؤال عن الجـــدوى من الكتابة ينتهـي بنوبة بكاء عنيفة في الشـــرفة!
الذّوات المعطوبة: سيف وليلى ونور
ولدت نور العام 2006. في لحظة اللقاح صرخ الحيوان المنويّ: «كم يبدو مثيرا ورائعا أن أحظى بفرصة حياة لن يسرقها منّي أحد!» ص15، بعد خمس سنوات من السّجن بتهمة الانتماء إلى مجموعة سليمان ينتهي المطاف بوالدها سيف حرّا طليقا: «بعد هروب بن علي لا نعرف من فتح الأبواب» ص 49. في العام 2012 يرغم سيف زوجته ليلى على قبول الأمر الواقع ويخضعان ابنتهما إلى عملية ختان. وتغطّي الرّواية إثر ذلك جانبا مهمّا من حياة نور حتّى بلوغها التاسعة عشرة من العمر وتصوّر هذه المفارقةَ العجيبة: كيف سرقت الحياة من نور التي اعتقدت منذ نشأتها أنّ حياتها لن يسرقها منها أحد!
وإذا نظرنا إلى خطّ الرّواية الزّمني في علاقته بالتاريخ العامّ ننتبه إلى أنّ الكاتبة قد انفصلت عن الواقع لتدخل زمنا لم يحدث بعد. وكلّ ما فيه خيال وتوقّع! هكذا تنقسم الرّواية إلى قسمين: قسم واقعي ينشدّ إلى التاريــــخ بقـــرائن موثّقة مثل حــــادثة إنزال العلم من كليّة منوبة أو محاضرة الداعية وجدي غنيم في ملعــب المنزه، وقسم استشرافي تتخيّل فيه الــــرّاوية لكلّ شخـــصيّة من شخصـــيّات الرّواية مصـــيرا يناسبـــه ويشبهـــه.
هذه الشخصيّات الثلاث تتحرّك داخل إطار عائلي، لكنّ العقل السلفي الذي يمثّله سيف يفرض عليها قانون الصمت الذي سينتهي بها إلى التمرّد والانفجار. فلا معنى لهذه الذّوات مجتمعة، لكن يُنظر إلى كلّ واحدة منها بشكل مختلف، وهكذا ترسم الرّواية ثلاث حيوات منفصلة، ووفق استراتيجية التعدّد الصوتيّ تتراجع السّاردة في عدّة مشاهد لتترك لكلّ شخصيّة أن تعبّر عن نفسها في مونولوج، فيتسلّل القارئ إلى الفضاء الخاصّ بها، ويكتشف الوجه الآخر. لكلّ شخصيّة وجهان وصوتان متضادّان، يعكس ذلك حالة التمزّق التي يعيشها المجتمع بين الديني والدنيوي، بين الحياة والآخرة، بين المقدّس والمدنّس، بين الشرف والخطيئة. وهو ذات التمزّق الذي نلمسه في المواجهة بين السلفيّة والعلمانيّة: «كان هو وبعـــض شبــــاب الإســـلام يستعدّون لشنّ هجوم على أحد الفنادق التي تبيع الخمر وتمارس فيها الرذيلــــة في إحــــدى المناطق السياحية في سوسة لكنّ الطاغوت باغتهم واعتقلهم» ص101
هذا التمزّق ينقله الأفراد إلى المجتمع وإذا نظرنا إلى سيف نموذجا وجدنا أنّ الانتماء إلى الفكر الدينيّ السلفيّ هو ردّ فعل على إحباط نفسيّ ذاتيّ وقهر اجتماعيّ بسبب انتهاك للجسد وخيبة عاطفيّة وفقر ماديّ، أمّا ليلى فتمتلك خلف النقاب جسدا يتطلّع إلى الحريّة ورغبة دفينة في الانعتاق، تعبّر عنها في خلوتها حين تقف أمام المرآة وترتدي ما تحبّ من الثياب وترقص: «يحدث أحيانا أن أرى نفسي أرتدي سروالا ضيّقا وقميصا ينحسر على صدري فينتأ نهداي في تمرّد وتتلاعب النسائم بخصلات شعري في الهواء»، أمّا نور فتبدأ مسيرتها نحو الحريّة من اتّجاه معاكس لأنّ خمارها مفروض عليها كما فرض عليها الختان وبدأت مسيرتها في اتّجاه الحريّة من لحظة إحساسها بأنّ الله قد خذلها: «يا الله لماذا تخلّيت عنّي ولم تنجدني؟» ومن ثمّة بدأت تسير في طريق الانعتاق عبر الخيال والفنّ والفلسفة والكتابة: «تلمّست حجابها ثمّ سحبت يدها بسرعة وهي تقول بصوت لا يسمعه سواها: أنا أيضا لست سوى فكرة! (...) جلست إلى مكتبها وقد راقها أن تتحوّل إلى فكرة. فكرة تبحث عن ذاتها»
في خضمّ هذه الازدواجيّة تقدّم فاطمة بن محمود قراءة سيكولوجية فرويدية للظاهرة الإرهابية، فسيف أداة طيّعة وعمياء في يد الجماعة، وفي كلّ المشاهد التي قادته فيها الساردة إلى حوار عن العقيدة يخفق في الحفاظ على ثباته وتماسكه: «تساءلت مثله في سرّي، وقد قادني بسهولة إلى بحيرة من قلق: نعم، كيف يمنح الله عباده حياة القهر ثمّ يطالبهم بشكره؟» ص44، ولا يعدو الانتماء بالنسبة إليه أن يكون مظهرا يستر به ذاته الممزّقة: «يروقه جدّا أن يجد نفسه مختلفا عن بقيّة الناس بقلنسوته البيضاء وقميصه الأفغاني ولحيته المطلقة التي تتأرجح فيها الملائكة» ص59 لكنّ ذلك لن يمنعه في النهاية من اختيار طريق الموت حين أعلمه الشيخ عبد الحميد أنّهم يعدّون خليّة لتنفّذ في العاصمة تفجيرا في أحد الفضاءات التجاريّة الكبرى فقال: «هذه المرّة أضيفوني إلى الخليــــّة، سأكـــون معكم!» ص286
في مقاربته علاقة الرّواية البوليفونية بالرواية المونولوجية يقول الناقد المغربي محمد بوعزة وهو يشرح موقف باختين من دور الكاتب «فالبوليفونية الرّوائية ماذا تعني في النهاية؟ إنّها تعني تنظيم أشكال الوعي المتعدّدة في داخل الرّواية، وتشخيصها بشكل متساو لا يؤدّي إلى هيمنة وعي واحد»، ونعتقد أنّ فاطمة بن محمود قد استطاعت في روايتها «الملائكة لا تطير» أن تنجز عملا روائيّا لا يهيمن فيه صوت على آخر، حتّى إنّك إن أحببت ستتعاطف مع سيف وتتفهّم غلبة عقده النفسيّة الدفينة على قراراته الشخصيّة وأسلوب حياته، وهو الخيار الذي قد يختلف فيه كثيرون مع الكاتبة، فهل كان من الضروري البحث من خارج الفكر الدينيّ عن ذرائع نفسيّة وسوسيولوجيّة تفسّر التطرّف وهل كان ينبغي أن يكون سيف منتهكا ليفرض على ابنته نور تجربة الانتهاك وإن في إطار يبدو له شرعيّا ومن أجل الفضيلة والعفّة والشّرف؟
لكنّنا سنلاحظ حتما أنّ الهاجس الأدبي الذاتي للكاتبة ظلّ متوهّجا ومتعاليا لا سيما أنّها تعتبر الكتابة تمجيدا للحياة، حيث تقول في النهاية: عزائي أنّ الشعر إن كان صعبا فالرّواية ليست سهلة أيضا لذلك أعترف أنّ الكتابــــة السّردية مغامرة حقيقية وعمل صعب.
عامر بوعزّة
- اكتب تعليق
- تعليق