عظماء ... بسطاء: إلى روح'' سي ابراهيم ''الغربي والدكتور أحمد رضا فارح
ذهب بي الظن الخاطئ ذات يوم الى القول :"أن الله – تسامت حكمته – جمع علينا أخطارا ثلاثة، حمق ''الساسة'' وبلاهة ''الفصحانجية '' وهذا المرض الوافد الكورونة ''تتويجا" لبلوى شاملة لاسقوط لنا أبدا بعدها .وإننا لمنتصرون’’.ووجه الخطأ في ما ذهبت إليه أنه كان عليّ ألاّ أهمل التمييز الواضح بين بلوى لنا من الكفاءات الوطنية العالية ما يهيئ لنا أسباب الانتصار فيها ،وبين بلوى، الخائضون فيها جمعوا بين فساد المذهب ولؤم المغرس، فهم أشد البلوى .والحق أنه ما من وجه شبه ممكن بين القائمين على صحة شعبنا ،طبيبات وأطباء، وممرضات وممرضين، وهيئات فنية متعددة الاختصاصات، وهيئات اسناد عمالية من ناحية، وبين ''ساسة''، لا يحسنون -بطبعهم - إلا ضرب أخماس لأسداس، ''ساسة'' قذفت بهم زوابع ''مكر التاريخ'' ليتقيأهم وهم لا يعلمون .
لذلك كان لنا أن نطمئن ما وسعنا الاطمئنان إلى أننا في أيد أمينة أخلاقيا ووطنيا وعلميا رغم قلة ذات اليد وهول الفاجعة على مستوى عالمي. وليس لنا اليوم إلاّ أن نصطف وراء أطبائنا وان نبذل قصارى الجهد لإعانتهم على أداء الواجب المقدس، باحترام مقتضيات حفظ الصحة عامة، واجتناب مسالك العدوى خاصّة.
ويشهد لما ذهبت اليه أنه لئن كانت أوضاعنا الصحية اليوم أحسن من أوضاع البعض ،فالفضل فيه - بدرجة عالية – إلى ما كانت واجهت به منذ شهر جانفي 2020 وزارة الصحة هذا المرض الوافد، من تبصر في تحديد نوعية الوباء والتنبيه على مخاطره ،ومن حزم في إعداد العدة لمجابهته، بعون قوي من أطبائنا أبناء مدرسة الجمهورية.
والحق أن هذه الثقة التي أطمئن اليها آتية من زمن لم تكن فيه ''كورونا 19'' من مدبّرات الكون ،أيام عرفت أطباء من أمثال ''سي ابراهيم الغربي ''وسي المنجي بن حميدة ''تغمدهما الله بواسع رحمته، واسكنهما فراديس جنانه ثم فريق الأطباء العاملين في اللجنة الوطنية للأخلاقيات الطبية برئاسة الدكتور سعد الدين الزمرلي الذي شرفني مشكورا برفعي الى عضوية ذلك المجمع الموقر.ومن حسن حظي أني واكبت – من موقع مسؤوليتي في ديوان وزارة التعليم -أعمال اللجنة الطبية التي سهرت أيام المرحوم الدالي الجازي على إصلاح نظام الدراسات الطبية بتنسيق محكم من الدكاترة الهادي العاشوري وتوفيق ناصف ونور الدين عاشور وعبد الكريم الزبيدي... فضلا عن مناسبات أخرى عديدة لعل آخرها أتيحت لي يوم 30 نوفمبر 2013 حيث ألقيت محاضرة باللغة الفرنسية موضوعها: هل يعتبر اضراب الجوع أقصي تجارب الحرية؟. كان ذلك بمدرج كلية الطب بتونس العاصمة تبعها حوار شيق معمق بيّن لي جدية العمل بتلك المؤسسة العريقة، ومدى حرص الزملاء الأساتذة على إجراء الدروس والاختبارات وفق معايير دولية، لامجال للتساهل في احترامها. واعترف اليوم أنه على قدر شعوري بالاعتزاز يومها بجدية مسار تكوين الطبيب بحرص من الجامعيين أنفسهم، كان أسفي الشديد لما آلت إليه الأوضاع من جميع الوجوه بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس – أم الجامعة التونسية- بعد عمادة الأخ العزيز على المحجوبي.
غير أن ما يدعو أكثر إلى الاعتزاز حقا تلك الروح الوطنية العالية التي تحدو أطباءنا اليوم .ولا غرابة في ذلك، اذ هم أخذوا الصناعة بنظرياتها وتقنياتها وأخلاقياتها عن أطباء جدوا في اكتساب العلم والحذاقة الفنية أيام المدرسة، ثم كانوا مثال التضحية والوطنية ونكران الذات في أداء الواجب. ولئن كنت لا اعرف الكثير من أطباء الرعيل الأول في عهد الاستقلال، فان في القليل مما بلغني من ثقاة ما يكون به تمام معنى الطب على منهج أبيقراطس .فقد حدثني ''سيدي مصطفى'' الفيلالي برد الله ثراه، والأخ التيجاني حرشة أبقاه الله عن سيرة الدكتور المرحوم أحمد رضا فارح كما حدثتني عنه نجيبته الزميلة الفاضلة ريم فارح -الزواري.:. شاب أنهى دراساته في منتصف خمسينات القرن الماضي وعاد الى وطنه طبيبا مختصا في الأمراض الصدرية ليخدم شعبه –باختيار واع- في المستشفى العمومي، بدءا بالمساهمة مع المرحوم ''سي إبراهيم ''الغربي في إنشاء مستشفى الأمراض الصدرية بأريانة .كان يلبي نداء الواجب حيثما دعاه، فخدم إخواننا في مصر وليبيا وسوريا وجيبوتي ولم يبخل على منظمة الصحة العالمية لا بالنصح ولا بالخدمة المباشرة.
غير أن الأهم من ذلك كله ما نحن اليوم مدينون به إليه والى أمثاله - وهم كثير - في مقدمتهم ''سي ابراهيم'' في مجرى مقاومة الكورونا 19.فقط أخذ الدكتور أحمد رضا فارح على عاتقه في بدايات دولة الاستقلال. تلقيح التونسيين في جميع أنحاء الجمهورية بلقاح كلمات Calmette وقيران Guerin تقبلهما الله –مع باستور وشارل نيكول - بما هما أهل له ،وهو اللقاح المعروف اليوم برمز BCG. ويعني ذلك انه واجه قلة الحيلة المادية ،وانعدام إطار التمريض بالجهد الشخصي والإرادة المؤمنة بقضايا الوطن. فالوسيلة الوحيدة المتاحة يومئذ كانت ''كميونة'' حمولتها جهاز فحص بالأشعة طاف بها صاحبنا تونس ''زنقة زنقة'' وأدّى واجبه الوطني –في صمت - دون أن يمن على أحد. وكان ذات ليلة عائدا إلى العاصمة بعد عمل النهار فنال منه الإرهاق وغلبه النوم ففضل الركون الى الراحة قليلا داخل'' الكميونة'' ،لكنه لم يستيقظ الا صباحا على صوت أحدهم يناديه ليوقظه من نومه العميق.
استيقظ المرحوم متثاقلا فإذا هو أمام السيد كاتب الدولة للصحة العمومية آنذاك، والامين العام للاتحاد العام التونسي للشغل سابقا الأستاذ أحمد بن صالح أبقاه الله في صحة جيدة، إذ كان عائدا من مسقط رأسه إلى وزارته، فلفتت انتباهه ''كميونة الوزارة'' رابضة على قارعة الطريق. وبدل أن يذهب مباشرة إلى الوزارة انطلق ''سي أحمد'' إلى رئاسة الجمهورية ليعلم المجاهد الأكبر بتضحيات الأطباء عامة وبسالة الدكتور فارح خاصة من أجل انجاز جميع التلاقيح التي كانت من اشد ما يحرص بورقيبة على انجازه لفائدة التونسيين وقد أصبحوا مواطنين لا رعايا، من ناحية وليطلب اليه توجيه العناية اللازمة للمجاهدين في المجال الصحي.
وفي هذا السياق الاخلاقي الصرف، لن أنسى ما حييت ما كان يتكبده السيد الهادي الحداد ''الفرملي'' رحمه الله رحمة واسعة، من مشاق حقيقية يصعب على جيل اليوم –والحمد لله- تصورها '' لمداواتنا'' من الرمد حينا وتلقيحنا ضد الشلل والسل وغيرهما حينا آخر .ولا ريب في أن أمثاله اليوم كثيرون... كان ''سي الحداد ''يتنقل على دراجة قديمة لمداواتنا، نحن أبناء المدارس الابتدائية في أرياف منزل تميم الشاسعة، حيث لا طرقات معبدة ولا وسائل نقل آلية على الإطلاق، بل السعيد السعيد من كانت له دراجة يسعى عليها. غير ان صاحبنا كان يعلم مثل الجميع أن عليه أن يحمل دراجته أكثر مما تحمله بداية من شهر أكتوبر حتى أواخر شهر أفريل، بحكم ما في الطرقات من أوحال متراكمة، وأحجار ثقيلة، وشقوق غائرة تتطلب محاذاتها صبر أيوب.ويقيني ان ''سي الحداد'' كان يعنى - في تنقله -بالمحافظة على ''صندوق الأدوية ''الأبيض أكثر مما كان يعنى بالمحافظة على سلامته البدنية.تلك ذكرى بطل آخر احملها في كتفي وفي ذراعي الأيسر، وما زالت تلك التلاقيح تعلن بين الفينة والأخرى عن وجودها فاعلة في جسدي كذكرى الرجل في صدري.
والحق أنه ما كان لتلك الإرادة الخيرة أن يبقى خيرها يجري في دمائنا نحن معشر التونسيين ،لو لم تتنزل في سياق سياسة بناء الدولة الوطنية التي نحن اليوم في حماها ونحن لها مدينون بأهم انجازاتنا في جميع المجالات بدءا بالمجالين الصحي والتربوي، سواء من حيث إعداد الكفاءات البشرية او توفير البنية التحتية .ولئن كان ما أنجزته الدولة الوطنية كثيرا، فانّ ما بقي علينا انجازه أكثر وأخطر. ففي أوائل الاستقلال كان ما لا يقل عن 75 بالمائة من التونسيين –باعتبار المعايير الدولية- تحت خط الفقر المطلق وأصبحوا سنة 2011 عند مستوى 5 بالمائة فقط. ولم يكن للتونسيين في أوائل الاستقلال أكثر من 200 طبيب أي بحساب طبيب واحد لكل 200 ألف ساكن، أما اليوم فأطباء تونس يتجاوز عددهم 12000 أي بمعدل طبيب لكل 900 ساكن. وكان متوسط أمل الحياة عند الولادة لا يتجاور 47 سنة فأصبح سنة 2011 يتجاوز 75 سنة .فهل من مدّكر؟
وليس مما يحتاج إليه بيان أن هذا التقدم الكبير الذي تحقق في تونس منذ الاستقلال حتى سنة 2011 لعبت فيه مدرسة الجمهورية الدور الريادي الأول، ناهيك أن عدد الطلبة التونسيين بالجامعة لم يتجاوز ألفي طالب في اوائل الاستقلال بينما هو اليوم أكثر من 380 ألف. فجنودنا وأطباؤنا وقضاتنا ومهندسونا وعلماؤنا ...أبناء مدرسة الجمهورية .لذلك كان الواجب يدعو إلى أننقف إجلالا للمعلمة والمعلم من رياض الأطفال حتى مدارج الجامعة.
وهل أبعد سفاهة ممن ادعى انه ''وجد تونس خرابة ''بعد ستين سنة من الاستقلال؟ وهل أضل ممن انتصب –في رقاعة ما بعدها رقاعة- لمحاكمة المجاهد الأكبر رحمه الله رحمة واسعة ،وهو يتفيأ ظلاله ويعيش في حمى ما أنجز وفي مقدمته قواتنا المسلحة ؟كان هيجل يقول ان العبد وحده ينكر وجود البطل! والعبد هو كل من استعار لنفسه مزايا مزيفة استمدها من الكذب على الصادقين!
لذلك كان أخشى ما نخشاه اليوم سواء في مقاومة الوباء الوافد، أو في حفظ سلامة الوطن داخليا وخارجيا، إنما هو ما يحق لنا أن نسميه في غير تحفظ تأسيا بالزميل فتحي ليسير ''حكومات الهواة''.
العابثة عبث الذرار ي ''بدولة الاستقلال'' وبطموحات شعبنا إلى ''الشغل والحرية والكرامة الوطنية''.
حمّادي بن جاب الله
- اكتب تعليق
- تعليق