محمد النوري: لماذ بقي قانون الصكوك في تونس حبرا على ورق؟
سؤال أطرحه على مجمل النخبة الوطنية بشتى اتجاهاتها وقناعاتها ومشاربها الفكرية وأخص بالذكر النخبة السياسية والاقتصادية التي من المفترض ان تكون حريصة كل الحرص على البحث عن موارد تمويلية بديلة عن اكراهات التسول وسياسات الاذعان للمؤسسات المالية الدولية التي تتفاقم مخاطرها يوما بعد يوم من جراء الاستمرار الممنهج في خيار اللجوء الى الاقتراض والمزيد من الاقتراض لسد الفجوة المالية المتراكمة للبلاد التي بلغت ذروتها في السنوات الأخيرة.
ففي حين يكاد ينحصر الاجتهاد الرسمي للسياسة المالية في بلادنا في خياري الجباية والاقتراض، يتجه العالم شرقه وغربه نحو تنويع مصادر التمويل والاستباق الى استنباط موارد بديلة عن الموارد التقليدية التي روجت لها طويلا النظرية النقدية (او النقودية) التي تسوس النظام الاقتصادي العالمي في ظل هيمنة النمط الرأسمالي النيوليبرالي، حيث شهد التفكير المالي الحديث قفزة نوعية من خلال ابتكار جملة من الخيارات الجديدة مثل التمويل الجماعي او التشاركي (crowdfunding) والتمويل عن طريق الشراكة بين القطاعين العام والخاص PPP وما يعرف بخطوط التمويل الذاتي/ التمويل الأوَّلي Seed Capital ou fonds d’amorçage المرتبط بصناديق تمويل المشاريع المبتكرة ذات المحتوى التكنولوجي العالي FCPR، والتمويل من خلال برامج الحاضنات ومسرعات الأعمال ورأس المال الملاك Business Angels ورأس المال الجريء Venture Capitalورأس المال المخاطرSICAR حتى وصل به الامر للتكيف مع أدوات التمويل الإسلامي واستخدمها في مجابهة الازمات وشح السيولة وفي مقدمتها صناديق الاستثمار الإسلامية والصكوك الإسلامية التي أضحت جزءا لا يتجزأ من أدوات الأسواق المالية العالمية.
السؤال المحير الان هو لماذا تخلفت تونس عن استخدام هذه الأدوات المتطورة وتحديدا الصكوك الإسلامية في الوقت الذي تطبق هذه الآلية في اكثر من 40 دولة في العالم من الدول المتقدمة والنامية على حد سواء؟ ما هي الأسباب الجوهرية التي أعاقت هذه التجربة في ظل حاجة البلاد الماسة الى تنويع مصادر التمويل والتي لا يختلف حولها اثنان؟ لماذا أنجزت بلدان غربية وأوروبية وآسيوية وحتى افريقية ومغاربية نجاحا في هذا المجال وتوقفت العربة التونسية طويلا في محطة الانتظار وهي السابقة للبعض من تلك الدول في سن اول قانون لإصدار الصكوك منذ جويلية 2013 ولكن ظل هذا القانون حبرا على ورق، برغم بعض المحاولات القصيرة في تنزيله ونفض الغبار عليه؟
عودة لمفهوم الصكوك وجدواها الاقتصادية
الصكوك هي احدى الأدوات المالية الإسلامية المبتكرة الخاصة بتمويل المشروعات الاستثمارية وخصوصا الكبرى منها التي لا يمكن تمويلها عبر الجهاز البنكي والأساليب التقليدية المعهودة. وهي عبارة عن ورقة مالية تمثل حقا للملكية (وليس حق دين مثل السندات) في مشروع موجود او موعود يقوم على جملة من الأصول والمنافع والنقود والديون او خليطا من جميع ذلك، وتديرها شركة ذات غرض خاص تضمن حقوق المستثمرين (حملة الصكوك) وفق نشرة اصدار يحدد فيها طبيعة الصك والعقد الذي يستند اليه ومبلغه والعائد المتوقع منه وتاريخ اطفائه وطريقة استرداد اصله.
ويمكن تداول هذه الورقة المالية في السوق الثانوية ضمن بعض الشروط والضوابط الشرعية للعقد الذي بني على أساسه. ومن الناحية الهيكلية العملية توجد صكوك قائمة على الأصول وصكوك مدعومة بالأصول، تتفرع الى 15 نوعا من الصكوك المتعامل بها في السوق العالمية، مثل صكوك الاجارة والسلم والاستصناع والوكالة بالاستثمار والمرابحة والمضاربة والمشاركة والصكوك المبنية على العقود الزراعية كالمزارعة والمغارسة والمساقاة. وهي كلها صكوك تهدف الى توفير التمويل اللازم من السوقين المحلية والدولية سواء كانت بالعملة الوطنية عبر تعبئة الادخار المحلي وتوجيه السيولة نحو الاستثمار في الصكوك، او بالعملة الأجنبية بهدف جذب الاستثمار الخارجي.
ومن زاوية أخرى يمكن تقسيم الصكوك الى قسمين أساسيين: صكوك التمويل وصكوك الاستثمار. في حين تكون الاولى غالبا قائمة على الأصول وتقوم على "تصكيك" أي تسييل اصول موجودة وتحويلها الى سيولة لتغطية حاجيات مختلفة منها عجز الميزانية، تهدف الثانية الى المشاركة في الاستثمار ضمن مشروعات موجودة او موعودة أي جديدة وقابلة للإنجاز مثل مشاريع البنية التحتية والطاقات المتجددة والمصانع والوحدات الانتاجية بشكل عام.
جدوى الصكوك ودورها في انعاش التنمية
تتمثل الاهمية الاقتصادية للصكوك في كونها من انجع الوسائل لجذب المدّخرات الحقيقية وتعبئة الموارد وتجميع الأموال اللّازمة، لتمويل مختلف المشروعات التنموية والحيوية ذات الجدوى الاقتصادية والاجتماعية وبطرقٍ مشروعة. وهي وسيلة فعالة لعلاج التضخم والكساد الاقتصادي وهي ايضا من السياسات النقدية الناجحة التي قد تتبعها الدولة في امتصاص السيولة من السوق الموازي بالإضافة الى دورها في تمكين البنوك والمؤسسات المالية عموما والإسلامية خصوصا كشركات التامين وصناديق الاستثمار، من توظيف الفائض لديها في الصكوك ، وإن احتاجت للسيولة تقوم ببيعها في السوق الثانوية وبالتالي هي وسيلة مجدية لإدارة موجودات تلك البنوك والمؤسسات المالية . كما أنّها تعتبر من الأدوات المالية الإسلامية التي استطاعت أن تكتسح السوق المالية العالمية وتجد لها مكانة هامّة ومميّزة في حيز زمني وجيز.
وللصكوك دور كبير في معالجة العجز في الميزانية العامة للدولة والتقليص من المديونية والاعتماد على الاقتراض وذلك لأنها تعطي الفرصة لكل أفراد المجتمع لسد الاحتياجات التمويلية اللازمة لدعم الميزانية العامة فيمكن للدولة أن تصدر صكوك بأنواعها المختلفة لاستثمار حصيلتها في المشاريع المدرة للدخل والربح وبالتالي تخفف الحمل علي ميزانيتها سواء تمت بالعملة المحلية في اتجاه تحريك الادخار الوطني وامتصاص السيولة او بالعملة الأجنبية في اتجاه استقطاب الاستثمار الأجنبي وجذب أموال المقيمين بالخارج . وتساهم أيضا الصكوك في القضاء على البطالة والأموال المعطلة حيث تعمل على زيادة مستوى تشغيل الأموال العاطلة بما يحقق رغبات المستثمرين والمدخرين.
انتشار تجربة اصدار الصكوك في مختلف بلدان العالم
شهد سوق الصكوك على الصعيد الدولي نموا هائلا منذ ثمانينات القرن الماضي ولا يزال يشهد تنوعا في ادواته وتوسعا في فضاءاته حيث سعت الكثير من الدول لا سيما غير الاسلامية إلى تطبيق الصكوك حول العالم ؛ نظرا لأهمية ودور الصكوك في تنمية الاقتصاد ، وانتشر استخدام الصكوك بين دول كثيرة ومنها دول آسيوية مثل ماليزيا والامارات وباكستان والبحرين وقطر والسعودية وايران وأخيرا مصر وسنغافورا وروسيا والصين وغيرها وكذلك بعض الدول الافريقية مثل السودان والنيجر وجنوب افريقيا والمغرب ، بالإضافة إلى دول أوروبية منها ألمانيا وتركيا وخصوصا بريطانيا. كما ان هناك العديد من الدول التي تستعد لامتطاء قطار الصكوك الإسلامية مثل استراليا ونيجيريا وكوريا الجنوبية والسنيغال.
وقداصبحت بريطانيا مركزا دوليا لإصدار وتداول الصكوك الإسلامية وأول دولة غربية تصدر صكوك إسلامية منذ عام 2014، عندما جمعت 200 مليون جنيه إسترليني (260 مليون دولار) من إصدار مدته 5 سنوات بلغت فيه طلبات الاكتتاب 10 أضعاف المعروض. وتسعى لندن من خلال الصكوك لأن تصبح أهم سوق عالمية للخدمات المالية حيث اثبتت بورصة لندن جدارتها في القدرة على جذب المدخرات المالية واستثمارها على حد السواء ، واكتسبت بذلك التجربة البريطانية خبرة دولية ونجاحا باهرا في استخدام الصكوك الإسلامية وكفاءتها في جذب الأموال من أصحاب الفوائض المالية ، واستقطاب المستثمرين من أصحاب العجز المالي بفضل حزمة الاجراءات والقرارات الخاصة بمنح إعفاءات ضريبية على الصكوك من اجل المزيد من جذب رءوس أموال المدخرين.
أسباب تعثر اصدار الصكوك في تونس
تعتبر تونس سباقة على الصعيد التشريعي واستصدار القوانين الضرورية للعمل بمنظومة الادوات المالية الإسلامية حيث أصدرت المعايير الجبائية للمعاملات المالية الإسلامية التي تعالج مسألة الازدواج الضريبي في بعض العقود( قانون المالية 2012) ، ثم قانون الصكوك (2013)، فقانون صناديق الاستثمار الاسلامية (2013)، فقانون شركات التامين التكافلي (2014) وأخيرا قانون عدد 48 لسنة 2016 فيما يتعلق بعمليات الصيرفة الإسلامية التي تقدمها المؤسسات المالية الإسلامية.
ورغم هذه الحزمة الهائلة من القوانين والتشريعات الا انها معظمها ظل وتحديدا الصكوك حبيس الجدران التي سنته، وبقي القانون غير قابل للتنزيل نظرا للنقص الحاصل في بعض التراتيب الإجرائية والاوامر التطبيقية بسبب ضعف تفاعل السلطات الإشرافية مع حاجيات هذا القطاع الصاعد وتطويره. وهي مفارقة تونسية صرفة حيث ان العديد من التجارب الأخرى التي تخلفت على صعيد التشريعات والقوانين لكنها مرت وبسرعة ملفتة الى التطبيق وسبقت التجربة التونسية في اصدار الصكوك على غرار كل من المغرب ومصر على سبيل المثال.
والمتأمل في أسباب هذا التعثر لا يجد صعوبة في الوقوف على جملة العوامل الرئيسية التالية:
• غياب الإرادة السياسية: نعم نقولها وبكل وضوح ليست هناك إرادة سياسية حقيقية على مدار السنوات السبعة التي مرت على تاريخ اصدار هذا القانون، وفي مختلف الحكومات المتعاقبة بدءا بحكومة الترويكا الاولى التي وإن كان يعود لها الفضل في الدفع بصدور القانون الى جانب القوانين الأخرى المتعلقة بمنظومة التمويل الإسلامي، الا انها لم تفلح في التقدم خطوة أخرى نحو تذليل العوائق الترتيبية لاستكمال الجوانب العملية لتنزيل المشروع في الواقع.
كما ان الحكومات المتتالية الأخرى وان عبر البعض منها على شيء من الاهتمام بالموضوع والتقدم به نحو التطبيق الا انها لم تتسلح بالمنهجية الملائمة ولم تحسن اختيار الخبرات المؤهلة لإحداث النقلة المطلوبة. وقد مثل ادراج الصكوك كبند من بنود ميزانيات الدولة منذ 2014 الى 2019 شكلا من اشكال التمني بالإنجاز اكثر منه وعيا بشروط الإنجاز ومتطلباته، ولم يكن في حالات أخرى سوى شعارا للاستثمار السياسي وتنصلا من مسؤولية التنفيذ.
• ضعف الثقافة المالية التي تحيط بآلية اصدار الصكوك وتوظيفها في مشروع التنمية بالبلاد: ويتجلى هذا الضعف في غياب الاهتمام بنشر الوعي المالي بهذه الأداة التمويلية الجديدة وتبيين أهميتها وجدواها في النهوض بأعباء تمويل مشاريع التنمية وتخفيف العجز في ميزانية الدولة. ولذلك بمجرد اعلان الحكومة عام 2015 عن عزمها على اصدار صكوك مستندة على مشروع المركب الرياضي برادس دون اي توضيح للراي العام والمواطنين بمغزى هذا الاجراء وأهدافه ومكاسبه ومنهجية بنائه والمحاذير المحيطة به، حتى انبرت العديد من وسائل الاعلام في تسويق خطاب ترذيلي للمفهوم وتحذر من مغبة المساس بما اسمته ب"المنشآت السيادية" للبلاد، بدلا من الاستعانة بالخبراء والكفاءات التونسية التي يزخر بها العالم في هذا المجال وتستفيد منها العديد من الدول الأجنبية في اصدار الصكوك. لم يحدث هذا في بلد غربي مثل بريطانيا حين عمد رئيس وزرائها دافيد مكرون الى "تصكيك" مقر البرلمان البريطاني ذاته رمز السيادة البريطانية لأنه سبق ذلك القرار الجريء الذي كسبت منه الدولة البريطانية ما يزيد عن 150 مليون جنيه إسترليني دون المساس بالملكية الاصلية للبرلمان، حملة توعوية وبرنامج تثقيفي واسع للمواطن البريطاني الذي تفاعل بمسؤولية وطنية مع الموضوع ودون أي خلفية سياسية او دينية تذكر.
• ارتفاع منسوب الحساسية السياسية والايديولوجية: وهذا العامل للأسف يعد من خصوصيات جزء من النخبة التونسية التي تعاملت مع المسألة بخلفية بعضها سياسي والبعض الآخر ايديولوجي ولا يزال البعض منها يعاني من حساسية مفرطة إزاء كل ما يمت الى الدين الإسلامي بصلة ولو كان فيه النفع كله. لا يمكن ان تنهض البلدان دون التخلص من مثل هذه الحساسية التي تكاد تتحول الى عقدة تاريخية ترتبط بها بعض الاذهان والعقول وتحول بينها وبين البحث عن الحقيقة وتغليب المنفعة العامة على كل اعتبار.
لماذا لم نقرأ عن مثل هذه الحساسية لدى الشعب الماليزي الذي تعتبر بلده رائدا عالميا في المالية الإسلامية وإصدار الصكوك تحديدا وهو خليط من الأديان والعرقيات المتنوعة؟ لماذا تعاطت شعوب غير إسلامية بكل تلقائية وبراغماتية مع هذه الأدوات الجديدة الغريبة عن تقاليدها المالية وهويتها الثقافية؟
• غياب المتابعة والرقابة التشريعية: وأخيرا من العوامل التي ساهمت في تعطيل مثل هذا المشروع الحيوي، ضعف المتابعة من قبل المشرع ذاته وغياب الرقابة والمساءلة للحكومات المتعاقبة عن سبب هذا التعطيل وعن جدوى الادراج الروتيني للصكوك في بنود كل ميزانية دون ان ترى النور. والغريب في هذا الصدد هو فقدان الحماسة للموضوع حتى من الاوساط التي ساهمت في اصدار القانون وعدم تحمل أي مسؤولية في المطالبة بتفعيله والمساهمة في تذليل الصعوبات امام تنزيله.
• غياب المبادرة الخاصة: وعدم التفات القطاع الخاص ورجال الاعمال وأصحاب المشروعات الكبرى الى أهمية الصكوك وجدواها الاقتصادية وعدالتها التوزيعية عبر نظام تقاسم المخاطر الذي يحكم مجمل العقود المالية التي تتهيكل على أساسها الصكوك. ليست الدولة وحدها المعنية باستخدام الصكوك بل يأتي قبلها القطاع الخاص الذي يريد ان يكون الرافعة الأساسية الاولى للنمو والتنمية ويتطلع ان يكون قاطرة الاستثمار التي ينهض بها الاقتصاد. فقد نص القانون ان اصدار الصكوك ليس حكرا على الدولة ممثلة في وزارة المالية او البنك المركزي وانما يخص الى جانب ذلك كلا من المنشآت والمؤسسات العمومية والجماعات المحلية، وكذلك كافة مؤسسات القطاع الخاص طبقا لشروط تضبط بأمر.
باختصار اذا لم ترجنا هذه الازمة الجديدة (أزمة الكورونا) وتهزنا هزا في اتجاه بناء بديل تنموي مغاير يستفيد من كل التجارب الانسانية ويعتمد على الابتكار المالي، ويراعي الخصوصيات والثوابت الوطنية ويقدر على ادماج المنظومة القيمية والثقافية للمجتمع التونسي، فلا يمكن الحديث البتة عن نهوض اقتصادي ولا عن تطور ولا تقدم، لان الامم الحية هي التي تتحول فيها الخصوصيات إلى عامل دعم وإسناد لكل مشروعات البناء والتطوير.
فالخصوصيات الوطنية للمجتمع تعني اساسا الاعتزاز العميق والواعي بالذات الثقافية والحضارية الذي يدفع الى الاجتهاد والتجديد والتطوير والانفتاح والتفاعل مع المكاسب والانجازات الانسانية والحضارية. كما تعني الربط العملي والايجابي بين المنظومة القيمية وبين الواقع المجتمعي واستدعاء تلك القيم الراقية عند انتاج الافكار والمقترحات والمعالجات.
د. محمد النوري
أستاذ وباحث في الاقتصاد والتمويل الإسلامي
- اكتب تعليق
- تعليق