زهيّر المظفّر: الدكتور حامد القروي وأداء الأمانة
لم يكن الدكتور حامد القروي مجرد شخصية وطنية. عابرة في تاريخ تونس الحديث. لقد ترك وراءه إرثا تاريخيا هامّا كرجل دولة و كمناضل وطني ساهم في تحقيق الاستقلال و بناء الدولة الوطنية.
كان سي حامد محل اجماع الجميع لتجربته الثرية و كفاءته و نظافة يده. لم يسع وراء الحصول على المناصب الوزارية بل خيّر العمل في الساحل كطبيب مختص في الأمراض الصدرية وكرئيس لبلدية سوسة وعضو لمجلس النواب.
عندما دعاه الرئيس الحبيب بورقيبة لتولي منصب وزير للشباب والرياضة لم يكن يرغب في هذا المنصب الإداري إلا أنّ قرار الرئيس الحبيب بورقيبة كان حاسما. ثم سرعان ما عين سنة 1987 مديرا للحزب الاشتراكي الدستوري.
لم تكن إدارة الحزب في تلك الفترة الحالكة من تاريخ تونس بالأمر الهين. كانت البلاد على شفى حفرة من الحرب الأهلية في وقت فقد فيه الرئيس الحبيب بورقيبة السيطرة على الأوضاع. واستطاع سي حامد القروي بفضل حنكته و خبرته الطويلة أن يجنّب تونس المطبات التي عاشتها سنة 1978.
لم يعرف عن الدكتور حامد القروي مساهمته في الإعداد لتحول السابع من نوفمبر 1987 رغم أنه كان مديرا للحزب الاشتراكي الدستوري، و لكن الرئيس بن علي راهن عليه من اللحضة الأولى لإشعاعه و كفاءته،
إذ اضطلع بدور هام في إعداد مؤتمر الإنقاذ سنة 1988 الذي تحول بمقتضاه الحزب الاشتراكي الدستوري إلى تجمع دستوري ديمقراطي ، وأشرف على عشرات الاجتماعات والندوات وإعداد مشاريع اللوائح التي سبقت انعقاد المؤتمر.
لقد ساعدت قدرة سي حامد على تسيير الاجتماعات والإنصات إلى الرأي الآخر على نجاح هذا المؤتمر.
وعند توليه فيما بعد مقاليد وزارة العدل نجح سي حامد في إصدار القانون المنظم لمهنة المحاماة ولم يكن هذا الأمر يسيرا آنذاك نظرا للصراعات التي كانت تشق المحامين انفسهم والصراع داخل كلية الحقوق بتونس بين المتشيعين للجمع بين التدريس ومزاولة مهنة المحاماة والرافضين لهذا الجمع ، ساهمت قدرة سي حامد وحنكته في التوفيق بين مختلف وجهات النظر للمحامين ولأساتذة كلية الحقوق على تجاوز خلافاتهم.
المعروف عن سي حامد أيضا تواضعه وابتعاده عن الاضواء ، كان ينسب الانجازات الكثيرة التي تحققت في عهد رئاسته للوزارة الأولى إلى الفريق الحكومي الشاب الذي كان يضم خيرة الكفاءات ويعتبر أنّ دوره كان يتمثل في التنسيق والدفع.
شخصيا توطدت علاقتي مع الدكتور حامد القروي منذ إشرافه على اختتام فعاليات الجامعة الصيفية الأولى التي التأمت بالحمامات في صائفة 1990، طلب مني مدّه ببعض المعلومات عن أشغال الجامعة حتى يتمكن من إعداد رؤوس أقلام في خطاب الاختتام، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت على اتصال به في كل ما يتعلق بالنشاط الفكري للتجمع وكذلك بالتشريعات.
استمرت هذه العلاقة بعد 14 جانفي 2011 إلى أن توفّاه الأجل المحتوم، كان سي حامد شاهدا على العصر بكل ما تعنيه هذه العبارة من معنى، يحدثك عن فترة النضال الوطني في فرنسا وعن تأسيس الاتحاد العام لطلبة تونس وعن الكشافة ودورها في نشر الوعي بقيم الوطنية وعن الحالة المزرية التي كان عليها الشعب التونسي في السنوات الأولى للاستقلال، انتشار الأمراض المعدية مثل السلّ وعن الفقر والجهل وعن مراحل بناء الدولة الوطنية وإنجازاتها ولكن و في نفس الوقت عن اخفاقات النظام وعدم قدرته على الانفتاح وتكريس الديمقراطية.
كان سي حامد من أنصار تعزيز الديمقراطية صلب التجمع لانّها المدخل لدمقرطة النظام، و كان من أنصار تعميم الانتخابات للوصول إلى أي مسؤولية داخل الحزب من عضو الشعبة إلى أعضاء الديوان السياسي. سنة 2000 تشكلت لجنة برئاسة الدكتور حامد القروي وكنت مقررا لها لإعداد مشروع لانتخاب اعضاء لجان التنسيق. أنجزت هذه اللجنة اعمالها بسرعة إذ كان سي حامد متحمسا للموضوع ولكن مع الاسف الشديد فإن مقترح اللجنة لم يجد طريقه إلى التنفيذ.
كان سي حامد صارما في طرح المواضيع ، وفي افتتاح اشغال إحدى دورات اللجنة المركزية تحدث عن مستقبل التجمع و ظرورة القيام بالنقد الذاتي والتخلي عن اللغة الخشبية و تمكين الكفاءات من حرية التعبير عن آراءهم وتعزيز الديمقراطية المحلية ، في نهاية خطابه الذي فاجئ أعضاء اللجنة ذكر أنّ كل هذه المقترحات أخذها من كتاب "من الحزب الواحد إلى حزب الأغلبية" وذكرني بالإسم.
استمر الدكتور حامد القروي 19 سنة نائبا لرئيس التجمع، وفي مؤتمر الطموح الذي انعقد في جويلية 2008 تقرر تعويضه بالسيد محمد الغنوشي وحذف خطة النائب الثاني لرئيس التجمع.
لم يفاجئني هذا القرار رغم أنّ البعض رآى فيه أمرا طبيعيا لتقدم سي حامد في السن . وكنت مقتنعا أنّ خطاب سي حامد أصبح نشازا عند البعض كما أنّ مواقفه كانت تقلق البعض الآخر.
اليوم أستطيع الجزم أنّ إزاحة الدكتور حامد القروي - بهدوء- ساهمت في إضعاف الحزب ولكن أيضا النظام.
استمرت علاقتي بالدكتور حامد القروي بعد 14 جانفي 2011 . كان متابعا دقيقا لتطور الأوضاع عند تشكيل حكومة السيد محمد الغنوشي الأولى والثانية و أشغال المجلس التأسيسي...
حاول سي حامد بعد حلّ التجمع الدستوري الديمقراطي توحيد العائلة الدستورية فبادر ببعث الحركة الدستورية وتحولت هذه الحركة فيما بعد إلى الحزب الدستوري الحرّ.
توفي الدكتور حامد القروي بعد أن أدّى الأمانة ، أمانة الكفاح من أجل تحقيق الاستقلال وتحرير الوطن، أمانة المساهمة في بناء الدولة الوطنية ، ويبقى نداؤه "ارفعوا رؤوسكم يا دساترة" صرخة مدوية تستنهض عزيمة الدستوريين الأحرار.
رحم الله الدكتور حامد القروي وأسكنه فراديس جنانه.
الأستاذ زهير المظفر
- اكتب تعليق
- تعليق