انتفاضة 9 أفريل 1938: محطّة مفصليّة في تاريخ النضال الوطني ضد الاستعمار الفرنسي
مثلتّ أحداث 09 أفريل 1938 انتفاضة شعبية عارمة أثبتت لأول مرّة التفاف الشعب التونسي حول أهداف ومطالب موحّدة في سبيل الحصول على السيادة والاستقلال. كما أقامت الدليل على ما بلغه الشعب التونسي آنذاك من وعي بحقوقه السياسية تجسم في خروجه للمطالبة ببرلمان وطني. وهو مطلب قابلته السّلطات الاستعمارية بالقمع والعسف، ممّا أدى إلى سقوط عشرات الشهداء والجرحى وإيقاف آلافمجموعة من زعماء الحركة الوطنية. كما عكست هذه الأحداث ريادة الشباب التونسي وكذلك المرأة التونسية في النضال الوطني. وقد اختلف المختصّون من الجانبين (التونسي والفرنسي) في التعريف بهذه الأحداث الدامية وكُتب عنها الكثير دون إجماع. فمنهم من اعتبرها "مكيدة بوليسيّة" ومنهم من اعتبرها "مؤامرة دستوريّة"، فيما اعتبرها البعض "حركة عفويّة" والبعض الآخر "استفزازا ومكيدة" معا، بما أنّ القيادة العسكريّة الفرنسية كانت متهيئة حينها لحصول أحداث دامية يوم 10 أفريل 1938، قد تكون دمويّة.
أولا: أسباب الانتفاضة:
1 - الأسباب البعيدة:
ساهم ظهور الحزب الجديد في نمو الحركة الوطنية وتجذرها لا سيّما بعد خروج زعماءه من منفاهم ببرج البوف في مارس 1936 إثر وصول حكومة الجبهة الشعبية إلى الحكم بفرنسا في ماي 1936 والإعلان عن سلسلة من الإجراءات لفائدة الحرّيات العامة في تونس على يد المقيم العام الجديد "أرمون قيّون "Armand Guillon" الذي حلّ في مارس 1936 محلّ الطاغية "مارسال بيروطون" Marcel Peyrouthon" (29 جويلية 1933-21 مارس 1936). غير أنّه بسقوط حكومة الجبهة الشعبيّة في ماي 1937 تنكّرت فرنسا لوعودها وعادت من جديد إلى سياستها السابقة. وعلى ضوء تلك المستجدّات قرّر الحزب الدستوري الجديد خلق مناسب للاضطرابات والمظاهرات الاحتجاجية .ففي يومي 4 و5 مارس 1937 حصلت احتجاجات عمالية في منطقة الحوضي المنجمي بالمتلوي والمظيلّة واجهتها السلطات الفرنسية بالرّصاص الحيّ سقط على إثرها 23 شهيدا (20 بالمتلوي و3 بالمظيلّة).
وفي 2 أوت 1937 انتظم اجتماع نقابي بالماتلين أشرف عليه الممثّل الجهوي لجامعة عموم العملة التونسيّين ورئيس الشعبة الدستورية حسن النوري (1905-1939)، أقرّ القيام بإضراب احتجاجي واجهته القوات الفرنسية بإطلاق النار فاستشهد الكاتب العام للنقابة البشير بن محمّد سعيد ورئيس شعبة الماتلين.
وبين 31 أكتوبر و 2 نوفمبر 1937 انتظم المؤتمر الثاني للحزب الدستوري الجديد بنهج التروبينال بالعاصمة. وقد تغلّبت على أشغاله اتجاهات ورؤى الشقّ المتصلّب الذي تزعّمه كل من: الحبيب بورقيبة وسليمان بن سليمان والهادي نويرة والمنجي سليم وعلي البلهوان ومحمود بورقيبة يوسف الرويسي أمام موقف الشقّ المعتدل الذي تزعمه كل من: محمود الماطري والطاهر صفر...
وقد أقرّ هذا المؤتمر تنظيم إضراب عام يوم 20 نوفمبر 1937 تضامتا مع ما شهدته الجزائر من أحداث وتنكيل بالوطنييّن الجزائريّين. وفي 8 جانفي 1938 حصلت حوادث دامية بمدينة بنزرت وضواحيها أسفرت عن سقوط حوالي 13 شهيد بكل من بنزرت وجرزونة ومنزل عبد الرحمان... وقد عقد المجلس الملّي للحزب مؤتمره يوما 17 و18 ديسمبر 1937 وقدّم على إثره الدكتور محمود الماطري استقالته لاعتراضه على انتهاج العنف.
وفي 29 جانفي 1938 نجح الحزب في افتكاك جامعة عموم العملة التونسيّين وإزاحة كاتبها العام المنتخب بلقاسم القناوي. وفي ظلّ هذه التطوّرات وهذا التصعيد أصدرت الإقامة العامة بإيعاز من الكاتب العامة للحكومة قرارا يمنع رفع العلم التونسي والشعارات التونسية دعا الحزب إلى رفضها وعدم الامتثال لها.
2 - الأسباب المباشرة:
في 12 مارس 1938 دُعي الأستاذ علي البلهوان لإلقاء محاضرة بقاعة السينما " فاريتي" Variétés" بعنوان "دور الشباب في المعركة الوطنية". غير أنّ السلطات الفرنسية منعتها فأصرّ على إلقائها بمقرّ الحزب بباب سويقة. وفي 26 مارس 1938 قامت بفصله عن العمل بالمدرسة الصادقية. وبعد أيام قامت بإيقاف العديد من قادة الحزب وفي مقدمتهم: سليمان بن سليمان ويوسف الرويسي والهادي نويرة في وادي مليز بتهمة التحريض والتباغض.
هذا ويجدر التذكير بأنّ الحزب الدستوري الجديد قد بادر بتوزيع روزنامة الجولات الدعائية على كافة أعضاء الديوان السياسي والمجلس الملّي لأعضائه الذين سرعان ما شملهم القَمع الاستعماري كما سبق ذكره. فتمّ اعتقال عدد من أعضاء المجلس الملي وأعضاء الديوان السياسي.
وعلى إثر ذلك انتظمت مظاهرة احتجاجية ضمّت قرابة 2.500 متظاهر يوم 7 أفريل1938، توجه على إثرها المنجي سليم عضو المجلس الملي إلى قصر الباي بحمام الأنف لالتماس التدخل لدى السلطات الاستعمارية والإفراج عن المعتقلين. وفي نفس اليوم تم تعطيل جريدة "العمل" (لسان حال الحزب الدستوري الجديد) واعتقال 10 مناضلين بقنطرة الفحص.
ثانيا: أطوار الانتفاضة:
1 - مظاهرات 8 أفريل 1938:
إثر تلك التطوّرات قرر الديوان السياسي تنظيم إضراب عام يوم الخميس 8 أفريل 1938. وانطلقت في نفس اليوم مسيرتان بالعاصمة خرجت إحداهما من ساحة الحلفاوين بقيادة علي البلهوان والأخرى من رحبة الغنم يقودها المنجي سليم. والتقت المسيرتان أمام الإقامة العامة حيث المتظاهرون رافعين شعارات من أهمّها: "برلمان تونسي" و"حكومة وطنية" و"تسقط الامتيازات. وقد بلغ عدد المتظاهرين بين 7 و10 آلاف شخص.
وفي هذه المظاهرة الحاشدة ألقى زعيم الشاب علي البلهوان يومها خطابا أمام مقرّ الإقامة العامة الفرنسية من أهمّ ما جاء فيه: "... جئنا في هذا اليوم لاظهار قوانا - قوة الشباب الجبارة التي ستهدم هياكل الاستعمار الغاشم وتنتصر عليه، جئنا في هذا اليوم لاظهار قوانا أمام هذا العاجز (يشير هنا إلى المقيم العام أرمون ڤيون «Armand Guillon»، الذي كان يطل من شرفة السفارة الفرنسية) الـذي لا يقدر أن يدير شؤونه بنفسه ويتنازل عنها إلى السيّد « كارتون » (الكاتب العام للحكومة يومئذ) ذلك الغادر الذي يكيد للتونسيين الشرّ والمذلّة والمحق ويريد سحقهم في هذه البلاد لا قدّر الله! ".
ثمّ واصل الزعيم البلهوان خطابه قائلا: "... يا أيها الذين آمنوا بالقضية التونسية، يا أيها الذين آمنوا بالبرلمان التونسي، ان البرلمان التونسي لا ينبني الا على جماجم العباد، ولا يقام الا على سواعد الشباب! جاهدوا في الله حق جهاده، اذا اعترضكم الجيش الفرنسي أو الجندرمة شرّدوهم في الفيافي والصحاري وافعلوا بهم ما شئتم، وأنتم الوطنيّون الدائمون في بلادكم وهم (أي الاستعماريون) الدخلاء عليكم!
بالله قولوا حكومة خرقاء سياستها خرقاء وقوانينها خرقاء يجب أن تحطّم وأن تداس، وها نحن حطّمناها ومزّقناها، فالحكومة قد منعت وحجّرت رفع العلم التونسي، وها نحن نرفعه في هذه الساحة رُغما عنها! والحكومة قد منعت التظاهر وها نحن نتظاهر ونملئ الشوارع بجماهير بشريّة نساء ورجالا وأطفالا تملأ الجوّ هتافا وحماسا... ".
بعد ذلك الخطاب الحماسي المرجعيّ (أصبح موضوع عدة دراسات من قبل المؤرخين والمختصين في التواصل والإعلام...) ساد سكون رهيب واذا برئيس الحزب "المستقيل" الدكتور محمود الماطري الذي انضم إلى المظاهرة في الطريق تضامنا مع الشعب في وثبـة يتناول بدوره الكلمة لينصح الشعب بالتعقّل والهدوء وعدم التصادم مع البوليس الفرنسي (ولا شك أنه كان يرغب في تجنيب المواطنين كارثة الاصطدام مع قوات الأمن وبذلك اختلف مع الزعيم بورقيبة في طريقة العمل).
كما انتظمت مظاهرات سلمية في جل مدن وقرى البلاد قادها الوطنيون ورموز الحزب جمّعت كل القوى الوطنية من شباب ونساء وجمعيات الكشافة ... جابت الشوارع الرئيسية بأعداد متفاوتة (بين 50 و1.500 متظاهر حسب تقارير البوليس الفرنسي) انتهت بتسليم عرائض بإمضاء رؤساء الشعب الدستورية وأعضائها إلى القيّاد والمراقبين المدنيّين الفرنسيّين تطالب بتحسين الأوضاع السياسية ومزيد تمكين التونسيّين من الحريات.
2 - مظاهرات 9 أفريل 1938:
قبل تفرّق المتظاهرين دعا زعيم الشباب، الأستاذ علي البلهوان إلى تنظيم مظاهرة سلمية يوم السبت 10 أفريل إلاّ أن السلطات الاستعمارية عمدت من اليوم الموالي (أي يوم الجمعة 9 أفريل) إلى إلقاء القبض على الأستاذ علي البلهوان ممّا حدا بالجماهير إلى التجمّع أمام المحكمة الفرنسية بالقصبة تضامنا معه عند المثول أمام قاضي التحقيق. كما خرجت مسيرة نسائية ضمّت حوالي 80 إمرأة وفتاة رافعات الأعلام التونسية في القصبة.
وبمجرّد وصول الجماهير إلى مكان المحاكمة وقع إطلاق النار على المتظاهرين فسقط العديد من الشهداء والجرحى إثر إطلاق النار من طرف قوات الأمن كما سقط العديد من قوات الأمن إثر هذه الاشتباكات الدامية. وكانت الحصيلة حسب سجلّ شهداء الوطن: 22 قتيلا وحوالي 150 جريحا، 12 سقطوا يوم 9 أفريل و10 في الأيام والأسابيع الموالية بمستشفى عزيزة عثمانة. ولم يكن هؤلاء من العاصمة فحسب، بل من مدن وقرى وجهات مختلفة بالبلاد. هذا وقد تحدّثت بعض الصّحف التونسيّة عن سقوط 122 قتيلا و80 جريحا. أما التقارير البوليسية فتفيد سقوط 17 قتيلا و110 جريحا في صفوف التونسيّين.
وما إن سيطرت السلطات الاستعمارية على الوضع حتى استصدر المقيم العام من الباي أمرا لإعلان حالة الحصار على ثلاث مراقبات (العاصمة والساحل وبنزرت) كما تم في نفس اليوم اعتقال بورقيبة والمنجي سليم وأحيل القادة الدستوريون على المحكمة العسكرية بدعوى التآمر على أمن الدولة وتمّ حل الحزب الدستوري الجديد في 12 أفريل 1938.
ثالثا: نتائج الانتفاضة وتداعياتها على الحركة الوطنيّة:
1) نتائجها:
إلى جانب كثرة القتلى والجرحى قامت السلطات الفرنسية باعتقال ما لا يقلّ عن 900 وطني في كامل أنحاء البلاد، من مختلف الشرائح الاجتماعية والفئات العمريّة من تلاميذ وطلبة وعمال وموظفين وعاطلين عن العمل، 150 منهم أودعوا السجون بتهمة حمل السلاح... كما تمّ اعتقال كل زعماء الحزب وبدأ التحقيق معهم بتهم مختلفة من قبل القاضي العسكري "دي قيران دي كاير"De Guérin De Cayla" بتهمة التباغض والحثّ على التقاتل والتآمر على أمن الدولة" أعلنت سلط الحماية الحصار على البلاد في يوم 12 أفريل 1938 وأودعوا السجن المدني بتونس ثم السجن العسكري بتبرسق ثمّ بسجن لمباز بالجزائر وسجن حصن سان نيكولا قرب مرسيليا وسجن "تراتس "Trets" جنوب مدينة "إكس- آن بروفانس" Aix-en-Provence" بفرنسا...
2 - تداعيتها على العمل الوطني:
ساهمت كل تلك الإجراءات الزجرية للمستعمر الفرنسي في ركود العمل الوطني. غير أنّه قُبيل وإبّان اكتساح جيوش قوات المحور البلاد التونسية في نوفمبر 1942، شهدت البلاد تكوين دواوين سياسية سرية أشرف عليها العديد من الوطنيّين الشبّان، جلهم من الشخصيات غير المعروفة وطلبة جامع الزيتونة أو العائدين من الدراسة من فرنسا على غرار: الرشيد إدريس وحسين التريكي والحبيب ثامر والهادي خفشّة والباهي الأدغم ومحمود شرشور...
وبدخول القوات الألمانية التراب الفرنسي أذنت السلطات الألمانية بنقلة الزعماء المعتقلين في حصن "سان نيكولا "Saint Nicolas" قب مرسيليا وسجن مدينة "تراتس "Trets" وتحويلهم إلى روما ومنها إلى تونس على دفعات. وكان وصول الزعيم الحبيب بورقيبة وجماعته على متن طائرة عسكرية بمطار عسكري على ساحل مدينة منزل تميم يوم 08 أفريل 1943.
ولم يستأنف العمل الوطني نشاطه العلني المعهود إلا خلال فترة ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بالتفاف كل القوى والمنظمات الوطنية وإجماعهم على عقد مؤتمر وطني ينادي لأول مرّة بالاستقلال التام لتونس عن فرنسا وذلك بمنزل الوطني محمّد بن جراد ورئاسة القاضي الفاضل العروسي الحداد ليلة القدر ليلة 27 رمضان 1365 هـجري لموافق لليلة 23 أوت 1946.
خاتمة:
يمكن القول إنّ محطّة 09 افريل 1938 أو ذكرى عيد الشهداء كانت محطّة فارقة في العمل الوطني بكل ما للكلمة من معان. وهي مناسبة عزيزة على كل التونسيّين الوطنيّين، رغم عدم اعتراف البعض في تونس اليوم بها وبعيد الاستقلال وعيد الجمهورية وسائر الأعياد الوطنية لعدم إيمانهم بتضحيات أجيال الوطنيّين من أجل تحرير هذه البلاد من ربقة الاستعمار بما فيه من ظلم وعسف وإقصاء... لعدم إيمانهم بالانتماء لهذا الوطن، بل لتنظيمات دولية فوق قطرية ذات مرجعيات دينية!
واليوم يجب أن تكون أعياد الشهداء والإستقلال والجمهورية والجلاء... مناسبات جامعة بين التونسيّين لا سببا آخر للفرقة والانقسام. والاحتفال بها هو استحضار لمآثر شهداء الحركة الوطنية من سنة 1881 على 1961، بدءا بسعد قَمْ البناني وولد بحر...، مرورا بالمنوبي الخضراوي (شُهر الجرجار) والشاذلي القطاري ومحمّد الدغباجي، وصولا إلى فرحات حشاد والهادي شاكر ومصباح الجربوع والرائد محمّد البجاوي... وغيرهم من شهداء الوطن ممّن سقوا بدمائهم الطاهرة تراب الوطن الغالي بعد الاستقلال في معركة استكمال السيادة الوطنية: إبّان معركة رمادة (ماي 1958) ومعركة بنزرت (19-22 جويلية 1961) أو في لنضال من أجل الحرية والكرامة الوطنية: إبّان أحداث 26 جانفي 1978 وانتفاضة الخبز في جانفي 1984 وبين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011 أو والعشرات من أمنيّينا وعسكريّينا ومدنيّينا الأبرياء، شهداء أيادي الغدر والإرهاب الوافد على بلادنا وفي مقدمتهم الشهيدان شكري بلعيد (06 فيفري 2013) ومحمّد البراهمي (25 جانفي 2013) ولطفي نقض (18 أكتوبر 2012).. وذكرى 09 أفريل هي كذلك مناسبة لنعلّم الأجيال الحالية والقادمة تاريخ بلادهم ونستمع إلى المؤرّخين والمختصين في مختلف المنابر الإعلامية حتى تستلهم هذه الأجيال المعاني الوطنية الحقيقية والتضحية من أجل عزّة ومناعة الوطن وحتى لا تتكرّر من جديد لا قدّر الله تجربة الاستعمار فوق أرضه بأيّ شكل من الأشكال.
عادل بن يوسف
أستاذ التاريخ المعاصر والزمن الراهن بجامعة سوسة
- اكتب تعليق
- تعليق