محمد إبراهيم الحصايري: في تأكّد الحاجة إلى دراسة "ما بعد" جائحة "الكوفيد 19"
1 - على المستوى الداخلي:
- حَفَزَتْ الجائحةُ الدولة التي تآكلت سلطتها وهيبتها على امتداد السنوات الأخيرة، (وهو ما ظهر بصورة مؤسفة في حالة اللاّمبالاة بإجراءات الحجر الصحي وعدم التزام شرائح واسعة من المواطنين بها)، على الإمساك من جديد بمقاليد الأمور، وعلى إعادة تأكيد دورها المحوري في إدارة شؤون البلاد، وفي حماية الشعب ورعايته.
- ظَهَّرَتْ، بطريقة جليّة، إشكاليّةَ التدافع والتنازع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية (خاصة بمناسبة منح التفويض لرئيس الحكومة)، كما ظَهَّرَتْ إشكاليةَ التجاذب والتضارب بين صلاحيات السلطتين المركزية والمحلية، وتستدعي هاتان الإشكاليّتان، إضافة إلى إشكالية توزيع المشمولات بين رأسَيْ السلطة التنفيذية، التعجيلَ، بعد انقشاع الجائحة، بمراجعة دستور سنة 2014.
- كَشَفَتْ عن أنَّ أولوية الشعب الأولى تظل السلامة والأمن، وأنَّ الشعبَ يمكن أن يتخلّى، طواعية، عن بعض الحريات والحقوق، كلّيا أو جزئيّا في سبيل الحفاظ عليهما.
- أكَّدَتْ عمقَ النقائص الهيكليّة العديدة التي تعاني منها البلاد والتي سيكون من الضروري وضع معالجتها على رأس أولويات الحكومة مستقبلا، (يتعلّق الأمر خاصّة بهشاشة المنظومة الصحّية، وقصور البنية التحتية الرقمية لا سيما من حيث تغطيتها لمختلف مناطق البلاد، وهو ما أدّى إلى الصّعوبات التي يصادفها إطلاق منصّات التعليم عن بعد...).
- أظْهَرَتْ، من جديد، أهمّية القطاع العامّ كقاطرة لا يمكن الاستغناء عنها في خدمة المجتمع، وسيكون لذلك تأثير حتميّ على الجدل القائم حول العلاقة بين القطاعين العام والخاص، وبالذات حول مدى جدوى المضيّ قدما في تعميم سياسة الخوصصة.
- أظْهَرَتْ الجائحة، في ظلّ غياب التضامن والتعاون الدوليين في مواجهتها، أنَّ بإمكان تونس أن تعوّل على نفسها في تلبية العديد من احتياجاتها محلّيا، كما أبرزت أن لدى الشعب التونسي قدرات كامنة على الخلق والإبداع وعلى إنتاج الكثير من الموادّ التي كان يستسهل توريدها من الخارج، وسيكون من المهمّ في المرحلة القادمة الحثّ على الاستمرار في هذا النهج الذي يمكن أن يساعد على التقليص من الارتهان للخارج.
- دَفَعَتْ حالةُ العزلة غير المسبوقة التي فرضتها الجائحة على جميع دول العالم، في الداخل ومع الخارج، الحكوماتِ والمجتمعاتِ إلى التعامل مع إكراهاتها وَأقْلَمَةِ سلوكها مع مستلزمات الصمود في وجهها بالاعتماد على مقوّماتها الذاتية، وربما يكون ذلك بداية تغيير مستقبلي طويل المدى في السّلوكات العامّة للدول والشعوب على حدّ سواء.
- ليس من المُسْتَبْعَد أنْ تحصل في بعض دول العالم انهيارات اجتماعية بسبب ثقل المحن التي عاشتها إبّان الجائحة، ومن المهمّ الانتباه إلى هذا الاحتمال، والاحتياط له بالعمل على بناء خطة لتفعيل وتعزيز التكافل الاجتماعي وتحقيق التكامل بين مختلف القوى الفاعلة، بعيدا عن التدافع السياسي المُرْبِك.
2 - على المستوى الدولي:
- فيما يتعلّق بشريك تونس الأوّل أيْ الاتحاد الأوروبي، أظْهَرَت الجائحة أنَّ دُوَلَهُ تعاملت معها بقدر كبير من الأنانية، وتغليب المصالح الذاتية على المصالح الجماعية.
- انسحب هذا السلوك الأناني على العلاقات الأوربية الأوروبية، وعلى علاقات أوروبا بشركائها، وبالعالم، حيث بدا أنّها في غمرة الخوف من انتشار الوباء، فشلت في تفعيل مبدأ التكامل بين الدول الأعضاء في الاتحاد، رغم حاجتها الماسة إلى ذلك في ظل التفاوت القائم بينها، كما بدا أنّها لا تبالي بمصير الشركاء، ولا بمصير الإنسانية ككل.
- عموما، كَشَفَت الجائحة عن افتقار أوروبا إلى مقاربة سياسية إنسانية للعلاقات بين الدول ومعها، وقد أدّى ذلك إلى مزيد التشكيك في مصداقية الشعارات التي ترفعها عن التضامن الإنساني.
- أدّى سوء إدارة الجائحة من قبل الاتحاد الأوروبي إلى اهتزاز الثقة فيه وإلى تعميق الشّروخ التي أصابت بنيانه خلال السنوات الأخيرة، ممّا يجعل تجربة "البركسيت" قابلة للتّكرار مستقبلا.
- إلى ذلك، لم يعد الاتحاد الأوروبي يتمتّع بنفس النظرة الإيجابية التي كان يحظى بها عند الدول والشعوب الأخرى التي كانت ترى فيه نموذجا لنجاح الحلم الطوباوي بإمكانية بناء فضاءات دولية متكاملة متضامنة كخطوة نحو بناء عالم أفضل.
- أما على الصعيد العالمي فإن الجائحة سَدَّدَتْ ضربة قاضية للنظام الدولي أحادي القطبية.
- كما كانت، من ناحية أخرى، ونتيجةً لاحتدام "الأنانيات الوطنية"، القشّة التي قصمت ظهر نظام العولمة وإيذانا بحتمية مراجعته وإعادة النظر في أسسه الليبرالية سياسيا واقتصاديا وثقافيا وحضاريا...
- فَضَحَت الجائحة بشاعة النظام الليبرالي المتوحّش الذي يهيمن على العالم، بفضل منظومة ربحية ولا أخلاقية تخدم مصالح قلّة من الأثرياء على حساب مليارات الفقراء في العالم.
- من المُتَوَقَّع في ضوء التمايز الذي بدا واضحا بين أسلوبيْ الغرب والشرق في مقاربة الجائحة، أن تتسارع، مستقبلا، وتيرة تحوّل زعامة العالم من الولايات المتّحدة إلى الصين التي لن تكتفي بأن تكون "مصنع العالم" للمنتجات الاستهلاكية، وإنّما تتطلّع إلى أن تكون أيضا "مصنع العالم" أو على الأقل أحد مصانعه لمُخْرَجَات السياسة الدولية.
- من غير المُحْتَمَل أنْ يَظْهَر النظام العالمي البديل سريعا، وإنّما ستحتاج ولادته وتوليده إلى مخّاض طويل وعسير، لا سيما وأنّ العالم سيخرج من الجائحة منهَكا وأقلّ انفتاحًا على بعضه البعض، غير أنَّه من المُتَوَقّع أن تشهد المرحلة القادمة تغيّرات هامّة في خارطة تحالفاته الجيو-سياسية والجيو-ستراتيجية في ارتباط وثيق بالتراتبية الجديدة للقوى الاقتصادية المؤثرة فيه.
- من المُؤَكَّد أنَّ التّعاون متعدّد الأطراف، وخاصة دور المنظمات الدولية التي لم تستطع التخفيف من آثار الجائحة على العالم سيكونان عرضة للتراجع والمراجعة العميقة (من بوادر ذلك تهديد الولايات المتحدة بتعليق مساهمتها في ميزانية منظمة الصحة العالمية).
- عموما سيكون العالم بحاجة إلى مراجعةِ قِيَمِه ومعاييره مراجعةً عميقة، من أجل إعادة ترتيب شؤونه، ووضع سياسات عملية مغايرة كفيلة بإعادة الاعتبار، أو على الأقل بعضه، للإنسان، حيثما كان، فقد بات متأكّدا بعد أن قوّضت الجائحة مفاهيم النظام العالمي الراهن ومسلّماته الحد من جشع وغطرسة الأطراف الدولية التي صنعته وهيمنت به على الكرة الأرضية والبشرية جمعاء...
إنَّ جملةَ هذه المتغيّرات التي عَدَّدْتُ أهمَّها، على سبيل الذّكر لا الحصر، ينبغي أن تستدعي يقظتنا، وأن نعكف على دراستها، بكل جدّية، من مختلف الزوايا، وعلى تمحيص أبعادها بكامل الدقّة والعناية، وأن نضع الفرضيات الممكنة لسيرورتها المستقبلية مع تحديد أفضل الخيارات والبدائل التي يتعيّن علينا اتّباعها في التعامل معها، جلبا لما ينفع بلادنا ودرءا لما يضرّها.
وإنَّ التعاطيَ العقلانيَّ الحكيم مع هذه المتغيّرات ومع امتداداتها المستقبليّة يستدعي منّا رسم نهج سياسي وطنيّ يستند إلى منوال اقتصادي مُجَدِّد قادر على أن يستفيد استفادة قصوى من قدرات الكفاءات التونسية ومن الذكاء التونسي، ومن توظيف إمكانات البلاد الذاتية توظيفا رشيدا في تحفيز الارادات الفاعلة، وفي دفع حركة الاستثمار والإنتاج وتطوير المشاريع الموّلدة للنمو الشامل والرخاء.
ولقد أكّد رئيس الحكومة يومَ مَنْحِه التفويض (04/04/2020) أنّ الحكومة انطلقت "في رسم السياسة وإعداد سيناريوات ما بعد الكورونا في تونس مع عدّة خبراء في شتّى المجالات"، وهذا أمر إيجابي، ويستحقّ التقدير، كما يستحقّ التقدير المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية الذي أعدّ دراسة قيّمة أولى في هذا المجال ونشرها على موقعه تحت عنوان "تونس في مواجهة "الكوفيد 19" في أفق سنة 2025".
وإذ يعتزم المعهد، في الفترة المقبلة، تعميق التفكير في جوانب هذه الدراسة، جانبا جانبا، وبالنظر إلى أهمية تضافر جهود الجميع من أجل القيام بهذه المهمّة على أحسن وجه، فإنّه سيكون من المفيد، في رأيي، أن يستعين في ذلك وعليه بالتعاون الوثيق مع مراكز وأقسام البحوث والدراسات في الجامعات من أجل الخروج، في نهاية المطاف، برؤية حصيفة واضحة لما ينبغي أن تكون عليه سياستنا الداخلية والخارجية مستقبلا.
وهنا، لا بدّ من تحيّة خاصة إلى أقسام البحث في كلّياتنا العلمية والهندسية والتكنولوجية التي برهنت على قدرة تدعو إلى الإعجاب على الخلق والابتكار والإبداع (مثلا من خلال صناعة أجهزة التنفّس الصناعي، والأقنعة الطبية الواقية، والروبوات وغيرها...)، ولا شكّ أن أقسام البحث في كلّياتنا الاقتصادية والاجتماعية وكليات العلوم الإنسانية عامّة ستبرهن، بدورها، على نفس القدرة، حين تُتَاح لها فرصة المساهمة في تصوّر تونس المنيعة الصّاعدة التي نريد أن تكون غدا.
محمد إبراهيم الحصايري
- اكتب تعليق
- تعليق