أخبار - 2020.04.28

منجي الزيدي: الإنسان في مواجهة الجائحة, مـاذا يــقـول الفيـروس؟

منجي الزيدي: الإنسان في مواجهة الجائحة, مـاذا يــقـول الفيـروس؟

أَتَت الجائحةُ العالَمَ بغتةً وهو لا يشعر، فوجد نفسه يواجه كارثة كبرى، وأنّه واقع بين مطرقة المرض والموت وسندان خراب اقتصاديّ شامل ووشيك. اكتشف فجأة أنّ إمكانياته الصحيّة بتقنياتها المتطوّرة عاجزة عن تَحَمُّل أعداد الضّحايا المتوقّعين، وراعه أنّ » سلاحَ دمارٍ شامل«ٍ لا يُرى بالعين المجرّدة يُفلت من رقابته، ويستعصي على سيطرته، ويهدّد صروحه بالانهيار التدريجي؛ وأنّه لا توجد مؤشّرات على خلاص قريب. وأقبل بعض النّاس على بعضٍ يتساءلون ماذا أصابنا وقد حسبنا أنفسنا في حصن منيع؟ فكأنّما جاء هذا الفيروس ليقول لنا، وهو يُلحِق بنا ضررا جسيما، بعض الحقائق.

يقول لنا الفيروس إنّ الإنسان الذي ينتفع اليوم بمنجزات العقل فاقدٌ للتفكير العقلاني. فعندما لاح الوحش من بعيد لم يُصدِّق كثيرٌ من النّاس-بمن فيهم قادة دول عظمى - شراسته؛ وقالوا هذا أمر يصيب الآخرين، هذا وباء في مكان بعيد، القوى العظمى لن تعجزها «أنفلونزا عابرة». بلدان عديدة تقاعست في التّأهب والحيطة خوفا على اقتصاداتها وغرورا بإمكانيّاتها مع انعدام كفاءة مسؤوليها في إدارة شؤونها فدفعت الثّمن باهظا. مجتمعات كثيرة بخلت بالتضحية بقليل من نمط حياتها، وبشيء من الحريّة الفرديّة «المقدّسة»؛ باغتها الوحش ونشر الموت فيها.

يقول لنا الفيروس إنّ التّقـدم العلمــي والتكنولوجي الرّبحي لم يحقّق للإنسان مناعته الحقيقيّة وكرامته المنشودة إذ صَنَع السّلاحَ قبل اللّقاح. وإنّ أكبر القوى في العالم التي دجَّجَت نفسها بالقنابل النوويّة تشكو اعتلالا في منظوماتها الصحيّة، وقد يموت بعض النّاس فيها دون علاج. وإنّ ترسانات الأسلحة عاليّة الدّقة لن تفلح في صدِّ شيء مجهريّ يستهدف الرّئة البشريّة فيفتِك بها. وأنّ الأقمار الصّناعيّة والمَركَبات المكّوكيّة والطّائرات المُسيَّرة عن بعد والتي تجاوزت سرعتهــا جدار الصّوت لن تنجح في ملاحقة فيروس ينتشر على مسافة أمتار عبر الزّفير ورذاذ العُطاَس والكُحَّة. 

يقول لنا الفيروس إنّ الطّبيعة تنتفض دفاعا عن نفسها. وإنّها تعاقب الإنسان الذي تفنّن في استنزاف مواردها وكَتمِ أنفاسها وقَطعِ جذورها وتجفيف منابعها وتلويث مجاريها. وإنّ البشر يعبثون بالماء والهواء والجينات والحيوانات لإشباع نَهَمٍ مَرَضِيّ. وإنّ النّظام الاستهلاكيّ المفرط بصدد تدمير النظام الايكولوجي. وإنّ حركة الأوبئة تتلازم مع حركة الإنسان منذ اخترع السّفينة التي حملت الطّاعون وقضت على الإمبراطوريّة الرومانيّة، وصولا إلى الطّائرة التي حملت فيروس سارس سنة 2004 على مسافة ستّة آلاف كيلومتر في أقلّ من 24 ساعة. وثمّة 4 مليار إنسان يستخدمون النقل الجوّي سنوياّ، ويخلّفون وراءهم في السماء دخانا سامًّا، وينقلون في حقائبهم الأوبئة والآفات. وهنالك أيضا أكثر من 250 مليون شخص يعانون من علل الالتهابات الرئوية، فضلا عن أمراض القلب وغيرها من الأدواء الناجمة عن رفاهيةٍ مزيّفة عند البعض، وفقر مدقع حقيقيّ لدى البعض الآخر. هؤلاء يبطش بهم «كوفيد»المستبدّ.

يقول الفيروس إنّ الإنسان اليوم ينتفع بمنجزات العقل ولكنّه يفتقد القيم. وإنّ النّظام العالمي متوحّش وجشع ومليء بالسّفالة. وها إنّ الفردانية المُشِطّة تكشف عن وجهها القبيح فرديًا وجماعيًا، محليًا ودوليًا، بتسابق محموم نحو الاستئثار بوسائل الحماية والدواء والغذاء بلغت حدّ القرصنة الدولية، ووصلت حدّ الدعوة إلى تجريب الأدوية على سكّان أفريقيا المستضعفين... وها قد سقط قناع «الاتّحادات» و «الاعتماد المتبادل» و«التضامن الدولي» في أوّل محنة حقيقيّة؛ فواجهت إيطاليا مصيرها وحيدة،  وشيّعت الآلاف من ضحاياها على متن شاحنات عسكرية في جنائز ليلية صامتة دون وداع ...وعلى صعيد محلّي سوّلَت لبعض النّاس أنفسُهم المريضة محاولة منع دفن ضحايا الفيروس في المقابر القريبة منهم، وللبعض الآخر طرد العمّال الفقراء الذين كانوا يخدمونهم، ولآخرين احتكار  سميد المعوزين، ولم تنج الحيوانات الأليفة من نذالة البشر وجُبنِهم فتُرِكت سائبة في الشّوارع...

بعد انجلاء الجائحة لن يعود العالم كما كان. بعد كلّ كارثة يحدث تغيير في الثقافة كما قال «بوريس سيرولنيك»، بعد الصدمة سيُنتِج المجتمع طاقة على الصمود ولكنّه قبل ذلك سيعيد حساباته وترتيب أولوياّته. وسيُقَيِّم الأشياء بمعايير جديدة. سيُعيِد اكتشاف المكان والزمان، الأسرة والأبناء، الداخل والخارج، العمل والراحة، الضعف والقوّة، الحريّة والقيود، الانضباط والتمرّد، الصبر والتهافت، الخوف والأمن، الصحّة والمرض، القرب والبعد، الموت والحياة، الروح والمادّة، الدّين والدّنيا، الدولة والفوضى...وسيَعلَم أن ثمّة أوهامًا يجب أن تتبدّد، وأقنعة لا بدّ أن تسقط، وحقائق يجب أن تنكشف. لم تشهد البشريّة جائحة استمرّت إلى ما لانهاية، غير أنّها تعلّمت من الدّمار الذي لحقها، ونهضت من انهيارها لتواصل الطريق، ولكن بأفكار جديدة ورؤى مختلفة.

لقد نبّه «كامو» إلى أنّ الفيروس لا يموت إنّما يختفي وينتظر في صبر وأناة ليعود من أجل شقاء الناس وتعليمهم. ولا مناص للإنسان من أن يتهيّأ ويستعدّ بقتل فيروسات الجهل والجشع والظلم. وأن يتدرّب على الحياة وفق مبدإ «انتظار ما هو غير متوقّع» كما بدا لعالم الاجتماع «إدغار موران» وهو يتأمّل مجتمعات اليوم في حبسها.                                                                                            

منجي الزيدي

أستاذ تعليم عال بجامعة تونس

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.