»سفيرا بالمملكة المغربية« كتاب جديد لصالح البكّاري
«سفيرا بالمملكة المغربية»، هو كتاب جديد بقلم الأستاذ صالح البكّارى، السفير ووزير الثقافة والمستشار برئاسة الجمهورية سابقا.يقع هذا الكتاب الصادر عن دار نظر ودار سيراس للنشر في 318 صفحة. ويتضمّن ستّة فصول وتقديما أنيقا ودقيقا لأستاذ الفلسفة الحديثة وفلسفة العلوم بجامعة تونس، الدكتور حمادي بن جاب الله ومقدمة منهجية للمؤلف.
لقد حلّق الأستاذ صالح البكارى عاليا في هذا المؤلف الجديد. وما أبلغ هذا العنوان «سفيرا بالمملكة المغربية»..بدون مقدمات... لا كنت، ولا عملت، عنوان سابح، معلّق على باب هذا الكتاب، يشي ويبوح بقدر ما يسفر ويصرّح.
فالرجل قد جاء الدبلوماسية من غير منابتها ومرابعها، يهمس لك أنّه «لم يدرس الدبلوماسية ولا عمل في وزارة الشؤون الخارجية».
ثم يضيف مقرّا «والأصل أنّ المتأهّل لهذه المهنة يتأهّل بالتعليم والدراسة في المعاهد والكليات ويتدرّب ويجرّب المواقع في بلاده قبل أن يتقلّد المهام في الخارج».
وقد جاء هذا العصامي، ذات مساء من شهر رمضان سنة 1997، إلى الرباط «ليقتحم عالما فيه من الأسرار والغموض الكثير» وليستلم مهامّه كسفير لبلاده في بلد مغاربي شقيق لم تكن علاقاتنا به على أحسن ما يرام...قدم «مستوحشا لا يدرى من أين يبدأ وكيف يبدأ وفي ذهنه الكثير ممّا سمعه من حديث حول توتّر العلاقات التونسية المغربية، غداة إزاحة الزعيم بورقيبة من السلطة...»
وما أبلغ الرمز، فصفحتا الكتاب الخارجية إحداهما بيضاء بياض سريرة صاحبه، والثانية زرقاء زرقة البحر-بحر الدبلوماسية- أفقا باهرا ومخيفا في آن.
لقد استطاع الرجل، الواصل لتوّه إلى بلد الاعتماد، بكثير من الإصرار والعزم وبثقافة واسعة وعلم غزير أن ينخرط في المجتمع الدبلوماسي، مستكشفا ومسترشدا،مجالسا ومحاورا، يقتنص المعلومة هنا، ويمحّص هذا المعطى هناك.. يوازن ويزن بقسطاس..ويختبر معادن الرجال «..خليط خلاق. يعرفك على الطبائع والأمزجة والذكاء والغباء والتواضع والكبرياء وطيب المعشر... ويفتح أمامك كتاب النظم السياسية ومقومات العلاقات الدولية في صفائها وتكدّرها ويفتح عينيك على مدى التنافر حتى بين أقرب الدول بعضها لبعض، أسرة أفرادها ضرائر في أحسن الأحوال...» أسبقية المصالح على المبادئ في عالم الدبلوماسية المائج...
وقد استطاع الرجل بمهارته ونباهته أن يصبح واحدا من أعلام هذا المجتمع...وبالتوازي مع ذلك فقد عمل وقرينته على الاندماج في المجتمع المغربي على اختلاف أطيافه وحساسياته وأجياله...في أحيائه الراقية وفي أحياء البسطاء من الناس حتى غدا، مع الأيام، «مغربيا من المغاربة «يجمع في دار تونس الفرقاء والأصدقاء..» فأهدى وهادى ودعي ودعا وحضر المناسبات العامّة والخاصّة كحفلات الزفاف والختان والموالد... وشارك في الندوات العلمية والأدبية والمعارض الفنية والعروض المسرحية.
يحدّثك الرجل، وقد أصبح سفيرا متمرّسا، عن الموسيقى المغربية حديث العازف الماهر وأستاذ الموسيقى المتخصّص معرفة بأنواعها ومواطنها ورجالها...
وإذ يدعوك إلي مائدته، وكم لدبلوماسية المائدة وفنّ الضيافة من حضور في عمله، فأنت إزاء حفل من أصناف الطعام..وخبرة عالية في إعداده وتقديمه.... فقديما قال أحد وزراء المعتمد بن عبّاد : «ينبغى أن يكون حظّ العيون والأنوف من موائد الملوك كحظّ الأفواه منها».
نصّ الأستاذ صالح البكّارى نصّ ينبض حياة.. فقد عايش، خلال فترة إقامته بالمغرب، ما يزيد عن عقد من الزمن، ملكين ، الراحل الكبير الحسن الثاني ونجله محمد السادس، وجيلين من السياسين المغاربة وما تخلّل، تلك الفترة من الزمن من إشكالات التحوّل من ملك يحكم ويسود إلى ملك«قريب من الأجيال الجديدة التي تنشد الحريات وإطلاق الجناح والعيش في دولة القانون...» من دولة الأب الراعي لرعيته «وسياسة الجرعات الإصلاحية الصغيرة» ... إلي دولة المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان وما اقتضاه ذلك التحوّل من خطوات جريئة على درب المصالحة الوطنية والتناوب والمشاركة السياسية وحرية الإعلام ومن إصلاحات غير مسبوقة في الاجتماع (مدوّنة الأسرة) وفي الثقافة (الاعتراف باللغة الأمازيغية كلغة وطنية ثانية في دستور 2011) وفي الاقتصاد وفي سائر مرافق الحياة بما جعل المغرب الشقيق يخطو خطوات هامّة وحاسمة على درب التقدم والازدهار.
كتاب الأستاذ صالح البكّارى -بما هو نصّ ثريّ و متعدّد الأصوات- يمكن مقاربته من زوايا مختلفة... السياسية والاجتماعية والنفسية، المقول منها والمسكوت عنه لكني سأكتفي بالزاوية الدبلوماسية ولماما في علاقتها بالتاريخ.
في كتاب الأستاذ صالح البكّارى أنظار وأفكار عن الدبلوماسية ومدارسها وتقنياتها وأدوات عملها وإكراهاتها ومنغّصاتها وخاصّة في علاقتها بالداخل. وكم من تأثير للأوضاع الداخلية على صورة البلاد الخارجية.
وقد توقّف الكاتب مطوّلا عند تجربته الصعبة والمفيدة مع الإعلام المغربي على اختلاف مشاربه وحساسيته...تواصلا وكتابة... حوارا وصمتا بليغا في زمن «فجور الكلمة تهرف بما لا تعرف». حتى غدا، مع الأيّام، من العارفين بالقائمين عليه وصار صديقا لهم، واحدا منهم ... حتّى قال له، في بعض الأيّام،المرحوم عبدالكريم غلاب-وهو من أعلام الصحافة والفكر والسياسة في المغرب-«أصبحنا نستحي منك يا سعادة السفير ونحجم عن نشر الأخبار السيّئة عن تونس» ... وتلك، لعمرى، أحد النجاحات الكبيرة التي تحسب للدبلوماسي في بلد الاعتماد.
كما تطرّق المؤلف في هذا الكتاب وبجرأة دبلوماسية كبيرة، بل لعلّها جرأة المثقّف قبل الدبلوماسي، لمسائل حسّاسة كملفّ الصحراء بأبعاده وتعقيداته المختلفة وملفّ الاتحاد المغاربي وأوضاعه الصعبة وعلاقات المغرب الخارجية مع جواره القريب والبعيد ومع المنظّمات الإقليمية والدولية...
كما فكّك، باقتدار كبير، ما عاشه المغرب الشقيق من تحوّلات نوعية على مختلف الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في ضوء ما شهده العالم والمنطقة العربية من تغيّرات عميقة ومتسارعة بعد انهيار المنظومة الشيوعية وسقوط جدار برلين وثورة الاتصالات والمعلومات ودخول فاعلين جدد في الحياة السياسية على المستويين الداخلي والخارجي...وما أورثه كل ذلك من إكراهات وضغوطات مختلفة وتحدّيات جديدة ليس أقلّها الفوضى الخلّاقة التي تعاني منها بلداننا إلى اليوم...
وكم أبدع السيد صالح البكّارى حين انبرى، وبمهارة كبيرة، لتحليل الظاهرة الدينية في المغرب وتفكيك مكوّناتها المختلفة - وهي موضع انعقاد الهوية في بلد وسمته الجغرافيا الطبيعية قبل السياسية بالانكفاء على الذات والمحافظة...رصد تفاعلات هذه الظاهرة بمكوّناتها المختلفة في علاقاتها بالسياسي والاجتماعى والثقافي باعتبارها قطب الرحى في التحوّلات السياسية التي عاشها المغرب في العقود الماضية...كما تتبّع بدقة التحوّل في معالجتها من الملك الأب» الذي حرص على ضمان الأمن الروحي وحراسة الثوابت على منهج بن عاشر القاضي بالجمع بين المذهب الأشعرى وفقه مالك وطريقة الجنيد السالك «إلى الملك الابن» الذي عمد إلى إصلاحات هيكلية حاول بها تجاوز المظاهر الطقوسية في اتجاه تغليب الروحانيات والفكر المستنير، على حد قول الأستاذ حمادي بن جاب الله في تقديم الكتاب...
عندما انهيت قراءة هذا الكتاب الممتع والمفيد تساءلت هل سيشكّل «فتحا» في عالم الكتابة الدبلوماسية التونسية ويفتح الباب لأقلام أخرى لتتحفنا بتجاربها الدبلوماسية في بلدان وفضاءات أخرى وفي بيئات وسياقات دولية واقليمية اخرى؟ ... الجواب عندي، بدون تردّد ... نعم... رغم أنّ عددا من السفراء الأجلّاء من أجيال مختلفة أمثال سي محمد فريد الشريف وسي الحبيب نويرة وسي المولدى الساكرى وغيرهم قد امتعونا بمؤلفات قيمة ضمّنوها مشاهداتهم وملاحظاتهم وخلاصة تجاربهم ورؤاهم المتنوعة...
غير أنّ كتاب سي صالح البكّاري -بما بدا لي أّنه نصّ قد انفكّ من قيود ما استقرّ من قواعد وأعراف الكتابة الدبلوماسية في بلادنا، فإنّه يطرح اسئلة ذات صلة بعلاقة الكتابة الدبلوماسية بالتاريخ من ناحية وبإشكالياتها ككتابة مخصوصة، على نحو: هل يحقّ لنا، حتّى على بعد المسافة الزمنية، أن نبثّ في نصوصنا معلومات كانت حتّى وقت قريب من أسرار الدولة وأصحاب الشان فيها؟ ثم إلي أيّ مدى يمكن أن نوظف معطيات، حتى وإن بدت بسيطة عند البعض، عرفناها ونحن نباشر مهامنا في هذه الوزارة أو تلك من وزارات السيادة خاصّة؟..
قد يقول قائل - وقد يكون على حق في ذلك - إنّ المعلومات قد أصبحت اليوم مع الثورة الاتصالية وشبكات التواصل الاجتماعي والسماوات المفتوحة للإعلام على قارعة الطريق، وإنّ مفهوم السريّة والكتمان في العمل الدبلوماسي السياسي والاقتصادي والثقافي قد غدا خاصّة بعد حادثة «وكليكس» نسبيّا جدّا.. والراي عندي ليس ذلك كذلك.!!!
الأستاذ صالح البكّارى، كان واعيا تمام الوعي بمحاذير الكتابة الدبلوماسية ومهاويها بل وما قد تثيره من شجون وبما تعزّزه من ظنون في العلاقات بين الدول...وقد قتّر في القول حيث يجب التقتير، وسخَا حيث وجب السخاء، وكان، في سائر نصّه، عفيف اللسان مترفّعا. وقد أجاب على أسئلة الكتابة الدبلوماسية جواب المثقّف الدبلوماسي حيث سطر في استهلال نصّه: «هذا المؤلف كتابي. اجتمعت فيه معلومات وأفكار وخواطر ومشاعر جال القلم بينها على هواه.» ثمّ استدرك، في ثنايا نصه، ولاحظ أنّه لم يوظّف كلّ ما توفّر لديه من معطيات ومن معلومات...
وربّما ما كان له أن يتحفنا بهذا النصّ الجميل لو التزم التقتير في القول فقط أو أطلق العنان لقلمه دون أن يستحضر ضوابط الكتابة الدبلوماسية ومحدّداتها باعتبارها نصّا في التاريخ وللتاريخ ملزما لصاحبه ولبلاده أيضا...
عندما كنت بصدد كتابة هذه الورقة استحضرت نصّا جميلا وموقفا أصيلا...نصّا جميلا من نصوص القرن التاسع عشر... نصّا كُتب على غير مثال لزيارة على غير منوال... ذلك هو نصّ صاحب «الإتحاف» الشيخ أحمد بن ابي الضياف في تغطيته لزيارة المشير أحمد باي إلى فرنسا في شهر نوفمبر من سنة 1846..عندما ترك قـــارئه على عطش - حين أوجز مقابلة الباي مع لويس فليب، ملك فرنسا آنذاك، وهي أهمّ فقرة في هذه الزيارة، حين أوجزها في: وقال له الملك: «أنك تتكلم الإيطالية وأنا أتكلّمها فلا حاجة لمترجم بيننا»...وكان فعلا أحمد باي يتكلّم، إلى جانب العربية والتركية، الإيطالية وذلك بحكم أنّ أمّه إيطالية... غير أنّ أحمد بن الضياف كان صفيّ الباي وكاتبه الخاصّ وموضع أسراره...فقد خدمه طيلة حكمه (1837_1855م)، وكان قبل ذلك وبعده في القصر... لكنه آثر التكتّم على مضمون هذه المقابلة وألقي عليها بظلال مقصودة من منطلق أنّه ليس كل ما يُعرف يُقال ويُكتب...كما تكتّم على التبرعـات المالية الكبيرة التى قدّمها الباي إلى بعض الجمعيات والمؤسّسات الخيرية والتي أوردت خبرها بعض الصحف الباريسية آنذاك...
أمّا الموقف الجليل فللرّاحل الكبير الطيّب السحباني-رحمه الله رحمة واسعة - وكان من أساطين الدبلوماسية التونسية ومن رجالها المؤسّسين...وكانت «لي جرأة عليه مع احترام المقام»، حين قلت له معاتبا، في لطف،... لم نقرأ مذكراتك إلى حدّ الآن وأنت صاحب الخبرة السياسية والدبلوماسية الكبيرة وصاحب القلم الندي الذي لا يجارى...وقد نضوت عنك «جبّة» الدبلوماسية منذ سنوات وصرت نائبا في المجلس...
توقّف سي الطيّب عن السير، وكنا متسايرين في جولة في الرباط، وقال لي: التاريخ حيّ ..التاريخ حيّ...» ثم استدرك كأنّه فهم أنّي فهمت غير ما قصده (أعني موقفه من اليوسفيين .. ربما)... وأضاف ماذا سيقال إذا كتبت، وأنا أوّل سفير لتونس في المغرب أنّه غداة إعلان الجمهورية في بلادنا أصبحت كالمنبوذ ولم يزرنى، مهنّئا، سوى المهدي بن بركة وكان ذلك ليلا ..وكان الرجل متنكّرا.
قلت: «وما الضير في ذلك وقد صار الرجل من التاريخ؟»
فأجابني، في حزم، «التاريخ بما هو مشاعر وعواطف ومواقف حيّ لا يموت»... (وقد أورد الاستاذ صالح البكاري هذا الخبر في كتابه)...
بين نصّ بن أبي الضياف الذى توخّى الكتمان وموقف سي الطيب الحازم من علاقة الدبلوماسية بالتاريخ ونصّ سي صالح الذي تعاطى بحرية واحتراس في ممارسة الكتابة الدبلوماسية، صلة من نسب، على بعد المسافة وتغيّر أحوال الزمان... جميعها روافد ثرّة تصبّ في معين الدبلوماسية التونسية التى نحتت، عبر أجيالها المتعاقبة، صورة لنفسهـا هي وسـط بين التقتير في القول والسخاء فيه وكثيرا من الفعل ما استطاعت إليه سبيلا.. خدمة لمصالح البلاد وإشراق صورتها في الخارج وتعزيزا لأركان الأمن والسلم والاستقرار في المنطقــة وفي العـــالم والتعاون مع الأشقّاء والأصدقاء في مختـلف فضاءات الانتماء والانتساب والتعاون.
خالد الزيتوني
سفير سابق
- اكتب تعليق
- تعليق