منجي الزيدي: الحقد الاجتماعي والسياسي
يشهد المجتمع التونسي ارتفاعا في منسوب العنـــف، وانتشارا مخيفا لمظاهــــر التباغض والكراهية. وليس في هذا القول مبالغة، وليس في التشخيص اختلاف. يحدث ذلك في مجتمع صغير تجمع بين أفراده عوامل التجـانس والوحدة ثقافيا واجتماعيا فليس فيه مِلَل ولا نِحَل ولا طوائف، حتّى أنّه ليقال إنّ التونسيين يعرفون بعضهم. قلّ ونَدر أن تجد تونسيا ليس له قريب أو نسيب أو حبيب في جهة من جهات البلاد. فكيف نفهم ما أصبح عليه أبناء البلد الواحد من نزوع نحو الانقسام والفرقة؟ وكيف نفسّر استشراء الخطاب المتأجّج بلهيب الضغينة، والمستعـــر بنار الانتقام والتشفي والذي لم يسلم منه لا الأحياء ولا الأموات؟ وكيف نستوعب إمعان بعض النخب في تبرير الحقد والترويج له بكلمات حقّ يراد بها باطل فيسري بين العامة كسلوك طبيعي بل كموقف حقّ وعدل ومساواة؟
الحقد مــرض نفســي واجتماعي عضـال قــاومته الديانات والشرائع والفلسفات ولم تفلح في اجتثاثه من أعماق النفس البشرية المظلمة. ولقد اعتقد «فرويد» أن الإنسان كائن يختزن العنف والعدوان، وأنّ الحقد كامن فيه وقادر على أن يتجاوز الذات الفردية ليصبح شأنا جماعيا إذا لم يمتلك الإنسان قوّة معنوية لضبط النفس وكبح جماحها العدواني. لذلك فإن هذا «العِداء البدائي» يهدّد المجتمع والحضارة بالتفكّك.
كما اعتبر «ماتيس» Rene Mathis أن الحقد شبيه بالفيروس الذي يفتك بالشخصية، «فعندما يتَمَلَّك بنا الحقد فإنّنا لا نعرف إلى أيّ درجة سوف يؤثّر في ذواتنا، وفي كلّ الحالات نحن لن نجني من ورائه ربحا أبدا وإنّما هو يُكبّدنا خسارة أخلاقية». ذلك بأنّ هناك دوافع غريزية تأسر الشخص الحاقد فتمنعه من التفكير في وجاهة الأسباب التي تدفعه إلى توخي سلوك الضغينة، وينعكس ذلك على مستوى الملامح الفيزيولوجية فيمكن التعرّف عليها بسهولة.
ويفسد الحقد العلاقات الأسرية ويخرّب روابطها ويقوّض “روح العائلة». وينخر النسيج الاجتماعي إذا ما اتخذ أبعادا دينية وسياسية وعنصرية فيوقع العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع الواحد. ويصيب العلاقات بين الشعوب فتأكلها فضاعات الحروب.
ويستشري الغلّ في الغالب بفعل التأثّر «بالجوّ العام» Par ambiance ونتيجة لما أسماه علماء سيكولوجية الحشود «العدوى الجماعية»، حيث تنساق العامّة وراء تيّارات جارفة من التحريض دون تفكير في مدى تلاؤمها مع الحقّ.
لقد اعتبر «Pierre Janet» الحقد مرضا داخليا. إذ الحاقد يفسّر أحداث الحاضر بالعودة إلى الماضي، وهو سجين هاجس العدوّ الدائم. كما أنّه لا يتوقّف عند الرغبة في إبعاد من يعتبره عدوّا، بل يصرّ على إزاحته من الوجود أصلا، فيكفي تذكّره والتفكير فيه لاسترجاع مشاعر الألم التي يرى الحاقد أنّها لن تزول إلاّ باجتثاث المتسبّب فيها. من هذه الوجهة الحقد هو نزوع نحو التحطيم ونحو العدم، وكلّ شكل من أشكال الحقد يتضمّن فكرة الموت.
ومع ذلك فإنّه لا يمكن الاعتقاد دائما أنّ شخصية الحاقد متورّمة بحكم تشدّدها، بل هي في نظر علم النفس شخصية صغيرة جدّا وضعيفة وهشّة. الحاقد يعيش قلقا دائما واستشعارا للتهديد والخطر، لذلك فهو في حالة استنفار دائم، ومكبّل بشعور العجز الذي يدفع به نحو هوس الدفاع أو ما يسمّى: Délires de défense.
إنّه لمن السهل أن يحمل الفرد حقدا وضغينة، ولكنّه من الصعب جدّا أن يتحلّى بشجاعة الصفح والعفو وإنّها لكبيرة إلاّ على الأنبياء والزعماء الحقيقيين وكبار النفـــوس من المناضلين الصادقين. ويزداد الأمر صعوبة طالما بقيت الطريق نحو المصالحة مزروعة بألغام الأنانية والابتزاز وكلمات الحقّ التي يراد بها الباطل.
ويبلـغ الحقـد مـداه حين يتحوّل إلى اضطهاد. ذلك ما أشار له المفكّر الكبير «Edgar Morin» عندما كتب سنة 2002 عن تحوّل الشعور التاريخي بالاضطهاد لدى اليهود إلى ممارسة نفس الاضطهاد والعنصرية على الفلسطينيين. كلّفته هذه الفكرة ملاحقة قضائية لسنوات قادتها منظمات «حقوقية» موالية للصهيونية أنصفته من غلوائها وظلمها محكمة التعقيب الفرنسية في 2005.
وللاضطهاد أشكال عديدة منها الإقصاء الممنهج، وتسليط «سيف داموقليس» على رقاب الخصوم، واستضعافهم والتغاضي عن انتهاك كرامتهم وحقوقهم. ولقد تداولت في عام 2011 وسائل إعلام كثيرة رسالة وجّهها الزعيم الراحل «نيلسون مانديلا» إلى الشعوب التي شهدت حراكا اجتماعيا وتغييرا سياسيا في أنظمتها منبّها فيها إلى أنّ إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم. وحذّر فيها من فتنة الملاحقات والإذلال والانتقام، ولكنّ الرسالة لم تلق آذانا صاغية ولا ضمائر صاحية في وطيس حرب الكلّ ضدّ الكلّ. سيبقى مانديلا خالدا ولن يذكر التاريخ بخير من نصب المشانق وبنى السجون.
الحقد لا يبقي ولا يذر. وهو إعصار يُعمي الأعين عن الحقّ والسلام، إنّه دوّامة تجرّ في هيجانها كرة من نار الظلم والفتنة، تتعاظم وتعيق المجتمع عن تجاوز أوضاعه المتردية وبناء مستقبل أفضل لأجياله الصاعدة. ولا يذهبّن في خلد المنظّرين له بشعارات ومصطلحات مزيّفة، أنّهم بمأمن من أهواله. فلن ينجح الانتقام في مداواة جراح الماضي ذلك بأنّه يثخن جسد المجتمع بجراح أعمق.
منجي الزيدي
أستاذ تعليم عال بجامعة تونس
- اكتب تعليق
- تعليق