أخبار - 2020.02.13

ورقات من كتاب الشاذلي القليبي: تونس وعوامل القلق العربي

ورقات من كتاب الشاذلي القليبي: تونس وعوامل القلق العربي

الحبيب بورڤيبة الإنسان

... الرئيس بورقيبة كان يجمع بين فورة المزاج البركاني، وسماحة الطبع الاجتماعي -إذا ما هدأت لديه «الأخلاط»- والميل إلى سماع الفكاهيات، ومجالسة الظرفاء، والانشراح إلى دُعابة الحديث مع النساء. وهو، في حياته اليومية، لا يعرف للمال قيمة ولا معنى، لا يحرص على جمعه، ولا يبخل به عن معوز، ولا يفهم أنّ وزراءه يحتاجون إلى زيادة في رواتبهم.

وهو لا يتبذّخ في لباس، ولا في مأكل، ولا يسافر إِلَّا للقيام بواجبات دبلوماسية، أو للمعالجة حسب إشارة طبيبه.

ينظر إلى نفسه - وإلى أغلب من حوله - دوما بعين المستقبل، فيحرص أن يكون المستقبل في راحة وعافية، وكأنّه مفتوح سرمدًا. في أعمال الدولة، أمران لهما، في نظره، الأهميّة الأولى : التعليم والصحّة بهما قِوام الحياة الشخصية، وسلامة المجتمع، ثمّ يأتي الشغل الكريم، والمسكن اللائق.

ألقى في أواخر مطافه سلسلة من المحاضرات، كان يرتجلها، ويجعلها مذكّراته إلى الأجيال. واختار أن تكون في رحاب الجامعة وبالتحديد في معهد الصحافة وعلوم الأخبار، وأمام حضور أغلبهم من الطلبة. وفِي هذا الاختيار وصيّة منه، ليكون الشباب دوما في مقدٌمة شواغل أولي الأمر.

من المواضيع التي طرقها نشأة عشقه لوسيلة بن عمَّار التي تزوّجها بعد الاستقلال. والطريف في القصّة أنّه، بعد أوّل لقاء بها صُدفة، وما وُقر في نفسه من هُيام بها، كان كثير التردّد إلى الحيّ الذي به منزلها العائلي، قائلا في نفسه:

أَمُرُّ عٓلٓى الأبْوابِ مِن غَيْر حٓاجةٍ ........... لٓعَلِّي أرَاكُمُ أَوْ أٓرَى مَنْ يٓرَاكُمُ

مبرهنا بذلك أنّه عاش أهمّ وقائع حياته على إيقاعات شعريّة، من ثقافته العربية - إذ هو يُشير إلى ما قاله الشاعر الصوفي الأندلسي- وما كان يعرف اسمه الكثير-شُعيّب ابن الحسن الأندلسي والمشهور بأبو مدْين التلمساني (1198-1126).

وكنّا جمهرة من الوزراء، أثناء حديثه ذلك، نبتسم متضاحكين فيما بيننا، متهامسين: «يا دار عبلة بالجِواء تكلّمي».

كان بورقيبة، في أوّل عهد رئاسته، مهتمّا بمتابعة أسماء المناضلين الذين يأتونه، لتقديم التهاني بالأعياد. ويتصرّف وكأنّي به عن طول فكر واستعداد، على عادته في اختزان ملاحظاته وتأمّلاته، منذ شبابه، فإذا بدا له الاسم غير لائق بمناضل في الحزب، أمره بالتغيير، وأحيانا، ذاكرا له الاسم البديل.

وكان حريصا على إقناع المناضلين أنّه يُتابع نشاط، ويعلم عنهم كلّ شيء، ويهتمّ «بالصغيرة والكبيرة». فيخرجون من عنده وهم مُعجبون بسعة ذاكرته.

واتّفق أن تقدّم إليه مناضل لم يكن الحياء الصفة الغالبة عليه، فأجابه نافيا ما قاله، بجسارة وما يشبه الصلف، فلم الرئيس بهزيمته، فقال له: «ويش بيها لحيتك ما هاش محجّمة؟» فبُهت الذي كفر.

وبهذه الذاكرة العجيبة، كان في متقدّم عمره، يستطيع أن يُنشد القصائد الطوال -عربيّة أو فرنسيّة- وكأنّه يقرأ من كتاب. فيندهش ضيوفه، عند استماعهم إليهم، فلا ينفكّون يُشيدون بهذه الموهبة النادرة المثال.

وكان لذلك إسهام في شهرته، رئيسا يجمع بين السياسة والثقافة، دون أغلب نُظرائه.

وجريا على العادة القديمة، كان الرئيس بورقيبة يحضر الاحتفال بختم الحديث. واتّفق مرّة أن اقتصر الشيخ المكلّف بإلقاء الخطبة على كلمة سرد فيها أحاديث كثيرة، يبدأ كلّا منها بعنعنة طويلة، فَلَمَّا أتمّ الشيخ كلمته، تظاهر الرئيس بالثناء والشكر. ثمّ مال إليه، هامسا بقدر ما يسمعه الأقربون من الجلساء: «وأنتَ يا شيخ آش قلت؟!».

كان بورقيبة كثير التدخين، قبل الاستقلال، وبعده. فأصابه من ذلك أَذى في الحنجرة.فقال له طبيبه الذي عالجه: إمّا وإمَّا:
إمّا ان تكفّ عن التدخين وإمَّا أن تُعرض عن الخطابة. فكان ردّه فورا : «الخطابة ماعون صنعتي». ورمى من حينه بعُلبة الدخان في سلّة المنسيات.

وكان يلحّ عليّ مرارا وتكرارا، أن أتوقّف عن التدخين. وكنت إذّاك أدخّن كثيرا. واتّفق أن كنّا يوما، في بهو القصر، قُبالة البحر، في وقت راحة الرئيس. وأمر لنا بالقهوة. ولما شرعتُ في التدخين، قال لي :ألا تأخذ بنصيحتي «فُكّ عليك من التدخين!».

وكان بجانبنا أحد المقرّبين إليه، من ذوي الظرف فقال: «وأنا سيّدي الرئيس، تأمرني أيضا بالتوقّف عن التدخين؟». فأجابه مازحا: «لا أنت لَكَ الحقّ في التدخين قدر ما شئتٓ».

ولمّا كانت للرئيس ليلا نوبته القلبيّة -التي خُشي عليه أن تنتهي بوفاته- أحاطه فورا ثلّة من الأطبّاء بالعناية اللازمة. ولكن ألحّ بعض الأقارب، مُطالبين باستقدام أستاذ فرنسي قمّة في طبّ القلب، هو جون لوناغر (Jean Lenègre) وكانت له شهرة عالمية. فحلّ بقرطاج على عجَل. وتولَّى فحص الرئيس بحضور الأطبّاء التونسيين الذين باشروه. ولمّا فرغ من الفحوص اجتمع إليه ثلّة من الوزراء، كانوا حاضرين بقصر قرطاج، ودارت بينهم محادثة، برهنت على ما كان الأستاذ من سعة الثقافة التاريخية.

وممّا قاله في خصوص معالجة الرئيس، أنّه لم يزد شيئا على ما بادر به تلاميذه التونسيّون.

وسأل أحد الحاضرين : هل نعتبر أنّ الأزمة انتهت؟ فردّ الطبيب أنّه من شأنها أن تعاود بعد أيّام، وربّما مرّات عديدة. ولكن لا خوف منها مبدئيّا.

وسأل أحد أصحاب الجرأة : هل هذه الأزمة من شأنها أن تؤثّر في مدى الحياة؟ فأجابه: «لا، وأمام الرئيس فسحة من العمر».

فسأله آخر: هل يمكن تقدير هذه الفسحة؟ فأجاب: «نعم، سنوات عديدة، خمس سنين، وربّما أكثر».

بعد هذه الزيارة، بمدّة قليلة، أُعلن عن وفاة الأستاذ. وكان يمشي في شارع بالحيّ اللاتيني، فوقع مغشيّا عليه، وكــان مصابا بمــــرض في القلب، لا بدّ فيـه من عمليّة جراحيّة. لكنّه أبى أن يخضـع لها.

أمّا الرئيس بورقيبة، فطالت به الحياة بعد ذلك، أكثر من ثلاثة عقود، ولم تعاوده الأزمة، خلافا لما تنبّأ به الطبيب الفرنسي.

واتّفق أن زار الرئيس الموريتاني المختار ولد دادة تونس، واجتمع مطوّلا بالرئيس بورقيبة، في اليوم السابق لنوبته القلبيّة.فتشاءمت زوجه الرئيس بهذه الزيارة، وأقنعت الرئيس بأن يُلغي مستقبلا أيّ زيارة أخرى للرئيس ولد دادة.

والغريب أنّ رجل العقل والمنطق حرَّكت في نفسه نوبته القلبية كامن الهواجس التليدة. فلم يقدر الفكر الإيجابي عنده على التغلّب عليها.فنوائب القلب أقوى من عزائم العقل.

ولمّا أجريت «للماجدة وسيلة» عمليّة جراحيّة بفرنسا، أوفدني الرئيس للاطمئنان عليها. وكان مُنشغل البال بوضعها الصحّي. وبعد توديعه وتوجّهي إلى باب المكتب، نادني قائلا: «إذا ماتت اجعلها في صندوق واتني بها».

وأُبلغ بورقيبة -وهو في منفاه الأخير بالمنستير- نعي كاتبه الخاصّ، الذي لازمه طيلة حياته السياسيّة، فكان ردّه : «حتّى هو كبر»، علما بأنّه أصغر سنّا منه. وكان بورقيبة، تجاه أعضاده، دقيق الملاحظة، حريصا على كلّ ما يتعلّق بالملبس، وحُسن الهندام، ولياقة المظهر. فلا يقبل أن يأتي أحد من رجال الدولة إلى الاجتماعات الرسميّة دون ربطة العنق (cravate). ولا يرضى لوزرائه أن يأتي أحدهم وأطراف سراويله متدلّية إلى أسفل الرجلين: فيأمره باتّخاذ الحزام، أو «المعلّقات» التي تصلح من شأنه (bretelles). وكذلك أمر اللّحِي، فيشترط في الذين لهم مناصب رسمية حلقها يوميّا- وما كانت عاداتهم كذلك، قبل العمل مع الرئيس بورقيبة.

كلّ هذه الاهتمامات البورقيبية، إنَّما القصد منها، في نظر الرئيس إعطاء أمور الدولة من الهيبة والوقار ما يكون شاملا لكلّ ما يصدر عن رجالها من أعمال، أو ما يكون لهم من مظهر أو هندام. وهذا من أهمّ ما ترك بورقيبة من بعده : هيبة الدولة، إلى جانب ما سمّاه «فرحة الحياة».

وفـاء بورڤيــبة

ومن خصائص بورقيبة أن كانت له، كما أسلفنا، ذاكرة قويّة، بفضلها يستحضر تفاصيل ودقائق، مرّت عليها عقود من الزمان، أو يتمكّن لحظة اللقاء، من معرفة وجوه لم يرها منذ آماد، فيردّ الجميل، لمن لقي منهم العون والتأييد، فيما يسمِّيه بأوقات الشدّة قبل الاستقلال، من تونسيّين، وعرب، التقاهم أيّام الكفاح، مثل الصحفي الفلسطيني محمّد علي طاهر، الذي عرفه في مصر، أو رجل العلاقات الدولية، اللبناني اللامع سيسيل الحوراني، الذي كان في عونه عند زيارته لأمريكا.

ومن المسؤولين العرب الذين ساندوا القضايا العربية عامّة والقضية التونسية بوجه خاصّ لدى الأمم المتحدة، وزير الخارجية العراقي الدكتور فاضل الجمّالي (1903 - 1997). ولقد لقي منه الزعيم الحبيب بورقيبة، آنذاك، دعما قلّ أن لقيه من مسؤول عربي بهذا المستوى. ولمّا دارت الدوائر وقامت ثورة جويلية 1958 التي أطاحت بالنظام الملكي بالعراق كان فاضل الجمّالي واحدا من بين الوزراء المحكوم عليهم بالإعدام، فتحرّك بورقيبة بكامل ثقله السياسي الدولي لفكّه من حبل المشنقة. ولم يلبث أن دعاه إلى تونس حيث أقام مكرّما مبجّلا...»
الشاذلي القليبي، تونس وعوامل القلق العربي،

دار الجنوب 2019، ص 185 - 189

قراءة المزيد:

قراءة في كتاب الشاذلي القليبي الجديد: شيخ التسعين يجادل شباب الثورة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.