قراءة في كتاب الشاذلي القليبي الجديد: شيخ التسعين يجادل شباب الثورة
أصدر الأستاذ الشاذلي القليبي منذ أيّام عن دار الجنوب للنشر أحدث كتبه وعنوانه «تونس وعوامل القلق العربي»، فيه مجموعة تأمّلات وتحاليل ثاقبة للتحوّلات الاجتماعية والثقافية والحضارية التي عاشتها تونس منذ الاستقلال. وهي نابعة من كاتب عايش مختلف مراحل بناء الدولة الحديثة وتقلّد فيها أعلى المسؤوليات التنفيذية والسياسية وشارك في مختلف الحكومات المتعاقبة، كما انتخب على رأس الأمانة العامة لجامعة الدول العربية لثلاث دورات متتالية بعد انتقالها إلى تونس في ثمانينات القرن الماضي.
فالنصوص الواردة في الكتاب تتّصل بعديد اهتمامات المجتمع التونسي، وتلقي بعض الأضواء، بالخصوص، على أزمات الثورة التونسية في بحثها عن التجربة الديمقراطية الخاصّة.
وقد شدّني اهتمام الكاتب – وهو تجاوز التسعين من عمره أمدّ الله في أنفاسه – بهموم المجتمع التونسي اليوم حيث أنّه مجتمع ذو غالبية من الشباب، يواجه عالم متناقضات الثورة وأخطائها وأزمات الاقتصاد والبطالة، ونكسات التعليم، وانحدار منسوب ما أنجزته دولة الاستقلال في مجالات الصّحة والعمران والتقدّم الاجتماعي وغيرها.
لذلك قرأت باهتمام خاصّ لا يخلو من فضول تلك الصفحات الخمسين التي اسماها شيخ التسعين عاما «من وحي أيّام الثورة» وكأنه يزرع الشكّ في ما يرى ويسمع، ويطرح التساؤلات، ويصرّ على مشاركة شباب هذه البلاد واقع أيّام تونس المضطربة ويعلن لهم أنّه يفكّر فيهم ويواكب تناقضاتهم وسلبيات أحلامهم وهشاشة مؤسّسات دولتهم، ويقدّم لهم التحليل القويم ويقترح عليهم بعض البدائل للعلاج.
وقد استرعى انتباهي كذلك إصرار هذا الشيخ الفذّ على محاولة إبلاغ الشباب المتمّرد رأيه وتحاليله العميقة المستمدّة من تجاربه وثقافته في شؤون الدين والدنيا.فتحدّث معهم عن المرأة والحجاب والهويّة، وفسّر لهم معاني الدين الحقّ كما يراها، وأوهام الهويّة الزائفة محذّرا من «... بوادر هجرة حضارية وما يتبعها من عقد نفسية ومن ارتباكات اجتماعية تنمّ عن كراهية للذات أو عن رغبة في الابتعاد عن الأباء والأجداد...» ( ص 28)
ثمّ تناول مختلف المواضيع الشائكة بأسلوب أدبيّ راق يذكّرك بعمق لغة المسعدي وصفاء لغة طه حسين.
وبالرغم من انقطاع الأستاذ عن التدريس منذ الخمسينات فإنّه مازال متمكّنا من أسلوب بيداغوجي عالي المنال يوصل معاني الشرح والنقد إلى أعقد مسائل السلوك في الفكر والسياسة في تونس اليوم، إذ يؤكّد على أهمية الاعتدال والحرص «على وضع ضوابط للثورة»، فيقول في نهاية هذا الفصل الممتع: «... فإن كنّا بثورتنا نصبو إلى أن نطلق رسالة حضارية، فينبغي أن تتضافر جهود الجميع، لجعل صورة ثورتنا وضّاحة، مشرقة لا مدعاة إلى التّمز\ّق المجتمعي، أو التناحر الداخلي فتكون لذلك قدوة لغيرها...» ومن فصل آخر من الكتاب كرّسه الشاذلي القليبي لتناول «الإسلام في مواجهة العصر» يتساءل بكلّ جرأة: «هل ما زلنا أمّة ؟»، ويمضي يشرح مسيرة الاعتدال في الإسلام وسماحة تعاليمه فحضارتنا ، كما يقول «... أليست هي التي أمرت بطلب العلم ولو في أقاصي الأرض، وأمرت بالاجتهاد في المقاصد، وبإقامة العدل القضائي بكلّ حزم وإنصاف، وبنشر العدل الاجتماعي بأريحية التضامن وبالمساواة بين أفراد المجتمع...» (ص 92).
كنت دائما أتساءل في نفسي ، وأحيانا مع الكاتب مباشرة أثناء حواري معه بصورة متقطّعة من حين لآخر، ما الذي يجعل هذا المفكّر الطاعن في السنّ والوزير السابق الذي وصل إلى أعلى قمم النجاح منجذبا ومهتمّا إلى هذا الحدّ بكلّ ما يجري من حوله اليوم في تونس؟ فهو يريد الاطّلاع على أحدث ما صدر من الكتب، ويجادل في أهمّ ما جاء من حوارات ومناظرات عند المثقفين والسياسيين، وكثيرا ما يمعن الفكر المقارن في كلّ ما يقرأ ويسمع، وكثيرا ما يسعى إلى ملاقاة من اهتمّ برأيهم في مسيرة الدولة وأروقة الإنتاج في شتّى الفنون والأداب.
لذلك فهو ينصت باهتمام وكثيرا ما يستقبل في بيته العديد من الشخصيات من ذوي الاتّجاهات المختلفة ويستحضر معهم أدقّ الأحداث والمواقف بفكر ثاقب وعمق هادئ ، وأحيانا بنوع من الفكاهة الخفيّة الممزوجة بالنكتة المستترة والناقدة، وهو سلوك أدركت، بعد متابعة وممارسة، أنّه ينطوي على الكثير من عفّة النفس واللسان، ولمست من خلاله هذا المزيج الذي أولدته عنده سعة ثقافتيه العربية والفرنسية، مع الحذر الديبلوماسي والسياسي الذي ورثه من مسيرته الطويلة وسط عواصف السياسة التونسية والعربية والدولية، حتّى أنّني كنت أحيانا أنتقد صبره على الضيم من أقوال وأفعال القريب والبعيد، وتجاوزه لصعوبات وعراقيل الصراع السياسي والأحقاد النفسية العارضة...
وعند الاطلاع على مختلف فصول هذا الكتاب أخالني أقرأ فيه بعض مذكّراته لما عايشه من صراعات داخل الحزب الدستوري، والاتحاد العام التونسي للشغل إبّان حركة التحرير الوطني وما تلاها من سنوات الحكم والغدر والخيانة أحيانا، وكذلك ما كابده في مختلف الوزارات في ظلّ زعامة بورقيبة، وقد ظلّ يناديه حتّى يومنا هذا باسم «المجاهد الأكبر». رغم معارضته الضمنية والدفينة والصامتة دوما تجاه الكثير من السياسات المرتجلة، مثل سياساته التربوية ونظرته للتعليم الزيتوني المتعجّلة، وبعض مواقفه الحادّة تجاه تعاليم الدين، وفي بعض أساليب الحكم في الأقاليم الداخلية وكذلك تصفية الخصوم بصورة مزاجية بما في ذلك بعض المواقف المؤلمة من أسرة البايات...
إنّ الأستاذ الشاذلي القليبي في هذه الفصول قرّر أن يقول – حسب رأيي- الكثير من الأشياء دون جلبة أو تبجّح أو ضوضاء، فهو ينتقد دون أن يحرج، ويأتي نقده باردا لاذعا لأوضاعنا بالأمس واليوم ، كما يأتي هذا النقد في صورة رسالة مستترة ملفوفة بنوع من عفّة النفس واللسان ، وذلك عن دون قصد تجسيما لجزء من تكوينه وتربيته الدينية والفكرية الهادئة.
وفي اعتقادي سوف يكون هذا ا لكتاب مرجعا تاريخيا يوثّق تطوّر الحالة الفكرية لنظرة جيل الشاذلي القليبي إلى تاريخ البلاد طيلة قرن تقريبا، حيث استطاع المؤلّف من خلال التمكّن من موهبة الكتابة ومن سلاسة اللغة وعفّة اللسان أن يكتب شيئا متوجّها للمستقبل الذي ستعيشه الأجيال من بعده. وقد تتوّفر لهم الذاكرة المتحضّرة ليعيدوا قراءة أمثال هذا الكتاب.
أحمد الهرڤام
- اكتب تعليق
- تعليق