عبد الحفيظ الهرڤام: سيـاسيات مُؤَنْـسَـنـة لعــالم جــديــد
من نافلة القول إنّ ما قبل جائحة كوفيد- 19 وما بعدها لن يكونا سيّان، إذ يتّجه العالم بأسره نحو نمط غير مسبوق في حياة الإنسانية في مناحٍ شتّى، لم تتّضح بعد ملامحه، بيد أنّه ينبئ بثورة في المفاهيم والقيم وبتغيّر جذري في سياسات الدول وفِي النظام العالمي برمّته، بمشهد اقتصادي واجتماعي وثقافي وبيئي مغاير، وربّما بجغرافيا جديدة، في بعديها الواقعي والافتراضي.
عديدة هي الاستنتاجات الأوّلية التي يمكن لنا استخلاصها من هذا الزلزال العنيف الذي دكّ أركان العالم قاطبة وأربك اقتصاديات الدول، بما في ذلك اقتصاديات قوى عظمى في مقدّمتها الولايات المتحدة التي فقد فيها أكثر من 22 مليون شخص مواطن عملهم في غضون أربعة أسابيع، وشلّ الحركة، بخاصّة في مجالات التجارة والسياحة والنقل، وأجبر أكثر من ثلاثة مليارات نسمة عبر العالم على ملازمة الحجر الصحّي في البيوت لمدّة قد تطول. ولعلّ من أبرز هذه الاستنتاجات تهاوي الرأسمالية المتوحّشة وسقوط أسطورة تيّار العولمة الذي أدرك أقصى حدوده وانحسار التضامن الدولي في ظلّ نزوع الدول إلى الانعزال بحكم انشغالها بأوضاعها الداخلية، فضلا عن تراجع مقولات عدّة كاللامركزية والحكم المحلّي، مقابل التوق، حتّى في البلدان المغرقة في الليبرالية الاقتصادية، إلى عودة الدولة القويّة الحاضنة لمواطنيها، على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية، لا سيّما الفئات الفقيرة والهشّة.. هذه الدولة التي تستشرف المستقبل وتنهض بكلّ ثقلها بدورها في تحقيق العدالة الاجتماعية وضمان تكافؤ الفرص وتعديل المسار كلّما استشعرت خللا في المعادلة بين التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية.
لا يكفي اليوم أن تجدّ الدولة في حماية صحّة الإنسان أمام تفشّي الوباء وتسخير كلّ الإمكانيات في سبيل ضمان استمرار الحياة وتعزيز القدرة على محاربة الجائحة، بل أصبح لزاما عليها صيانة النسيج الاقتصادي من الانهيار حفاظا على مواطن الرزق والاستمرار في توفير الخدمات الأساسية بالنجاعة والجودة المطلوبتين. وقد رأينا كيف خصّصت الولايات المتحدة الأمريكية سيولة ماليّة قدرها أربعة آلاف مليار دولار، أي ما يعادل خمس ناتجها الإجمالي الخام، لمساندة مؤسّساتها وإنقاذها من الإفلاس، في إطار خطّة ترمي إلى إنعاش الاقتصاد في فترة ما بعد كوفيد- 19، فيما بلغت المخصّصات المالية لمواجهة الجائحة 550 مليار يورو في ألمانيا و300 مليار يورو في فرنسا، منها 5 مليارات يورو موجّهة إلى البحث العلمي.
فهل أنّ الدولة التونسية قادرة اليوم، بهياكلها التنفيذية وبمؤسّساتها وآلياتها المختلفة وبمواردها المحدودة، أن تواجه تحدّيات هذا العالم الجديد الذي نقبل عليه بخطى متسارعة وأن تستزيد من تضحياتها المالية لإنقاذ الأرواح البشرية من جهة، وتمتين أسس المنظومة الاقتصادية الوطنية وحمايتها من جهة أخرى؟وإذ نقرّ بأهميّة ما رصدته حكومة إلياس الفخفاخ من اعتمادات بلغت مليارين و700 مليون دينار من أجل مجابهة تداعيات الوضع الناجم عن تفشّي وباء الكورونا، نعتبر أنّ الحكومة مدعوَّة إلى أن تذهب أكثر في مساندة أصحـاب الحرف والمهن الصغرى والمؤسّسات والمنشآت الاقتصادية الخاصّة، ولا سيّما تلك الأكثر تضرّرا من الأزمة ، في قطاعات بعينها مثل السياحة والصناعات التقليدية وبعض الأنشطة في مجال الخدمات، وذلك باعتماد إجراءات جريئة، حتّى ولو أدّى الأمر إلى إقرار إعفاءات جبائية استثنائيّة وتكفّل الدولة بتسديد المساهمات المستوجبة على المشغّل في الصناديق الاجتماعية، قصد ضمان ديمومة المؤسّسة والحفاظ على رأس مالها البشري وتحفيزها على إعادة تشكيل نشاطها وتأهيل مواردها الذاتية للانخراط بنجاح في عهد ما بعد كوفيد- 19.
إزاء ارتفاع فاتورة الأزمة التي لا تسمح الميزانية الحالية بتحمّل أعبائها، وبالنظر إلى نضوب خزائن الدولة وإلى كون المدّ التضامني الوطني لا يغطي إلّا جزءا قليلا من الحاجيات المتأكّدة لا سيّما في المجالين الصحّي والاجتماعي، يبقى التداين الحلّ الذي لا مندوحة للحكومة عنه.. وهل ثمّة بديل منه، شريطة الاستخدام الأجدى للقروض؟
فحتّى حكومات الدول الغنيّة طرقت أبواب المؤسّسات المالية بحثا عن السيولة لمواجهة كارثة كورونا ومن بينها الحكومة البريطانية التي سيموّل بنك أنقلترا المركزي - وبصورة استثنائيّة- جانبا من نفقاتها المنجرّة عن تنفيذ ما اتّخذته من إجراءات جرّاء هذه الكارثة، بينما هبّ البنك المركزي الأوروبي لإنقاذ الاقتصاد في منطقة اليورو بتخصيص 750 مليار يورو لإعادة شراء ديون عامّة وخاصّة. فلكلّ ظرف استثنائي تدابير استثنائيّة، كما يقال.
لا شكّ أنّ من شروط الدولة القويّة الحاضنة التي تُستحضر وتُطلب بإلحاح اليوم في بلادنا في هذا الظرف المتأزّم المربك، توفّر قيادة سياسية منسجمة تحسن إدارة الأزمة وترعى الشعب وتحميه.. تمضي قدما في ترسيخ الأمن الاجتماعي ونشره على أوسع نطاق وتسعى جاهدة في سبيل تحقيق الإدماج الرقمي الشامل والإسراع بتدارك التأخير الحاصل في هذا المجال..وتعمل من الآن على إعداد سياسات عامّة مُؤٓنْسَنَةٍ ومندمجة لعالم جديد، عالم ما بعد كورنا. يومئذ سيتذكّر الناس من كان في مستوى المسؤولية ومن لم يكن وستكون السلطة السياسية بأيدي من كانوا قد أظهروا أكثر تعاطفا مع الآخرين، في مجالات الصحّة والغذاء والتربية والبيئة..هكذا تنبّأ المفكّر الفرنسي جاك آتالي، ونحسب أنّه في قوله محقّ.
عبد الحفيظ الهرڤام
- اكتب تعليق
- تعليق