أخبار - 2020.03.03

ميتـافيزيـقـا كيمياء الألوان في الكتاب المقـدّس والـقرآن

ميتـافيزيـقـا كيمياء الألوان في الكتاب المقـدّس والـقرآن

قد يكون من البديهي جدّا الانطلاق من الاعتبار القائل بأن مفهوم اللون من المفاهيم المهملة إهمالا كبيرا من قبل العلماء والباحثين ومردّ ذلك الإهمال يعود إلى ما يكتنزه مفهوم اللون من لبس وغرابة في علم الحفريات وكذلك أيضا ما يحمله من إحالات ودلالات في علم الأديان، إذ سرعان ما تستحيل هذه الألوان إلى لغة عالمية مشتركة ترتبط شديد الارتباط بالدّين وتكشف عن الرموز نفسها لدى مختلف الشعوب القديمة التي اعتقدت في اللون رمزا مقدّسا داخل الفضاء الديني والروحاني، فوحدة الأديان التوحيديّة لا قيمة لها إلّا في ما تحدثه من توحيد للتجربة الروحيّة للإنسان في جوهرها العقائدي وممارسات طقوسها الدينية.

يقتضي هذا التوجّــه البحث والتمحيـص في المعـادل الإيقاعي والدلالي المعنوي للّون باعتباره شكلا من أشكال التجلّي لبعض الأنماط الفيزيائية النابعة من أصولها الأسطوريّة والدينيّة وما تحتكم إليه في الديانات التوحيدية (اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام) من محمولات فلسفيّة وفكريّة تقوم على ثنائيات الحقّ والباطل، الخير والشرّ، اللّيل والنهار، النور والظلمة، وجميعها يرمز إلى مراتب من الوعي متفاوتة بحسب نوعيّة اللون وطبيعة مدلولاته التي يجسّمها في الفضاء المادّي، وينقلها من المتصوّر الذهني إلى المتصوّر المحسوس عبر عين الإنسان الكائن الحامل لميتافيزيقا الألوان بما هي جسر لشكل معيّن من أشكال تواصل الأرض مع السماء أو هي تشكّل من تجليّات إبداع المطلق على وجه الأرض، فالنور الإلهي الحقيقي الصافي الخالص هو رمز وجود الإله الواحد الذي بثّ الحياة في رمز الوجود وخلق الكون حتّى لكأنّ الألوان إنّما هي أطياف الإله والمفارق الملقاة على جسد الأرض.

اللّون ورهانات النصّ المقدّس

تنزّل اللّون منزلة الطقس الديني في تاريخ الحضارات القديمة ليعكس بعض العادات الراسخة في تقاليد الشعوب المرتبطة شديد الارتباط بأفكار دينية تكشف عن تعلّق الإنسان باللّون وامتداداته الثقافيّة والحضاريّة. فهل كان اللّون تعبيرا ميتافيزيقيا عن حقائق دينية عجزت اللّغة عن حملها وتحميلها في مفردات وألفاظ، أم هو اللّون حاجة إلى اختزال استدعته امبراطوريّة الضرورة الملحّة جرّاء تعدّد العالم وتنوّعه للخروج من نسق الأحادية القائلة بأن الصفة الواحدة للّون مثلا قد تكفي لتجعل منه مثيلا للّون الآخر؟، ولعلّ أكبر الشواهد دلالة على ذلك ما ورد في التوراة في سفرها الأول، سفر التكوين فيما اتّصل بقوس قزح الذي يحتلّ فضاء السماء رمزا دينيّا حسّيا للتعبير عن الميثاق الربّاني الذي جمع بين الإله وكل الكائنات الحيّة إثر الانتهاء من طوفان النبيّ نوح فاستحال قوس قزح علامة دالّة على ميثاق الصّلح والاتفاق وعلامة أمن وسلامة لأهل الأرض بناء على الميثاق الإلهي الجامع بين الطرفين بعد قانون العقوبة الذي حلّ بجميع مخلوقات العالم السفلي، فكان قوس قزح إشارة حسيّة وعلامة ماديّة على العهد الذي قطعه الخالق لجميع الخلائق. فهل في هذه العلامة الدّالة إبداع لعمل ملوّن يسوّغ لنا القول بتمام الخلق وكماله؟

يصف النبيّ حزقيال مشاهدته لمركبة العرش الإلهي وما يحيط بها من قداسة ومجد وإجلال، فيشابه بين هذه المشاهد وظهور قوس قزح في السحاب مجسّدا لمعنى التجلّي الإلهي المتعالي. ونقرأ في التوراة في سفر الخروج أنّ موسى وهارون وسبعين من شيوخ إسرائيل، «رَأَوا إلهَ إسرَائِيلَ وَ تَحتَ رِجلَيهِ شِبهَ صُنعِهِ مِنَ العَقِيقِ الأَزرَقِ الشَّفَّافِ وكَذَاتِ السَّمَاءِ فيِ النَّقَاوَةِ وَلَكِنَّهُ لَم يَمُدَّ يَدَيهِ إلى أَشرَافِ بَنِي إِسرَائِيل فَرَأوا اللهَ وَأَكَلُوا وَشَرِبُوا». إنّ وصف العرش الإلهي باللون الأزرق يعود في الأصل إلى مصادر وثنيّة قديمة كانت تقدّس نوعا خاصّا من السمك والحيوانات البحريّة التي كانت تفرز ما يشبه الدم الأزرق. ولعب اللّون الأزرق دورا بارزا في الكهنوت اليهودي به صبغت ملابس الكهّان والكاهن الأعظم، وعندما نعرّج على اللّون الأزرق في النصّ القرآني نجده مذكورا مرّة واحدة في سورة طه : «يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا». فاللّون الأزرق في هذا الشاهد القرآني تنزّل في سياق الحديث عن العذاب والحشر بما يفيد عمي العيون التي لا نور فيها، لأنّ الزرقة أسوأ ألوان العيون وأبغضها عند العرب وكانت تتشاءم بزرقة العيون كما قال الشاعر:

«لقد زرقت عيناك يا ابن مكعبر  ***   ألا كلّ صبيّ من اللّؤم أزرق»

إنّ من دلالات اللّون الأزرق في الآي القرآني الإحالة على وجود الكافرين عند الحشر من شدة هول يوم القيامة وما يعتريهم من خوف ورهبة ووجل في حين يرد اللّون الأزرق في كتاب الأناجيل للدلالة على لون السماء وهو ظاهرة حسيّة لانكسار الضوء أثناء مروره بطبقات الجوّ المختلقة. و يرمز الأزرق كذلك إلى موطن آلهة الأوليمب عند الإغريق للتعبير عن الحكمة الإلاهية المحمّلة بلاهوت المحبة وأحيانا بلون الحقيقة الزرقاء النقيّة.

وتتكثّف كيمياء الألوان في الكتاب المقدّس والقرآن في مستوى رمزية الأحمر باعتباره من الألوان الأساسية المحمّلة بدلالات روحية، فالنصّ الإسلامي تعامل مع اللّون الأحمر في مواضع شتّى إذ لم يقتصر حضوره على إبانة ألوان الفواكه والثمار وإبراز تعدّدها وتنوّعها، «فَأَخْرَجْنَا به ثَمَرَاتٍ مّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا». وإنّما وظّفه في الحديث عن طبقات الأرض وعن الجبال الصلبة في مشهد طبيعي مختلف ألوانه هو أيضا «ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود». فالغرض من هذه الآية هو بيان اختلاف ألوان طرائق الجبال كاختلاف ألوان الثمرات، فمنها الأبيض ومنها الأحمر ومنها الأسود. ويرى الفيروزابادي في القول القرآني (ومن الجبال جدد بيض وحمر) إحالة على الطرق الواضحة والظاهرة المسلوكة والمقطوعة. فإذا ما توجّه الأحمر نحو الإنسان استحال إلى مثال للقسوة والغضب والقتل، أمّا إذا ما توجّه نحو الله فهو لون المحبّة والشجاعة، أما رمزيّة الدم الأحمر في المسيحية فتدلّ على معاني التضحية والفداء، حيث يمثّل دم المسيح الأحمر المسفوك على الصليب خلاصا للبشرية من الخطايا وغفرانا للعصيان بما يؤهّل لولادة جديدة في مملكة الربّ مجسّدة لتخليص البشرية من الخطيئة من خلال تقليد مسيحي يتعلّق بتناول الخبز وشرب الخمر، حيث الخبز لحم المسيح والخمر دمه، وهو بذلك يتشكّل في صورة ضحية مقدّسة طالما أنّها أتاحت للمجموعة أن تجد السّلام بقتيل لن يثأر له. ولعلّ وجه الشّبه هنا بين الدم والخمر هو أنّهما يحملان اللّون الأحمر وكلاهما حياة للجسم الذي يجري فيه؛ « أشربوا مِنهَا كُلُّكُم لأَنَّ هَذَا هُوَ دَمِي.» فالنصوص المقدّسة من خلال هذه التعديلات والانزياحات الطارئة على معانيها وعلى مضامينها تقيم تناغما في مستوى جماليّة التلقّي للسرد الديني عبر فعل إعادة بناء المعنى على النحو الذي يسمح بدخوله في إطار الثقافة السائدة. ويشابه التراث الديني اليهودي بين اسم آدم وكلمة أدمة العبرية، وتعني التّربة التي منها شكّل الله آدم على صورته؛ كما ورد في التوراة في سفر التكوين « فَخَلَقَ اللهُ الإِنسَانَ عَلَى صُورَتِهِ، عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ.» وكلمة آدم القريبة من العبرية أدوم تفيد معنى اللّون الأحمر، لون الضوء في اندماجه الأوّل مع الأرض، وبالتالي يكون الأحمر هو أقرب تشكّل لونيّ للمظاهر الإلهية على الأرض وإن بأشكال مختلفة باختلاف المرجع الديني، فهو لون القدرة الإلهية على إبداع مناظر الطبيعة في الإسلام، وهو لون الدم الأحمر لون الفداء وخلاص البشرية في حياة المسيحيين، وهو لون أديم الأرض الأقرب إلى الشعاع المستمرّ غير المنكسر من الضوء الذي تمتصّه المادّة الأرضية مباشرة في تراث اليهود الديني.

إنّ هذه الدلالة التي ينهض بها اللّون الأبيض في حياة العبرانيين لها ما يقابلها في حياة المسلمين، ونقف على ذلك في ما تشير إليه البقرة في قولها: «وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ.» فالآية هنا تشير إلى ظاهرة كونيّة فيزيائية هي انفصال انبثاق ضوء الصبح الأبيض عن ظلام اللّيل الأسود، فاستحال المعادل المعنوي للّون الأبيض ميزة دالّة على معنى التوجيه والإرشاد وحسن التقدير، بالإضافة إلى معنى تحديد معالم الموصوف كما الشّأن في قصّة البقرة الواردة في القرآن من التوراة، حيث لاحظنا  بعض الاختلاف في لون البقرة التي طلب موسى من بعض قومه أنّ يذبحوها، فتذكر التوراة أنّها حمراء : «وكَلّمَ الرَّبُّ مُوسَى وهَارُونَ قَائِلاً هَذِهِ فَرِيضَةُ الشَّرِيعَةِ التِّي أَمَرَ بِهَا الرَّبُّ قَائِلاً كَلَّمَ بَنِي إِسرَائِيل أَن يَأخُذُوا إِلَيكَ بَقَرَةً حَمرَاءَ صَحِيحَةً لاَ عَيبَ فِيهَا وَلَم يَعلُ عَليهَا نَيرٌ فَتُعطُونَهَا لأَلِيعَازِر الكَاهِن فَتَخرُج إِلى خَارِج المَحَلَّة وَتُذبَح قُدَّامَهُ»، بينما يذكر القرآن أنها، «بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ». فالمعادل المعنوي هنا بين اللّونين الأحمر والأصفر يفيد نزوع اللّون إمّا للبشارة بإمكانيّة بناء الهيكل وعودة الشرائع اليهودية بمجرّد ولادة بقرة حمراء تكون ذبيحة خطيّة للتّطهر من النجاسة والذنوب، وإمّا أن يكون اللّون الأصفر دليل إثبات وبراءة من مقتل ذلك الرّجل الذّي ينتمي إلى بني إسرائيل كما في قصّة موسى مع قومه، وإمّا علامة على مشهد من مشاهد يوم القيامة استخدم فيها القرآن صورة لونية تتناسب مع أهوال الحدث وتتناسب أيضا مع ما استقرّ في المخيال الجمعي عند أهل الجزيرة من العرب، « إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ. أو في قول الروم: «وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ» .إنّ اللّون الأصفر في الاستعمال القرآني قد جاء متعدّد الدلالات والمعاني فهو تارة تبيان لصفات  وأدوات التعذيب في الآخرة وهو تارة أخرى ينهض بوظيفة القرينة الحسيّة في السياق والوصف على نحو ما جلبه اللّون الأخضر من استعمالات في النصوص المقدّسة تراوحت بين وصف حال أهل الجنّة في الإسلام وما يحيط بهم من نعيم وبهجة ومتعة، «مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ». وفي موضع اخر «عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ». في حين جاء الأخضر في التراث المسيحي  الديني لونا للهداية والبدء والأمل، فهو لون يوحنا الإنجيلي الذي تكلّم على الروح القدس، وهو لون التجدّد والتوسّع الأفقي، نجد صداه في النصّ القرآني حين أشار إلى سنوات وافرة الخير ودلّ عليها باللّون الأخضر»، إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ.» وهو سياق قرآني حافظ على وحدة الدلالة المعنويّة للأخضر في ظواهر الطبيعة وكذلك أيضا في وصف مشاهد من الجنّة الموعودة.

إنّ رموز الديانات التوحيديّة ليست إلاّ إبداعا لغويّا صرفا يقوم على إصدار أفكار معيّنة محمّلة بالصور والألوان وحاملة لأنماط بدائية وتقاليد مبهمة لا تكتسب معانيها إلاّ إذا أدرجناها في سياقها النصّى الديني والميثيولوجي، و إنّ أهميّة البحث في المحمولات الرمزية للألوان في النصوص الدينية تكمن في تعبيرها عن رحلة الإنسان في عالمه الأرضي السفلي ورغبته في إدراك حقيقة الوجود الإلهي السماوي بحسب تجلياته وأشكال انعكاسه في العالم المادي الحسّي. إن ميتافيزيقا كيمياء الألوان في الكتاب المقدس والقرآن ولئن توزّعت فيها المعاني وتنوّعت بحسب المحيط الديني إلاّ أنها توحّدت في التعبير عن مضامين دينيّة أسهمت في تعميق الوعي بالشريعة السماوية التي تسرّبت إليها إحالات صريحة بالإشارة أو بالعبارة من الرموز الدينيّة والأحاجي التي تقول حقائق حسّية وغيبيّة تخدم أغراضا فكريّة وعقديّة، ترمي في النهاية إلى صرف قارئ النصوص المقدّسة إلى تدبّر الآيات الموغلة في الرمزيّة الروحية التي تزيد المؤمن حيرة وضلالا.

الأسعد العياري

باحث جامعي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.