الحبيب بورقيبة بين التخوين والتمجيد،أين الحقيقة؟؟

حوار بين المستشارة الدولية خديجة معلّى والإعلامي مختار اللواتي

في حديث لي منذ يومين مع الدكتورة خديجة معلّى المستشارة الدولية، تطرقنا، بعد سؤالها عن أحوالها في هذا الظرف الاستثنائي الخطير الذي يمر به العالم بأسره، وهي المقيمة في بغداد بحكم مهمتها ضمن بعثة الأمم المتحدة للمرأة لتقديم الدعم والمشورة.. قالت لي، "بعد يومين تحل الذكرى العشرون لرحيل الزعيم الحبيب بورقيبة". فأجبت، "إنّه وذكراه في البال". وكأنّي بجوابي ذاك، أو حتى لو كان غيرَ ذاك، قد أفسحتُ لها في المجال للتعبيرعن تقديرها وإعجابها بالرجل، السياسي القائد والحكيم والطلائعي، وخاصة الوطني.. وهي بعضٌ من الصفات التي تراها في "الزعيم" كما يحلو لها أن تناديه ! ثم قالت لي "مارأيك في كتابة مقالٍ عن الزعيم في ذكراه؟".. ظننتها تستطلع رأيي لتكتب هي ذلك المقال. غير إنّها أردفت بالقول، "نكتبه معاً" ! لحظتَها، لمعت في ذهني فكرةُ أن يكون حوارُنا هذا عن أول رئيس للبلاد التونسية، منذ استقلالها، في الذكرى العشرين لوفاته، هو ما ننشره مثلما يأتي به الإرتجال. بغَضِّ النظرعمَّ ستكون عليه وجهتا نظرنا فيه، من اتفاقٍ أو اختلاف..ومن دون تردد أجابت على اقتراحي بفرحٍ كان جليا في نبرات صوتها على الطرف الآخر من المسنجر، "موافقة.. وهذه فكرة رائعة وغير مسبوقة". وهكذا اتفقنا معاً على مواصلة الحديث، مع تشغيل المسجل، لنحوّله بحذافيره في الآخر إلى الورق ونحيله إلى ليدرز العربية لنشره.وهكذا كان الأمر! 

مختار اللواتي:مازلت أذكر حديثك التلفزيوني إلى الإعلامية مريم بلقاضي على قناة الحوار التونسي، منذ شهر، حيث تحدثتِ بانبهار عن الحبيب بورقيبة وعن إنجازاته التشريعية والاجتماعية، سواء لصالح المرأة والأسرة، أو للناشئة والمجتمع عموما، في مجالات التعليم والصحة وغيرها، من أجل إقامة ركائز دولة وطنية عصرية..

فهل هو الحبُ أم هي قناعةٌ منكِ بأنّ ما قام به بورقيبة هو فعلاً إنجازاتٌ جبارة؟؟ 

خديجة معلى - لو أردتُ أن أستعمل صورةً مجازية، لقلت إنّ بورقيبة مَثَّل بالنسبة إليّ الأرضَالصلبة التي تحتاجها الطائرة للإقلاع. هو الأساس الذي بنيتُ عليه نشاطي الجمعياتي في مجال الدفاع عن حقوق المرأة، وكذلك لمَّا درَّستُ القانون وحقوق الإنسان في كلية الحقوق بتونس وفي المعهد الدبلوماسي. فالحقوق التي منحها بورقيبة للمرأة في مجلة الأحوال الشخصية هي التي سمحت لي بالدفاع عن النساء حين أصبحتُ محامية. وأخيرا كل هذا سمح لي بتقديم محاضراتٍ واستشاراتٍ دولية مع العديد من منظمات الأمم المتحدة وغيرها، في أكثر من 60 دولة في القارات الخمس. هذه الأرضية الصلبة التي انطلقت منها، كنت أعود إليها، مثلما تعود السفينة الى الميناء، كلما احتاجت للتزود بالوقود والمؤونة. بورقيبة بالنسبة إليّ ينصهر في الوطن الذي يعيش فيَّ بالرغم من أنني احتجت أن أبتعد عنه حاملةً، حيثما حللتُ، المشعلَ الذي تمثله كلُ الأفكار التنويرية التيجسّدها هذا الزعيمُ الملهِم.

ولكن ماذا عنك أنت؟ ألم نتفق بأن يكون حوارا تلقائيا بلا تجميل؟؟ 

م.ل – معك حقّ (ضاحكا). أنا ملتزم باتفاقنا ! لعلك تذكرين في أحاديث سابقة بيننا، مدى إيماني بقاعدة التنسيب، التي ماانفككتُ أؤكد عليها في مختلف المناسبات. وبناء على ذلك، أراني أشاطركِالرأي فيما عرضتِه من سِماتٍ لشخصية الحبيب بورقيبة. وأضيف، إنه كان لهذا الزعيم من نفاذ البصيرة وقوة الشخصية وسعة الثقافة الجامعة، في انسجام نادر، بين جانبها الغربي ببعده الفلسفي التنويري، كما ذكرتِ، وبعدها العربي الإسلامي العقلاني، بعمقه الرُّشدي والخلدوني، وبعدِها التونسي، بجذوره القرطاجية. وصولا إلى الإضافات التحديثية المهمة، تلك المتراكمة منذ منتصف القرن التاسع عشر والتي سبقت بها تونس أعظمَ الإمبراطوريات في العالم، مثل تحرير العبيد. وصولا إلى بدايات القرن العشرين بتلك الحركة الاجتماعية الناهضة في وجه الرجعية، مناديةً بالحرية على لسان شاعر تونس الأكبر أبي القاسم الشابي، وبإنصاف المرأة وإعلاء مكانتها على لسان وبقلم المصلح الاجتماعي سابقِ عصره، الطاهر الحداد. إذن بورقيبة، بذكائه الوقاد، زيادة على طموحه الممزوج بروحٍ وطنيةٍ عالية من أجل بناء دولة وطنية عصرية، عرف كيف يُنَزِّلُ مختلف تلك القيم والمباديء على أرض الواقع في قالب تشاريع وقوانين وخططٍ وبرامج، بجرأة وشجاعة. لكن الغريب هو أنّ أصواتا ما فتئت تكرر، علناً منذ انتفاضة أو ثورة 17 ديسمبر 2010 14 جانفي2011، بعد أن كانت في السرّ، أنّ بورقيبة غرّب البلاد وباعها إلى فرنسا. وأنّ تلك المحسوبةَ إنجازات، هي مَهالكُ أبَّدت تخَلُّفَ الشعب التونسي..

فما رأيكِ أنتِ في ما تردده مثلُ هذه الأصوات؟

خ.م - ليس لديَّ موقف محدد فكل شخص حرّ في مواقفه. هذا، إذا كان الأمر يتعلق بالأفكار وبالآراء فقط. طلبي الوحيد من هؤلاء أن يقدموا لتونس أحسن ممّا قدم بورقيبة، أن يقدموا نظاما تعليميا أحسن ونظاما صحيا أنجع وقوانين متقدمة ويركزوا أسسَ دولة مدنية حديثة تُحترم فيها الحقوق والحريات... فإذا ما قَدِروا، سأكون أولَ من يشكرهم. لأنهم بذلك يكونون قد واصلوا، بوعيٍ أو بدونه،مسيرة بورقيبة التي تلخصها أساساً أول عشر سنواتٍ من رحلة حكمه. وإن فشلوا، فلن أتوانى في أنتقادهم ومعارضتهم لأنهم سوف يكونون قد واصلوا خيانة الأمانة المتمثلة في خدمة الشعب التونسي. ثم ها إنّهم يحكمون البلاد منذ عشر سنوات، فماذا أنجزوا؟ إنّ كل ما رأيناه للشق الرئيسي منهم، هو السعي الحثيث بكل الوسائل لتخريب بنيان الدولة الوطنية القائم منذ الاستقلال، ومحاولة إحلال حكمٍ أوتوقراطي محلها. بل وجعلوا من مشروع الدولة المدنية تهمةً بالكفر تُلقى على المؤمنين بها من أجل تأليب المواطنين البسطاء عليهم. وها إنّ الجميع قد شاهد بالعين المجردة، ودون الاضطرار للاستنجاد بالأرقام، التدهور الاقتصادي المتفاقم وانحدار الأوضاع الاجتماعيةالمضاعَف لمختلف فئات الشعب، متوسطة كانت أو ضعيفة، ومدى الفوضى التي أصبحت تسود المجتمع بأسره ومدى استشراء الفساد فيه، بعدما كان منحصرا في حاشية الحاكم وكان من أسباب الثورة عليه.. هذا، دون التذكير بآفة الإرهاب التي أنشؤوها واحتضنوها، ثم صدَّروها بعد أن كَوُوُنا بجحيمها. ماأراه أنّ نوايا  ومخططات هؤلاء جميعهم قد افتُضحت. وحتى إن غرروا بالناس الطيبين لكسب أصواتهم والظفر بمقاليد السلطة في البلاد، فقد انكشفت مخططاتهم الآن.. اللعبة انتهت Game over مثلما يقال.. وسيظل الفكر والمنهج البورقيبي يقدمان لهم الدروسَ، لو يستوعبون..

يظهر أنني استأثرت بالحديث وأنت صامت. ألا توافقني؟

م.ل - أوافقك تماما على كل كلمة قلتِها.. وماصمتي إلا من أجل تركيز الإصغاء إليك..

خ.م - جميل. بودي الآن أن تحدثني أنتَ عمّ رأيتَه في شخصية الزعيم الحبيب بورقيبة، ليس كمثقف فحسب، وإنما بالذات كصحفي اقتربتَ منه في أكثر من مناسبة كما علمتُ من معارفي ومنكَأيضا في أحاديث سابقة؟

م.ل - إن حُكمي على الزعيم الحبيب بورقيبة، هو حكمٌ ملتبَسٌ في الواقع.. فمن جهة، أنا كنت أعمل في مؤسسة إعلامية عمومية كان النظام وقتها، وحتى في وقتِ خلفِه، يعدُّها مؤسستَه وجهازَه. ومن جهة أخرى كنت أحمل قيما وأفكارا كسبتها من مدرسة بورقيبة وبرامجها في السنوات العشر وربما الخمس عشرة الأولى من حكمه، مثلما كنتِ ذكرتِ أنت منذ حين. ومن هذه المباديء والقيم، الديمقراطية والحرية، حريةُ التفكير والتعبير والنقد. والعدالة الاجتماعي، فضلا عن سائر القيم الكونية والتنويرية. وهو مالم أرَ معظمَه مجَسَّدا على أرض الواقع، لا في تلك السنوات، ولا في السنوات التي لحقتها. وهو نفس مااستخلصه الشبابُ الطالبي الذي تربى على نفس القيم وفي ذات المدرسة التي أنشأها وعمَّمَها بورقيبة. وساعةَ أن أراد ذلك الشبابُ التعبير عن رأيه ونقدَ السياسة البورقيبيةالمقصِّرة في مجالات الديمقراطية ومنوال التنمية غير المُعَلمَن وغير المُعقلَن، كانت ردة فعل النظام البورقيبي عنيفةً صاعقة عليهم، وهو الذي كان يقول لتثمين خياره بنشر وتعميم المدارس "أن يعارضني شباب متعلم خيرٌ من أن يعارضني جهلة". ولما نقده أولئك الشباب المتعلم، وهم ضمن الاتحاد العام لطلبة تونس الذي نشأ بمباركة ورعاية النظام البورقيبي نفسِه. (أفَلَم يكن بورقيبة يقول إنهم أبناؤه، وإنه أبُ الشعب؟) لكنه لم يتوان عن ملاحقتهم وسجنهم وتسليط أقسى الأحكام عليهم. فكان بذلك قد أجهض أولى محاولات الشباب الذي تعلم في مدارسه، للإسهام في نفع الدولة بأفكاره واقتراحاته ونقده. بل وأعطى بورقيبة بذلك دون أن يدري إشارةَ نشوءِ معارضةٍ فمعارضَاتٍ لحكمه. هذا بالإضافة، قبل ذلك، إلى تحجيره نشاطِ حزبٍ عتيد وفي عُمر الحزب الدستوري، هو الحزب الشيوعي التونسي.

خ.م - تذكيرٌ وجيه، ولا أعارضكَ فيه، ذلك الذي سمعتُه منك.

لكن ماذا عنك أنتَ بالذات من كل ذلك؟

م.ل - كنتُ شخصياً لصيقاً بالموجة الفكرية والثقافية المصاحبةِ لتباشير الحراكِ الشبابي ذاك الذي تحدثتُ عنه. فاخترتُ النضال في الحقل النقابي، بدءً بالنشاط في نوادي السينما، ثم بتأسيس نقابة بإذاعة صفاقس حيث كنت أعمل، مع عدد من الزملاء. وقد كانت أحداث ُ26 جانفي 1978 الصدامية بين النظام والاتحاد العام التونسي للشغل آنذاك، هي منعرج الحسم بالنسبة إلي عندما زُج بي وبرفاقي من إذاعة صفاقس، التي كنت كاتباً عاماً لنقابتها، زُج بنا، وبقيادات وكوادر المنظمة الشغيلة، في السجن ثم أُطرِدنا من عملنا لأكثر من سنتين مازالت مقتطَعة ًمن حساب جرايات تقاعدنا. وبالطبع لم نحصل كذلك على أي تعويض.. وبرغم كل ذلك، أومع ذلك، وعملا بقاعدة التنسيب التي أؤمن بها وحدثتكِ عنها، ظللت ومازلت أرى في الراحل الحبيب بورقيبة مشروعا جبارا متقدما على عصره في البلدان العربية وفي كثير من البلدان الإفريقية وما كان يسمى بالعالم الثالث، بما حمَله وآمن به من قيمِ التنوير والحداثة. كما إنه بلا شك وطنيٌ مخلص، وسياسي ٌذو بعدِ نظرٍ وحنكةٍ أكسباه، وتونسَ من ورائه، احترامَ وتقديرَ مختلفِ قادة دول العالم.. ولكنه للأسف مشروعٌ لم يكتمل. أو ربما توقف في منتصف الطريق، وإن شئت قولي، كأنه ارتدَّ على ما آمن به. أو ربما قد سُلبت إرادته منه. بالنهاية، أرى أن بورقيبة كان ديكتاتورا وطنيا مستنيراً لشعبٍ زرع فيه مباديءَ الحرية والانعتاقِ والعدل، ثم تنكر لها.. وسواء تفهَّمنا ظروفَه أم لا، يبقى الأمرُالثابت هو ماقلتِه أنت. تلك اللبناتُ التي وضعها للدولة وللبلاد في سنواتِ حكمة الأولى. لذلك بقِيِتُ أُجِلُّه ولا أُكِنُّله أيَ عداء برغم السجن والطرد والتشريد.. ووفق نفس قاعدة التنسيب، أراني احترم أيضا العديد من إطارات دولة الاستقلال، في عهديها. أولئك الذين كانوا وطنيين خُلَّصاً ولم يقترفوا مفاسد أو مظالم في حق الشعب. بل إن كثيرين منهم قد قدَّموا خدمات جليلة للدولة ولمختلف مؤسساتها. في نفس الوقت  لا احتمل حتى ذكر أسماء آخرين ممن أفسدوا وظللوا وأضروا بالبلاد وبالشعب أيما ضرر، في العهدين البورقيبي والبنعلي!

خ.م - عين الصواب.. وذالك بالضبط ماكنتُ أنوي إضافته لو لم تأتِ عليه. فخيراً فعلت!

م.ل - دعينا نعد إلى تلك المكتسبات التي ذكرتِها في بداية حوارنا وأشهرها مجلة الأحوال الشخصية.

فبودي معرفةُ تقييمك لها وهل هي ضمِنَت فعلاً حقوقَ المرأة التونسية؟

خ.م - قطعا لا! أن تكون للمرأة حقوقٌ مضمونة قانونا، شىء أساسي. وهي الخطوة الأولى لأي دولة ديمقراطية تقوم على المساواة. إنّ شرف بورقيبة كان في وضع حجر الأساس لتحرير المرأة من قيودالتبعية للزوج أو للعائلة. ودعَّم تلك الخطوة بضمان حقها في التعليم وفي الصحة وفي اختيار زوجها وفي الطلاق منه، والانطلاق في الدرس وتحصيل العلم والمشاركة في الحياة الاجتماعيةوالعامة إلى جانب الرجل . لكن، بعد تجربة تدريس القانون لمدة خمس سنوات، ولدى انضمامي إلى سلك المحاماة، في سنة 1998، كنت أذهب كل يوم جمعة إلى حي التضامن، للحديث مع سيدات عن حقوقهن. فاكتشفت أنهن لسنَ فقط أميات بل لم تكن لديهن أيُ فكرة عن تلك الحقوق. ومن ثمَّ استخلصت من ذلكُ أنه لا يكفي أن تكون لدينا أجملُ مجلات حقوق المرأة مادام لم يرافقها تفسيرٌ لهذه الحقوق للنساء، وهن المعنياتُ بها بدرجة أولى.. فلو لم يتطوع محامون ومحاميات، مثلما فعلت،للدفاع عن السيدات اللاتي لا يمكن لهن دفع أتعاب من يدافع عنهن، لما كُنَّ أدركن معنى هذه القوانين. إذن، اللبنات موجودة ولكن تثبيتها على أرض الواقع كان معدوما أو ناقصا.. تماماً مثل نبتاتٍ طيبة، لكن جَرَّاء انعدام أو نقص الإحاطةِ والرعاية، إما لا تثمر أو تعطي ثمارا غيرَ مكتملةِالنضج.

م.ل - يظهر أننا غير مختلفيْن في التقييم، أو في منهج التقييم.

خ.م - صحيح 

م.ل - طيب، الآن وهنا، البلاد تمرّ بأعقد الأزمات، وهي لم تتغلب بعدُ على أزماتها السابقة والناتجة عن حكم السنوات العشر الماضية، إضافةً إلى رواسب السنوات التي سبقتها، 

هل يكون مشروعا، أو معقولا، المضيُ في تحقيرعهدِ بورقيبة وإرثه إلى حد التخوين بالنسبة إلى البعض، والرجلُ قد فات على وفاته عشرون سنة بالتمام والكمال؟؟

خ.م - بورقيبة بالنسبة إلي، مثلما سبق وقلتُ، كان القائدَ والزعيم من خلال حُكمه في سنوات الاستقلال الأولى . بعد ذلك، هو وكل الذين من حوله حكموا مثل أغلبية حكام المنطقة. ثم إنني صراحة، لا أظن أنّ تونس حاليا حلَّت كلَ مشاكلها ولم يبق لها إلا محاكمةُ بورقيبة. هذا ما يفعله كل ُمن ليس له القدرةُ على خدمة التوانسة وتوفير الرخاء والازدهار لتونس. حيلة هؤلاء، والتي لا تنطلي على أحدٍ منا، تكمن في أن إتيانهم كلَ الأراجيف، هو فقط لإلهاء الشعب عن مطالبتهم بحقوقه وخاصة الاقتصادية والاجتماعية منها .. فظلوا يبحثون عن كبشِ فداء يُحَوِّلون وجهةَ اللغوِ نحوه ويُلقُون باللوم عليه للإفلات من المحاسبة. فكان في مقدمة من اختاروا هدفا لرماياتهم، الزعيم بورقيبة، لا لشيء إلا لأنه رمزُ العقلانية والعلمانية والحداثة. فألصقوا به تهم العمالة والتسليم في ثروات البلد لفرنسا الاستعمارية وتغريب الشعب وإبعاده عن هويته. وتناسوا، ولكن الشعب وحرائره وأحراره، سواء اتفقوا مع بورقيبة أو اختلفوا معه، لن تسقط من ذاكرتهم أنّ فرنسا تلك قد أذاقت بورقيبة من ألوان التنكيل ومن عذاب السجون والمنافي لسنوات طويلة ما لاتتحمله طاقة بشر.. أوَ كان عِقابُها له ولرفاقه جزاءَ عمالتِه وعمالتِهم لها ؟؟ إنّ هؤلاء الأدعياء لم يقدموا ولن يقدموا خيرا لهذا البلد. بل إنّ شرورهم فاقت الحصر طيلة السنوات العشر الماضية..

م.ل - أُحِس في نبرتك بعضَ التأثر والانفعال.. دعينا إذن نختم هذا الحوار الشيق بنبرة تفاؤلية..

هل يمكن برأيك أن يكون للإرث البورقيبي نفع، بشكل أو بآخر، في التخطيط لمستقبل تونس؟ 

خ.م - إنّ إرثَ بورقيبة هو الذي يجعلني غيرَ خائفةٍ على مستقبل تونس بل بالعكس تماما. ولكنه لن يكون لوحده. فظروف بلدنا وكلِ العالم هذه السنوات، وغالبا فيما بعد انقشاع غمة فيروس الكورونا، غيرُ ظروف منتصف القرن العشرين.. فلا بد أن يكون كلُ مخططِ إنقاذٍ وبناء، وليدَ معطياتِ الحاضر والمستقبل المرتقَب، من دون إهمالِ الصالح ممافات، أو التنكر له.

م.ل - صدقت. فللتاريخ حلقاتٌ مترابطة. وأيُ قطع فيها يُوَلِّد خللا في كل الحلقاتِ الآتية.. غير أنّ هناك على الضفة الأخرى من يعتبرون العهد البورقيبي عهدا زاهرا كله وأن بورقيبة أشبه بنبيٍ، أو أكثر، ولا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه..

فهل أنتِ ممن يشاطرونهم رأيَهم؟

خ.م - هؤلاء إما شعبويون يستغلون نفورَ الشعب من حكام الزمن الضائع في السنوات القليلة الماضية، وحنينَ بعض أفراده إلى السنوات السابقة، فأرادوا استحضار بورقيبة وكأنهم يتحدثون عن جنةٍ كانت على الأرض واختفت وهم سيعيدونها .. وإما إنهم عديموا النظر النقدي الثاقب، فيكونوا في الحالتين خطرا على الدولة وعلى الشعب!

لديَّ قناعة راسخة أنّ الشعب التونسي سوف يستطيع التخلص من كل من خان الأمانة ومن كل الانتهازيين والمحتكرين للسلطة والمال والدين، يوم أن يتحد مع قيادة وطنية تعشق تونس ومستعدة أن تضحي بأي شىء من أجل ازدهار الوطن وضمان الكرامة والعدالة الإجتماعية لكل فئات المجتمع لتحقيق تماسك إجتماعي ووحدةٍ وطنيةٍ حقيقييْن.

م.ل - أخذنا الحديث بعيدا، فاختاري له كلمة الختام

خ.م - إن لم توجد إلا مجموعة  قليلة من بين الدول العربية والإفريقية قادرة على شق طريق الخلاص وإقامة الدولة المدنية، فإنّ تونس ستكون على رأسها، وسيكون الإرثُ البورقيبي في جوهره الأصلي، نبراسَها في ذلك الطريق.. وحتى إن كانت إلا دولة واحدة، فستكون هي تونس! وأنا في الحجر الصحي، بعيدة عن أرض الوطن، تحضرني جملة فقط أود أن أنهي بها هذا الحوار الشيق معك سي مختار: غالي ترابك يا بلادي. 

م.ل - خير ماختمت به سيدتي. كوني بخير

 مختار اللواتي