أخبار - 2020.03.19

في مناسبة الذكرى الرابعة والستين للاستقلال 20 مارس 1956: وفاء لذكرى الاستقلال في بناء الحاضر والمستقبل

في مناسبة الذكرى الرابعة والستين للاستقلال 20 مارس 1956: وفاءا لذكرى الاستقلال في بناء الحاضر والمستقبل

تحلّ الذكرى الرابعة والستّون للاستقلال وتونس تمرّ بمرحلة حرجة وخطيرة في مطلع القرن الحادي والعشرين بعد تسع سنوات عجاف عرفت فيها البلاد سلسلة من الأزمات السياسية والاقتصادية التي أنهكت الدولة والمجتمع وأصبحت تهدّد اليوم بالعصف كلّ مكاسب الدولة الوطنية وإنجازاتها على مدى الستين سنة الماضية منذ استقلال البلاد عام 1956.
ولأشك أنّ الاحتفال بذكرى الاستقلال عام 1956 هو، في مثل هذه الظروف الحرجة، بمثابة  استحضار لرحلة نضال مليئة بالدروس والعبر، بل هي مسيرة ملهمة في الانتماء إلى التراب والأرض والوطن، بما تنطوي عليه من ذكريات تاريخية وإشراقات مضيئة تميزها عن غيرها من التجارب النضالية والتحررية في العالم، وتمنح لها قدرا هائلا من الخصوصية والتفرد التاريخي. ولا مبالغة بأنّ الوقوف عند يوم الاستقلال كحدث تاريخي هو الأبرز بلا جدال في تاريخ هذه البلاد المعاصر، ليس نوعا من الترف أو الرفاهية التاريخية والثقافية والسياسية، ولكنها مقاربة ضرورية في هذه الظرفية الإقليمية والعالمية الخطيرة، حيث باتت الأوطان وفكرة الدولة المستقلة ذات السيادة، عرضة للتشكيك والهجمات المنظمة من قبل تيارات وتنظيمات لم تسهم في وضع حجرة واحدة في بناء الدولة الوطنية  الحديثة .
لذلك، جدير بنا نحن التونسيون أن نقف اليوم عند بعض المحطات والوقائع والأحداث التاريخية التي رافقت مسار الاستقلال وتصفية الاستعمار بهدف استخلاص معاني هذه المرحلة الهامة في تاريخ تونس المعاصر وما سجلته من تحولات عميقة وإنجازات كبرى في حياة المجتمع التونسي. يقول لويس ألتوسير، الفيلسوف الفرنسي المعروف، " إنّ قراءة الماضي تمكننا من إضاءة الحاضر لأناره المستقبل."

1 - الزعيم بورقيبة والمسيرة الكبرى نحوى الاستقلال الوطني 1945-1955

مع انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 وعودة بورقيبة الى أرض الوطن بعد خمس سنوات قضاها في السجون الفرنسية رفقة قيادات الحزب الدستوري ،أدرك بورقيبة حجم التحولات العميقة الطارئة على موازين العلاقات الدولية بعد اندحار المانيا النازية والقوى الفاشية بشكل عام وبروز عملاقين منتصرين هما الاتحاد السوفياتي زعيم المعسكر الشيوعي من جهة والولايات المتحدة زعيمة العالم الرأسمالي من جهة ثانية. إلاّ أنّ الزعيم بورقيبة لم يتردد منذ الوهلة الأولى على  المراهنة على الولايات المتحدة وذلك من منطلقات فكرية وأيديولوجية حيث سبق له أن أبدى تحفظاته تجاه الثورة البلشفية والنظام الشيوعي بشكل عام  وانحيازه بالمقابل للقيم الغربية ومبادئ الحرية والحداثة. بالإضافة، إلى ذلك كان بورقيبة يعتقد بأنّ الولايات المتحدة كرست بانتصارها في الحرب العالمية الثانية دورها كرائدة للعالم الحرّ وكصاحبة أكبر نفوذ اقتصادي وسياسي وعسكري في العالم مثلما يدل على ذلك احتضانها لمقر منظمة الأمم المتحدة في نيويورك التي تأسست في 24 أكتوبر 1945(1).

وتجدر الإشارة هنا إلى الرسالة التي سبق للزعيم بورقيبة خلال الحرب العالمية الثانية أن خاطب بها الرئيس الأمريكي روزفلت بتاريخ أول جوان1943، معلنا فيها عن ولائه للحلفاء وطالبا إليه مساعدة " قضية شعب صغير يرفض أن يموت أمام مخاطر  الاستعباد الاستعماري  الفرنسي" وقد ورد في هذا الرسالة ما يلي:
"أننا نضع كل آمالنا فيكم لكي لا تعامل فرنسا الحرة التي تحارب  العبودية النازية التونسيين كعبيد. ففي محنته الراهنة لا يريد الشعب التونسي لا يريد أن ييأس من عدالة البشر. وها هو اليوم يتّجه إلي رئيس الديمقراطية الأمريكية العظمى  في مناشدة أخيرة للمساعدة والدعم. وإنّه يحدوني أمل كبير في أنّ هذا النداء المؤثر لشعب صغير لا يريد أن يموت تجاه قائد أكبر ديمقراطية حرة وقوية في العالم لن يكون دون جدوى«(2)

أ‌ - من الجامعة العربية بالقاهرة الى منظمة الأمم المتحدة في نيو يورك

مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، ووعيا منه بأهمية العوامل الخارجية الجديدة في المساعدة على "كسر المجابهة المنفردة بين الحركة الوطنية التونسية  والقوى الاستعمارية الفرنسية" قرر الزعيم بورقيبة المراهنة على جامعة الدول العربية التي تأسست في 22 مارس 1945من جهة وعلى منظمة الأمم المتحدة في نيويورك التي تأسست بدورها في 24 اكتوبر 1945من جهة أخرى، بهدف التعريف بالقضية الوطنية التونسية في المحافل العالمية وتعبئة الرأي العالمي المناصر لقضايا التحرر من الاستعمار الأجنبي.

ففي مارس 1945 سافر بورقيبة إلى القاهرة، بعد رحلة شاقة ومحفوفة بالمخاطر اجتاز خلالها التراب الليبي في اتجاه مصر حيث سيعمل رفقة الزعماء المغاربة من أمثال عبد الكريم الخطابي وامحمد بن عبود والحبيب ثامر على تأسيس مكتب المغرب العربي عام 1947. إلاّ أنّ بورقيبة أدرك بسرعة محدودية الدعم الذي كان ينتظره من جامعة الدول العربية لنصرة القضية التونسية وهو ما جعله ينظر إلى منظمة الأمم المتحدة. وبالفعل، ففي ديسمبر 1946 سافر بورقيبة إلى نيويورك بحرا عبر هولندا حيث استقل باخرة شحن للسفر الى أمريكا. وخلال إقامته في العاصمة الأمريكية، وتحديدا في 6 ديسمبر 1946 إلتقي الأمير فيصل آل سعود وكذلك دين اتشسون، مساعد وزير الخارجية الأمريكي في حفل إقامه ممثلو الدول العربية لدى الأمم المتحدة. وفي 15 جانفي 1947 ألقي بورقيبة محاضرة عن قضية شمال إفريقيا بالنادي المشرقي بواشنطن. ثم تقابل من جديد مع اتشسون واندرسون، وهما على التوالي رئيس شعبة الشرق الأدنى ورئيس الشمال الإفريقي بوزارة الخارجية الأمريكية، اللذين أصغيا إلى حديثه عن قضية تونس والمغرب العربي. وكانت مقابلة رسمية وذلك يوم 23 جانفي 1947.(3)
وبعد زيارته للولايات المتحدة عام 1947، عاد الزعيم بورقيبة إلى القاهرة لمواصلة كفاحه في العاصمة المصرية. وفي ديسمبر 1948 أسندت إليه خطّة الأمانة العامّة للجنة تحرير شمال إفريقيا التي يرأسها الشيخ الخضر حسين الى جانب مسئوليته كأمين عام لمكتب المغرب العربي بالقاهرة (1947 ــ 1950م).


صورة للأعضاء مكتب المغرب العربي بالقاهرة عام 1948حيث يظهر فيها الزعيم بورقيبة وعبدالكريم الخطابي وعلال الفاسي والحبيب ثامر

ب - الرحلات المكوكية للزعيم بورقيبة للتعريف بالقضية التونسية في عواصم العالم

لقد تميز مطلع الخمسينيات بالنشاط الحثيث للزعيم الحبيب بورقيبة على الصعيد العربي والإسلامي والدولي حيث تعددت هذه الرحلات في اتجاه العواصم والبلدان في كامل أنحاء العالم، بهدف تعبئة الرأي العالمي لدعم القضية التونسية. فبعد عودته من منفاه في القاهرة إلى تونس في سبتمبر 1949، أنطلق الزعيم بورقيبة في عدد من الزيارات المباشرة داخل الجهات والمدن والقرى مكنته من الاتصال المباشر مع الشعب التونسي وإعادة طرح قضية الاستقلال الوطني. ولكنه سرعان ما قرّر السفر من جديد الى الخارج في إطار رحلات مكوكية جديدة.

ففي أفريل 1950 انتقل بورقيبة إلى فرنسا. وفي مارس 1951 انطلق في رحلة إلى القارة الأسيوية، متّجها إلى الهند حيث التقى الزعيم الكبير جواهر آل نهرو، ومنها تحول بورقيبة إلى باكستان.  وفي 14 أفريل 1951 التقى بورقيبة الزعيم الوطني الكبير أحمد سوكارنو وخطب أمام البرلمان الأندونيسي في جاكرتا للتعريف بالقضية التونسية. وفي17 جولية 1951، عاد بورقيبة إلى أوروبا حيث حضر الندوة السنوية للنقابات الحرّة CISL بمدينة ميلانو بإيطاليا المنعقدة في أوت 1951(4)

صورة للزعيم بورقيبة رفقة الزعيم فرحات حشاد أثناء انعقاد مؤتمر النقابات الحرة بميلانو أوت 1951

  • وفي 24  جولية 1954 زار بورقيبة العاصمة البريطانية لندن حيث تم استقباله بمقر البرلمان الإنجليزي من طرف كتلة حزب العمّال. وفي بداية أوت 1951 قام بورقيبة  بجولة دعائية  في كافة البلدان الإسكندنافية.
  • وفي 7 سبتمبر 1951 حلّ بالولايات المتحدة في سان فرنسيسكو وقام صحبة فرحات حشاد بالدعاية للقضية التونسية حيث تمكن من مقابلة أعضاء من الكونغرس الأمريكي واضعا بذلك حجر الأساس لعلاقات متينة مع الولايات المتحدة ومراهنا على الضغط الأمريكي على فرنسا..
  • وفي 25 أكتوبر 1951 وصل بورقيبة إلى مدريد ثم ينتقل إلى طنجة (01 نوفمبر) تليها روما (05 نوفمبر 1951). وفي 01 ديسمبر 1951 انتقل بورقيبة إلى تركيا حيث زار ضريح الزعيم كمال أتاتورك ومنها تحوّل إلى القاهرة.
  • وفي 15 ديسمبر 1951، عاد بورقيبة إلى باريس  لمتابعة موقف الحكومة الفرنسية من قضية الاستقلال. إلاّ أنّ هذه الأخيرة تراجعت عن الوعود وأ صدرت المذكرة الفرنسية الموجهة للباي معلنة عن فشل المفاوضات ومؤكدة تمسك فرنسا بالسيادة المزدوجة على تونس. وتبعا لذلك، وفي 23 ديسمبر 1951 صرّح بورقيبة في مؤتمر صحفي من باريس: "لم يبق أمام الشعب التونسي إلا الأمم المتحدة ووسائله الخاصة لخوض معركة المصير "مضيفا" أنّ صفحة جديدة ملؤها الدماء والدموع قد بدأت بين تونس وفرنسا" ملوحا بالاستعداد للكفاح المسلح.(5)
  • هذه بإيجاز بعض الأضواء على رحلات الزعيم بورقيبة المكوكية عبر عواصم العالم للتعريف بكفاح الشعب التونسي من أجل الاستقلال والحرية. والجدير بالذكر أنّ الكفاح السياسي على الصعيد الدولي لم يقتصر على دور الزعيم بورقيبة بل إنّه شمل أيضا الجهود والمهام الصعبة التي أضطلع بها رجالات الحركة الوطنية الآخرون من أمثال الباهي الأدغم الذي نجح في فتح مكتب في نيويورك عام 1952 وكذلك الدكتور الحبيب ثامر والرشيد إدريس فى القاهرة ويوسف الرويسى في دمشق. كما تمّ في نفس الفترة فتح مكاتب إعلامية أخرى في جاكرتا بأندونيسيا (الطيب سليم) وستوكهولم في السويد (علي بن سالم) وبيونس أيرس بالأرجنتين (المناضل حسين التريكي)، كل ذلك من أجل تدويل القضية التونسية وتعبئة الرأي العام العالمي.

  • ولا يفوتنا هنا الوقوف على تضحيات هؤلاء الرجال البررة الذين وهب بعضهم حياته من أجل تونس من أمثال الدكتور الحبيب ثامر الذي استشهد في 13 ديسمبر من سنة 1949 وهو في سنّ الأربعين سنة، عندما سقطت الطائرة التي كانت تقله الى مدينة كاراتشي ولاهور في شمال باكستان لحضور فعاليات المؤتمر الاقتصادي الإسلامي الأول رفقة الزعيم الجزائري علي الحمامي والزّعيم المغربي أمحمد بن عبود. وقد جسد هذا الحادث الأليم رمزية وحدة نضالات شعوب المغرب العربي في عهد الاستعمار. هذه الوحدة التي تجاهلها من أتى بعدهم في زمن الاستقلال.(6)
  • وبهذا الخصوص، فقد أتيحت لي في شهر أفريل 1991 فرصة المشاركة في ندوة علمية دولية انعقدت في مدينة تطوان المغربية حيث انتظمت أعمالها في بيت الزعيم الشهيد المغربي محمد بن عبود  الذي حولته السلطات المغربية الى متحف للحركة الوطنية دشنه جلالة الملك الشاب محمد السادس، بالإضافة الى إقامة متحف خاص بالزعيم المغربي هذا تكريما لنضاله واستشهاده من أجل استقلال المغرب الأقصى.

ولئن كان هذا التكريم في المغرب الشقيق جدير بالإشادة والتنويه فهو مدعاة للحزن والرثاء بالنسبة إلينا نحن في تونس ما بعد 2011، حيث طغت سلوكيات الجحود ونكران الجميل إزاء تضحيات جيل الرواد من الوطنيين التونسيين الأحرار من أمثال الحبيب ثامر وفرحات حشاد والهادي شاكر ومن سبقهم من الزعماء الذين قضوا رميا بالرصاص أو في المنافي الأجنبية من أمثال الدغباجي (1924) وعلي باش حامبة في إسطنبول عام 1925 ومحمد باش حامبة في برلين سنة1922 ومحمد على الحامي في السعودية عام 1930 وغيرهم كثيرون ممن لا يسعنا ذكرهم في هذا المقال.

ج - انطلاق الكفاح المسلح عام 1952 والطريق نحو الاستقلال

إنّ الحرب الباردة ومختلف  الأزمات الدولية الحادة  التي سجلتها هذه المرحلة التاريخية من العلاقات الدولية المعاصرة  كان لها تأثيرها على  مسار الحركة الوطنية مثل أزمة برلين 1948، وهزيمة فرنسا في ديان بيان فو في الهند الصينية في ماي 1954، ومؤتمر باندونج في أفريل 1955. هذه الأزمات كان لها أصداء واسعة في الرأي العام التونسي وعلى مستوى مسيرة النضال الوطني ككلّ حيث أسهمت في إنضاج الظروف الدولية الخارجية الممهّدة لنيل الاستقلال(7)

  • في هذا السياق عاد بورقيبة إلى تونس في الثاني من جانفي 1952 بعد غياب دام أكثر من سنة قضاها يجوب العالم للتعريف بالقضية الوطنية والاستعداد لخوض الكفاح المسلح أمام انسداد أفق الحل التفاوضي مع فرنسا، وبعد أن كان قد  سعى جاهدا إلى تجنيد الرأي العام العالمي وتعبئة مواقف الدول والشعوب المناصرة لتونس وذلك من أجل "تطويق " فرنسا من الخارج كما كان يقول وإدراكا منه أنّ تونس وحدها ضعيفة ولايمكن لها  أن تواجه فرنسا بمفردها.
  • وفي 18 جانفي 1952 من نفس الشهر وعلى إثر الخطاب التاريخي الذي ألقاه في بنزرت  معلنا فيه انطلاق الكفاح المسلح ضد فرنسا، أقدمت سلطات الاحتلال على القبض على بورقيبة والمنجي سليم وأبعادهما إلى طبرقة ثم إلى رمادة ثم قامت بنفي بورقيبة في جزيرة جالطة حيث سيبقي عامين كاملين في عزلة قاسية حيث مرض أكثر من مرة من البرد والسعال الشديد الذي لازمه طوال فترة الإبعاد.

صورة للزعيم بورقيبة في جزبرة جالطة عام 1953

لهذه الأسباب وأمام استفحال الأزمة التونسية وما أفضت إليه من أحداث دامية في تونس وأعمال القمع الشديد لسلطات الاحتلال الفرنسي، انطلقت في 04 ديسمبر 1952 مناقشة القضية التونسية في الأمم المتحدة حيث ستنجح الدول العربية والإسلامية في طرح لائحة تدعم استقلال تونس والمغرب الأقصى للأول مرة. وقد ترافق ذلك مع حدث اغتيال فرحات حشاد من قيل اليد الحمراء في 5 ديسمبر 1952 الذي هز الرأي العام  المغاربي  والدولي.

  • وأمام الضغوطات المتصاعدة على فرنسا وخاصة يعد هزيمة "ديان بيان فو" المدوية  في الهند الصينية  بتاريخ 7 ماي 1954، قررت الحكومة الفرنسية الجديدة بقيادة منديس فرانس في 20 ماي 1954 نقل بورقيبة من جالطة إلى جزيرة ڨروا على سواحل مقاطعة بريطانيا الفرنسية ومنها إلى إحدى الضواحي في باريس حيث شرعت فرنسا في التفاوض معه.

وهكذا، انطلقت في مطلع  1955 المفاوضات التونسية الفرنسية التي ستفضي إلى الاستقلال الداخلي في 03 جوان 1955 وعودة الزعيم بورقيبة الى تونس وسط استقبال شعبي حاشد. وبالرغم من الملابسات والأزمات التي رافقت اتفاقية الاستقلال الداخلي في ظل اندلاع النزاع الدامي بين بورقيبة وصالح بن يوسف حول جدوى هذا الاستقلال واعتباره تفريطا في حقوق التونسيين وتخليا عن كفاح الشعب الجزائري، فإنّ الأحداث المتسارعة ستثبت صحّة مواقف الزعيم بورقيبة فيما عرف بشعار "خذ وطالب" عوضا عن شعار "كل شيء أو لا شيء". فخلال سبعة أشهر فقط، وتحديدا، في 29 فيفري    1956 إنتقل بورقيبة إلى باريس حيث تقابل مع رئيس الحكومة الاشتراكي الجديد، غي مولي الذي اقتنع بوجهة نظر بورقيبة حول منح الاستقلال التام لتونس وقد بدأت  إثر تلك الزيارة المفاوضات من أجل الاستقلال التام لتونس في 20 مارس 1956كتتويج لمسيرة نضالية طويلة وحافلة بالتضحيات والمواجهات مع سلطات الاستعمار الفرنسي.

صورة للاستقبال الحاشد للزعيم بورقيبة في العاصمة يوم 1جوان 1955

2- قضية الاستقلال والجدل العقيم

خلال السنوات القليلة الماضية وتحديدا منذ اندلاع "الثورة " في 2011 ،أثارت قضية الاستقلال  ودور الزعيم بورقيبة  التاريخي تحديدا جدلا واسعا في الساحة السياسية ولدى بعض الفئات المعارضة التي تسعى إلى تقزيم تاريخ الاستقلال والادعاء بأنّ هذا الاستقلال كان منقوصا وغير مكتمل الصلاحيات  وفي الوقت الذي لازالت تتعالى فيه الأصوات الناشزة  والمزايدات الديماغوجية التي وصل بها الصلف إلى حدّ التشكيك في استقلالنا الوطني، تجدر الإشارة الى الملاحظات  التالية:

  • غيرضاف على كلّ ذي بصيرة وعقل بأنّ الاستقلال الوطني  قد تحقّق عبر كفاح مرير خاضه رجال بررة أخلصوا لهذه البلاد- ولم يطلبوا تعويضات بآلاف المليارات مثلما فعل البعض الآخر- كان آخرها  حرب بنزرت  في جولية عام 1961 التي جسدت خير دليل على تصميم بورقيبة والشعب التونسي بأسره على انتزاع آخر معقل استراتيجي فرنسي في البلاد بهدف استكمال الاستقلال الوطني وتحقيق  الجلاء العسكري وطي صفحة الاستعمار الأجنبي في بلادنا إلى غير رجعة. وهو ما أدى إلى استشهاد مئات من خيرة  شباب تونس وجيشها الأبي.
  • لقد كان الاستقلال في 20 مارس 1956 الحدث الأكبر بلا منازع في تاريخ تونس المعاصر في القرن العشرين حيث شكل نقطة فاصلة بين عهدين هما: عهد حكم البايات والهيمنة الأجنبية على البلاد والعباد وما رافق ذلك من كلّ أشكال الضعف والجهل والهوان من جهة وعهد الدولة الوطنية والمشروع الوطني الحداثي وما أحدثه من تحولات  سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة  تمثلت في المرأة والتعليم والصحة  والبنية التحتية... الخ  من جهة ثانية، مهما كانت بعض النقائص ونقاط الضعف التي طبعت بعض جوانب هذه المسيرة الطويلة، مسيرة البناء والتعمير.
  • ولا نبالغ في القول بأنّ كل تونسي هو مدين بشكل أو بآخر للدولة الوطنية فيما بلغه من مستوى تعليمي أو موقع مهني واجتماعي. ويكفي أن نذكر بما كانت عليه الأوضاع في بلادنا عام 1956 حيث كان 90 في المائة من التونسيين لا يذهبون إلى المدارس ولا يتمتعون بالماء الصالح للشراب ولا بالكهرباء ولا بالصحة العمومية ...فضلا عن الخصاصة وسوء التغذية والأمراض المزمنة والمتفشية  على الدوام ...
  • إنّ المحاولات البائسة لبعض السياسيين الهواة ممن أتو بعد 2011 من أجل تشويه رموز التاريخ الوطني خصوصا لدى جموع الشباب التونسي الذي أصبح يجهل اليوم، وأسفاه! كل شيء عن تاريخه الوطني المعاصر أمر محزن لأبعد الحدود، والحال أنّ هؤلاء السياسيين الهواة لم يضعوا حجرة واحدة في تاريخ تونس وأنهم فشلوا تماما في الاضطلاع بمسؤوليات الحكم والدولة. وكان من الأجدى بهم أن يتعلموا من الشعوب الراقية احترام رموزها التاريخية بل وتقديسها أحيانا من أمثال الجنرال دي غول في فرنسا أو شيرشل في بريطانيا وروزفلت في الولايات المتحدة أو ماوتسى تونغ في الصين والقائمة تطول ... وفي هذا الصدد، يقول الكاتب والأديب الكبير إيمي سيزار، أصيل جزرالكارييب الفرنسية  الذي دعم كفاح الشعب الجزائري والشعوب الأفريقية "إنّ شعبا بلا ذاكرة هو شعب بلا مستقبل ".
  • ومن المؤلم أكثر، أنّ بعض رموز حركات اليسار التونسي انخرطت في حملات التهجّم المؤسفة على الدولة الوطنية، متخلية بذلك بوعي أو دون وعى على المشروع الوطني الحداثي بل وهي تتحاف أحيانا مع القوي الظلامية والسلفية تحت غطاء ومزاعم التصدي للدكتاتورية والدفاع عن الديموقراطية وحقوق الإنسان. وقد سبق للنين، الزعيم الروسي قائد الثورة أكتوبر 1917، أن استنكر انحرافات الحركات اليسارية الأوروبية المتطرفة في عصره والتي كانت تغفل في مواقفها مبدأ التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي، بل ذهب إلى حد القول إنّ غباء اليسار يؤدي دائما إلي انتصار اليمين". وهذا ما حصل تماما في تونس ما بعد أحداث 2011.
  • لقد علّمنا التاريخ بأنه لا مستقبل للأى حركة أو تيّار أو مشروع سياسي  يفتقر إلى الروح الوطنية في أهدافه ومراميه. ونحن نخشى ما نخشاه أن يكون هؤلاء الذين اعتلوا المسرح السياسي غداة أحداث 2011 في بلادنا تنطبق عليهم نظريات ابن خلدون حول الأجيال الثلاثة وهي : الجيل الأول الذي يؤسس والجيل الثاني الذي يبني والجيل الثالث الذي يفرط!

فتونس تمّر اليوم، وبعد انقضاء تسع سنوات منذ قيام "ثورة 2011 "، بأدق وأخطر لحظة في تاريخها المعاصر حيث تتعرض بلادنا إلى شبح الإفلاس الاقتصادي والمالي والغرق فيما يسميه رجال الاقتصاد "الدائرة الجهنمية للتداين الخارجي". فتونس التي كانت تحتل قبل الثورة المرتبة 32 عالميا  بحسب ترتيب دافوس من حيث القدرة الاقتصادية التنافسية ، تدحرجت مكانتها اليوم إلى المرتبة 85. وهذا ما يدفع البعض إلى التساؤل ما إذا كانت البلاد تمضي حقيقة في طريقها إلى الانتقال الديموقراطي المنشود والموعود ،أم أنها على العكس من ذلك  تسير نحو "الانتحار
الديموقراطي"، لا سمح الله! حيث لا تتردّد بعض الأوساط المالية العالمية بتشبيه تونس بكونها "يونان جنوب البحر المتوسط" الجديد. كل هذا يدفعنا للقول إلى أنّ بلادنا قد تكون اليوم أمام "فرصة القطار الأخير" كما يقول المثل الفرنسي، والتي يتعين اقتناصها خوفا من الانزلاق نحو المجهول وحتى لا تلتحق تونس التي كانت فيما مضى دولة ناجحة إلي قائمة الدول الفاشلة! ولعلّ ما حصل منذ بضعة أيام في بلد عربي شقيق أعلن عجزه التام عن سداد ديونه الأجنبية هو ناقوس خطر وسابقة خطيرة لأبعد الحدود في ظلّ الأوضاع الإقليمية والدولية القاتمة . فهل نعي وهل نستوعب؟. وهل دقت ساعة الوقوف من أجل تونس؟

محى الدين الحضري

أستاذ العلاقات الدولية والدبلوماسية

المراجع

(1) محى الدين الحضري، الحركة الوطنية التونسية ومكانتها في تاريخ العلاقات الدولية. الملتقى الدولي لتاريخ الحركة الوطنية 27-29 ماي 1984 في سيدي بوسعيد)

(2) -Habib Bourguiba ,Bourguiba, La Tunisie et la France, Paris, Édition Julliard, 1954, p 177

(3)   -Mohieddine Hadhri  “U.S. Foreign Policy Towards the Middle East and North Africa During the Cold War: From Eisenhower to Kennedy (1953–1963) in  the Journal of the Middle East and Africa, 5:95–110, 2014

(4) الهادي جلاب، حول العلاقات الخارجية لتونس في الفترتين الحديثة والمعاصرة، مجلة ليدرز بتاريخ 2016.09.16   

(5)Mohieddine Hadhri, François Pelletier, « Le Moyen-Orient  et L’Afrique du Nord dans la Seconde Guerre mondiale :Convoitises et rivalités des grandes puissances belligérantes » Guerres mondiales et conflits contemporains 2016/2 (N° 262), p. 93-106.

(6) ماجستير: ثلاثة رموز فكرية سياسية مغربية الحبيب ثامر- علي الحمامي – امحمد أحمد بن عبود رسالة ماجستير في الحضارة العربية المعاصرة جامعة تونس إعداد جليلة المؤدب إشراف محمد الناصر النفزاوي 2011

(7) محى الين الحضري، " باندونج ومولد العالم الثالث" دراسة عرضت بمناسبة الذكرى الثلاثين لمؤتمر باندونغ، دراسات دولية 1985 العدد 16.

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.