عبد الحفيظ الهرڤام: التحـدّي الاجتمـاعــي
لا يكفي أن يكون للحكومة الجديدة، ولأيّ حكومة كانت في المستقبل، حزام سياسي، داخل البرلمان وخارجه، يتيح لها تأدية مهامّها دون تعطيل وتمرير مشاريع القوانين المرتبطة بما تعتزم تنفيذه من إصلاحات، بل هي أيضا في أمسّ الحاجة إلى حاضنة شعبية واسعة تضمن لها الاستمرارية والدوام وتقيها الكبوات والعثار التي قد تعجّل بسقوطها.
ولئن لم يغفل بعض القياديين السياسيين عن تأكيد أهميّة توفّر «حزام شعبي» للحكومة منذ أن عُهد في مرحلة أولى للحبيب الجملي بتشكيلها قبل أن يتولّى الأمر إلياس الفخفاخ بتكليف من رئيس الجمهورية إِلَّا أنّ مدار المفاوضات المضنية التي استمرّت على مدى ثلاثة أشهر للوصول إلى توافقات بشأن تركيبتها وبرنامج عملها لم يكشف في الحقيقة حرصا شديدا من مختلف الأطراف على أن يعكس هذا البرنامج نَفَسًا اجتماعيا جليّا، مجرّدا من أيّ منزع شعبوي، يكفل لها دعما ومساندة من شرائح واسعة في المجتمع ولا سيّما منها الفئات المحرومة والمهمّشة، بالإضافة إلى سائر المنظّمات الوطنية والتنظيمات ذات الطابع الاجتماعي.
وحتّى وإن حضر الجانب الاجتماعي في خطاب بعض الأحزاب، فإنّ ما ارتسم في نهاية المطاف في أذهان الرأي العامّ من خلال مسار تشكيل الحكومة هو ذلك الصراع المحموم حول توزيع المناصب الوزاريّة الذي بلغ حدّ المساومة والابتزاز وكذلك سعي هذا الحزب أو ذاك إلى الظفر بأوفر نصيب من الكعكة، مع تشبّث البعض بحقيبة أو بحقائب بعينها، ممّا زاد في حنق المواطن وفي غضبه من الطبقة السياسية التي ظلّت في نظره مسكونة بهاجس تقاسم مغانم السلطة ورهينة مآربها الضيّقة، ممّا رسّخ لديه الانطباع بأنّ همومه وشواغله لا تتصدّر سلّم اهتمامات السياسيين.
وغنيّ عن البيان أنّ ما ينتظره التونسيون من الحكومة الجديدة، بعد أن عيل صبرهم، إجراءات عاجلة وعمليّة، لمحاصرة الفقر ومقاومة مظاهر الحرمان والتهميش والحدّ من التهاب الأسعار الذي تسبّب في تدهور الطاقة الشرائيّة للطبقة الوسطى وفي مزيد تفقير الفئات المحرومة، وذلك بالتوازي مع استحثاث نسق إحداث موارد الرزق للعاطلين عن العمل ومعالجة الملفّات الاقتصادية والماليّة الحارقة وإصلاح أوضاع المرفق العامّ في قطاعات حيويّة كالصحّة والنقل والتعليم.
وليس أدلّ على تفاقم غضب فئات واسعة من المواطنين، جرّاء تردّي أوضاعهم المعيشية، من استمرار موجة الاحتجاجات الاجتماعية في مختلف الجهات، وقد بلغ عددها، حسب المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (المرصد الاجتماعي)، 9091 احتجاجا في سنة 2019، بينما شهد شهر جانفي المنقضي 1136 احتجاجا، مقابل 863 احتجاجا في جانفي 2019، أي بزيادة نسبتها 31 بالمائة بعد أن تحوّلت مؤسّسات تربوية ومستشفيات وطرقات إلى فضاءات للمطالبة بالشغل والتنمية وتوفير المرافق الأساسية.
وعلاوة على السعي بجدّية إلى مواجهة هذا الوضع الاجتماعي المتفجّر والإسراع بتوجيه رسالة إلى جموع المحتجين، مبنيّة على الصدق في التعاطي مع مختلف المطالب، بعيدا عن المماطلة والتسويف، فإنّ الحكومة الجديدة مدعوّة، من خلال رؤية مستقبلية شاملة، إلى إشاعة الأمل في النفوس بعد أن استبدّ اليأس والإحباط بأعداد وافرة من التونسيين. ومن بين المؤشّرات الدالّة على ذلك ازدياد حالات الاكتئاب النفسي والانهيار العصبي وارتفاع حالات الانتحار ومحاولة الانتحار - وهي ظاهرة طالت حتّى الأطفال- وقد بلغ عددها 268 حالة في سنة 2019، وفق إحصائيات موثوق بها. كما أنّ الحكومة مدعوَّة إلى بذل الجهود قصد معالجة ظواهر اجتماعية تشكّل خطرا على أمن المجتمع وسلامته ومن بينها تنامي ظاهرة تعاطي المخدّرات في صفوف المراهقين والشباب، وخاصّة في الوسط المدرسي، فضلا عن الانقطاع المبكّر عن التعليم - إذ يغادر مقاعد الدراسة كلّ سنة قرابة 100 ألف تلميذ وتلميذة- واستفحال العنف بمختلف أشكاله وقد سُجّل خلال السنة المنقضية ما يناهز 100 ألف قضية عنف، وتمثّل الفئة العمرية دون 18 سنة 73 بالمائة من المتّهمين فيها!
ولا شكّ في أنّ معالجة هذه الظواهر بنجاعة وفعالية تستوجب وضع وتنفيذ استراتيجية أفقية تتضافر فيها الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية.
فأيّ حظّ للتحدّي الاجتماعي في اهتمامات الحكومة الجديدة وبرامجها؟ أليس الإقدام على مواجهة هذا التحدّي الحزام الأقوى الذي يجنّبها مخاطر القطيعة مع الشارع وهمومه ويضمن لها حاضنة شعبية هي أحد مقوِّمات نجاحها؟
عبد الحفيظ الهرڤام
- اكتب تعليق
- تعليق