من «كوفيد بزنس» إلى ديمقراطية كورونا تداعيات ما بعد الحجر
قليلا ما عرف العالم جوائح وأوبئة، مثل التي تصطلي الإنسانية بنارها حاليا في جميع القارات. وستكون لهذه الجائحة انعكاسات عميقة وارتدادات غير مرتقبة على العلاقات الأمريكية- الصينية، والأمريكية – الأوروبية، وحتّى الأوروبية – الأوروبية، إذ يتوقّع المحلّلون صعودا صاروخيا للصين، بعد الحرب، مقابل تخبّط أمريكي وأوروبي.
لماذا تفوّقوا؟
يروي الرئيس الأمريكي جيمي كارتر ما دار في لقائه الأخير مع الرئيس الحالي ترامب، الذي دعاه إلى البيت الأبيض ليستمع إلى تجربته في الحوار مع الصين، فقال السلفُ للخلف: «أنت تخشى أن تتفوّق علينا الصين وتسبقنا؟ أنا متّفق معك. لكن هل تعرف لماذا تجاوزتنا الصين؟ قُمت بتطبيع العلاقات معها في 1979. هل تعرف كم مرّة منذ ذلك التاريخ خاضت الصين حروبا مع أيّ كان؟ ولا مرّة. أمّا نحن فبقينا دوما في حروب (متوالية). الولايات المتحدة هي الأمّة الأكثر عدوانية في تاريخ العالم، لأنّها تسعى لفرض القيم الأمريكية على البلدان الأخرى. أمّا الصين فتستثمر ثرواتها في مشاريع، مثل خطوط السكة الحديدية فائقة السرعة، عوض أن تُخصّصها للإنفاق العسكري. نحن صرفنا 3000 مليار دولار في المجال العسكري، بينما لم تُهدر الصين ملّيما واحدا من أجل الحرب، ولذلك فهي مُتقدّمة علينا اليوم».
شلل عالمي
إلى ذلك، أماطت الأزمة اللثام عن اختلالات جوهرية في بلدان صناعية كبرى، ما كان أحدٌ يتخيّل أنّها غير مُهيّأة إلى تلك الدرجة، على صعيد البنية الصحّية الأساسية، وقاية وعلاجا (إيطاليا مثلا). هكذا أدّى الانتشار الزاحف للفيروس إلى شَلّ الحياة في جميع مناطق العالم تقريبا. الأنشطة العمومية ألغيت، والمهرجانات أرجئت، وعروض الأفلام توقّفت، والمباريات الكُروية أُبطلت. سويسرا بلد الرّفاه والبذخ، ترنّحت تحت ضربات الجائحة، تماما مثل القوّة العالمية الأولى، التي سدّدت لها «كوفيد 19» ضربة أكبر وأخطر من ضربة بُرجي مركز التجارة العالمي في 2001 والهجوم على بيرل هاربر في الحرب العالمية الثانية. امبراطورية الشمس فرضت على نصف مواطنيها حظر التجوّل في كافة الأرخبيل الياباني. أمّا في بريطانيا العظمى، فجندل الفيروس رئيس الوزراء بلا رحمة، وتُرك الجيش بلا قائد. والنتيجة أنّنا اليوم بإزاء أكثر من ثلاثة مليارات شخص، تمّ وضعهم قيد الحَجر الصحّي، الذي قد يُفضي إلى أسوإ ركود اقتصاديّ في العصر الحديث.
لذلك يتركّز التفكير في المرحلة الراهنة من انتشار الجائحة، ليس فقط على احتواء تمدُّدها، وإنّما أيضا على توقُّع ما ستُحدثه من تغييرات كبرى في جوارنا الأوروبي والأفريقي. وقد واجهت القارّة الأفريقية وباء «إيبولا» بين 2014 و2016، بدعم من المجتمع الدولي، فلم تتجاوز الوفيّات 11310 وفاة. وعلى الرغم من الفساد وغياب الحوكمة، اللذين عطّلا في الماضي توزيع المساعدات في عدّة بلدان أفريقية، لاحظ الخبراء ،هذه المرّة، تحسُّنا في إدارة الأزمة الصحّية. غير أنّ الخارجية الفرنسية لا ترى، على ما يبدو، أيّ أمل من هذا النوع في المستقبل القريب، بل هي تتوقّع انهيار عدّة أنظمة سياسية في غرب أفريقيا، وخاصّة دول الساحل والصحراء، ما إن يجتاح الوباءُ تلك البلدان بكثافة، لأنّها لا تملك وسائل السيطرة عليه.
العاصفة قادمة
وحملت مذكّرة داخلية أعدّها «مركز التحاليل والاستشراف والاستراتيجيا» في الخارجية الفرنسية، توقّعات تخصّ احتمال سقوط بعض الأنظمة، كما في أفريقيا الوسطى ودول الساحل، جرّاء العجز عن احتواء الفيروس، في مقابل نجاة بلدان أخرى تتمتّع بمؤسّسات أقوى، أسوة بالسينغال ورواندا وأثيوبيا.
أكثر من ذلك، يتوقّع الفرنسيون في الوثيقة، التي يبدو أنّ وزارة الخارجية نفسها هي من سرَّبها إلى بعض وسائل الإعلام، وهي بعنوان «العاصفة القادمة إلى أفريقيا»، أنّ الالتزام بالحجر الصحّي في البلدان الأفريقية، سيضرُّ بالاقتصاد الموازي، الذي بفضله تسدُّ عائلات كثيرة رمقها. وربّما يتطوّر إلى انتفاضات وأعمال عنف. وحتّى في البلدان المصدّرة للنفط في وسط القارّة (الغابون والكامرون وكونغو برازافيل)، ستكون الصدمة قويّة، وقد تؤدّي إلى اهتزاز النظام الاقتصادي القائم على الريع النفطي.
ومن غير المستبعد أن تلجأ بعض الحكومات إلى الفرز بين المصابين، أي بين من يحظون بالعلاج في المستشفيات، ومن تعجُزُ المستشفيات عن استيعابهم، لانعدام الأماكن المتاحة. واستطرادا قد يشمل ذلك التمييز الجهات أيضا، فتُضطرّ السلطات الصحّية إلى التركيز على بعض المناطق والأحياء، والتخلّي عن مناطق وأحياء أخرى. لكنّ الخبراء يُشكّكون في توقّعات المركز الفرنسي، ويعتقدون أنّ أزمة إيبولا وأزمات سياسية وصحّية سابقة، صلّبت عود الطواقم الطبية المحلية، وجعلتها أقدر على التعاطي مع هذا النوع من الأزمات.
الصراع على الزعامة
من هنا تأتي أهمّية استشراف ما يُسمّى اليوم التالي The day after إذ أنّ الحرب الاقتصادية ستحتدم بين الصين والولايات المتحدة، على زعامة العالم، وعلى من يستحقّ أن يكون قائدا لهذه المرحلة. والأكيد أنّ الفائز، الذي سيُتوجّ قائدا للبشرية في الفترة القادمة، سيُعيد تشكيل خارطة العالم ويصوغ توازنات جديدة، تضع حدّا لاتّفاق يالطا، الذي قسَّم مناطق النفوذ بين المنتصرين في الحرب العالمية الثانية.
بهذا المعنى فإنّ الموجة الأولى من اجتياح كوفيد 19، ستُسبّب خسائر بشرية واقتصادية كبيرة، أكثر من الموجة الثانية (المُتوقّعة في الخريف). فإذا كانت الجائحة الآتية من يوهان (أو إيران؟) منعرجا غير مُسجّل في توقّعات المخطّطين والخبراء الاستراتيجيين، فإنّ كلّ العالم بات اليوم متخوّفا من الموجة الثانية، ومضطرّا للرضوخ لمقتضياتها وإكراهاتها.
«كوفيد بزنس»
من المؤكّد أنّ الأنظمة التي اعتادت على حماية الفساد والتستُّر على الفاسدين والمهرّبين، ستنتهز الفرصة للمضي في النهج نفسه، بالرغم من مأسوية الأوضاع الراهنة. وهناك من أطلق على هذه الأعمال الإجرامية تسمية «كوفيد بزنس»، في إشارة إلى ازدهار الفساد في الأوساط الحاكمة بعدّة بلدان أفريقية. والأرجح أنّ هذا البزنس سيزدهر مع وصول العطاءات التي وعدت كلّ من الصين وأوروبا، بإرسالها إلى الدول الأفريقية، ممّا سيُعمّق أزمة المجتمعات والنخب الحاكمة على السواء. بل إنّ الخبراء يتوقّعون زيادة كبيرة في أعمال العنف وانتشارا أوسع للجريمة مع ارتخاء قبضة الأنظمة، وهو ما سيساهم بدوره في مزيد إضعاف الأنظمة الحاكمة.
على هذا الأساس هناك من يشكّ في مدى الشعور بالمسؤولية لدى النخب الأفريقية الحاكمة، التي لا يُستبعد أن تمضي في عمليات اللصوصية والاحتيال للاستحواذ على النصيب الأكبر من المساعدات العينية (كمامات، أقنعة واقية، أدوات تحليل...) لترويجها في الأسواق الموازية.
أنموذج ديمقراطي
أمام هذا الأنموذج السلبي، تتبلور في آسيا حاليا نماذج مضادّة، تتفوّق حتّى على المثال الصيني، الذي يعتمد، مثلما هو معروف، على نظام سياسي منغلق (استبدادي) ونظام اقتصادي منفتح (اقتصاد سوق)، فعلى بعد بضعة مئات من الكيلومترات عن شاطئ الصين برزت أمثلة آسيوية، جديرة بالاستلهام منها، لكونها تجمع بين النظام الديمقراطي سياسيا، والمعالجة النابضة بالحياة في تعاملها مع الجائحة. هكذا هي تجارب كوريا الجنوبية وتايوان وسنغفورة وغيرها، التي اعتمدت أسلوبا حازما في التصدّي لأعراض «كوفيد 19»، وحافظت في الوقت نفسه على الحقوق والحرّيات الديمقراطية الأساسية لشعوبها. ومن الأدلّة على ذلك إصرار الكورييين الجنوبيين على إجراء الانتخابات البرلمانية في موعدها، أي يوم 15 أفريل الجاري، مع قيام المرشّحين بحملاتهم في ظروف خاصّة.
أماّ على الصعيد الاقتصادي فيُرجّح الخبراء أنّ المستهلكين سيُقبلون على الاستهلاك بشراهة بعد انتهاء الحجر الصحي، ممّا يُحرّك عجلة الاقتصاد ويرفع من نسبة النموّ بشكل سريع، لكن إذا لم يكن الإنتاج في مستوى الطلب، ستلتهب الأسعار. كما يعتبر الخبراء نهاية الحجر فرصة نادرة لإقلاع اقتصادي بخطّ بياني تصاعُدي.
التجربة الألمانية
من المهمّ أن نعرف هُنا فحوى الخطّة التي وضعتها ألمانيا، على سبيل المثال، للخروج من العزل الصحي، الذي بدأ يوم 22 مارس الماضي، فهي ترفض الالتزام بمواعيد مُحدّدة، غير أنّها وضعت قائمة بالتدابير المُصاحبة، التي ستُطبّقها حالما يُشرع في رفع الحجر المقرّر ليوم 19 أفريل الجاري.وبحسب تلك الخطّة لن تنتهي الجائحة قبل سنة 2021، وستكون العودة تدريجية، ومرتبطة بمدى تراجع انتقال العدوى. وستبدأ بإعادة فتح المتاجر الصغيرة والمدارس في بعض المقاطعات، مع استمرار حظر التجمّعات الكبرى وحتّى الحفلات الخاصّة. كما يتّجه الألمان إلى فرض إجبارية ارتداء الأقنعة في القطارات والحافلات والمصانع والبناءات العمومية، ما أن يتمّ تصنيعها بالكميّات الكافية.
أمّا نحن فعلينا أن نُعدَّ العدّة للخروج من تحت جناح هذه الجائحة، بأقلّ الخسائر والأضرار. ولن يتأتّى ذلك إلاّ بانضباط الجميع والتزامهم بالإجراءات الوقائية والعلاجية على السواء، ومحاسبة المخالفين بشدّة، لأنّ للحـرب قواعدها وقوانينها، ونحن مطالبون جميعا، وبلا استثناء، بالامتثال لها، وهو أضعف الإيمان.
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق