أخبار - 2020.01.21

قراءة في كتاب الشاذلي القليبي "تونس وعوامل القلق العربي"

 قراءة في كتاب الشاذلي القليبي "تونس وعوامل القلق العربي"

ما أصعب الكلام على الكلام خاصّة لمّا يكون الأثر المراد تقديمه لكاتب ومفكّر بمثل مكانة الأستاذ الشاذلي القليبي الذي يعتبره الأستاذ عبد العزيز قاسم في التوطئة -وهو محقّ في ذلك - أحد صاغة الأدب في مفهومه العبّاسي الكلاسيكي!   
سأحاول التصدّي لهذه المهمّة الصعبة من خلال تسليط الضوء على الفصل الأوّل من الكتاب وعنوانه "من وحي أيّام الثورة" لأُبديَ، إثر ذلك، بعض الخواطر عن أسلوب الكتابة عند الشاذلي القليبي. فالأسلوب مدخل مهمّ لاستكشاف جوانب خفية في شخصية الكاتب، والأسلوب، كما يقول le Comte De Buffon،الإنسانُ ذاتُه. 

اخترت التعليق على هذا الفصل، ففيه يخوض الأستاذ الشاذلي القليبي للمرّة الأولى وبتوسّع في موضوع الثورة ويدلي بدلوه بشأنها.وقبل قراءة هذا الفصل كنت أتساءل : كيف سينظر إليها الكاتب وهو الرجل التسعيني صاحب التجربة السياسية الطويلة والقارئ الجيّد للتاريخ؟ وأيّة استنتاجات سيستخلصها من متابعة مسارها بعد أن توفّرت له مساحة زمنيّة كافية لتقييمها؟ 

مقاربة الشاذلي القليبي للثورة

عندما لا يضع الأستاذ الشاذلي القليبي كلمة ثورة بين ظفرين، كما دأب عليه البعض، فإنّه لا ينزع عمّا جدّ في تونس في 14 جانفي 2011 وفِي بلدان عربية أخرى، صفة الثورة، بل يذهب إلى حدّ القول من البداية "إنّ مجتمعاتنا العربية في حاجة إلى ثورة، بالقول والفعل لتصحيح ما هي عليه من توجّهات اجتماعية والخروج من أنفاق الفساد المستشري في أركان الكثير منها والذي كان من أسباب البطء في نموها". بيد أنّه يتساءل : "هل كان لزاما أن تتّخذ الثورة عندنا هنا وهناك صيغا عنيفة وأحيانا هدّامة تجعل مجتمعاتِنا في ارتباك يقارب الفوضى وتجعل البعض منها في تناحر داخلي وانهيار لأغلب مؤسّسات الدولة؟".

ولا يُخفي الأستاذ الشاذلي القليبي انزعاجه من تفشّي العنف بعد الثورة فينتقد ظاهرة تقليد بعض الشعوب المتقدمة حتّى في فيما كان فيها من ثورات مضت عليها أحقاب- ويقصد بالخصوص الثورة الفرنسية والثورة البلشوفية -، مؤكّدا أنّ تلك الشعوب إنّما توخّت أساليب التدمير لأنّها كانت إذّاك في تخلّف وفِي جهل وتفكّك ولم يكن لها ما به رفع الضيم عنها سوى هدم نُظم مشنوءة".

ويعتبر الأستاذ الشاذلي القليبي أنّه "كان بالإمكان إدخال إصلاحات على نظم الحكم دون تقويض لمؤسّسات تطلّب بناؤها جهودا طويلة وأموالا طائلة". لكنّ وجهة النظر هذه قد يدحضها أصحاب الرأي القائل بإنّ كلّ ثورة تعقبها بالضرورة مرحلة هدم لما سبق قبل دخول مرحلة إعادة البناء.

غير أنه يقرّ بأنّ الثورة "مكّنت المجتمع في بعض المجالات من فرص التطور ومن التحلّل داخل الضمائر من ربقة الرقابة داخل الضمائر، من ذلك أنّها فتحت أمام الإبداع الثقافي آفاقا جديدة وحرّكت في الإعلاميين سواكن لم تكن تطفو إلى مستوى الضمير الإنشائي وإن كانت الإنجازات إلى حد الآن دون ما كان منتظرا".

يقارب الكاتب الثورة مقاربة سوسيولوجية وحضارية فينظر إليها من زوايا متعدّدة:

زاوية أداء الإعلام

وزاوية العمل الثقافي

وزاوية الدورالموكول للمنظمات الوطنية والمجتمع المدني في إنجاح مسار الثورة

وزاوية ما هو محمول على الطبقة من مسؤولية في صيانة الثورة من أيّ انحراف عن مقاصدها.   

الإعلام والثورة

قبل تقييم أداء الإعلام بعد الثورة يبدأ الأستاذ الشاذلي القليبي بالإشارة إلى أنّ وظيفة هذا القطاع ينبغي أن تكون "آخذة بالتزام الدفاع عن قيم أو تحقيق مبادئ نبيلة أو التصدي لمظاهر من الفساد وفِي حدود هذه الوظيفة ودون انغماس في ترّهات الشغب المعطّل لقيام الدولة بوظائفها"،معتبرا أنّ حقّ الإعلام في مراقبة السلط العمومية وانتقاد سلوكياتها، ولكن في حدود الاحترام الذي يراد له أن يكون متبادلا بين مؤسّسات الإعلام ومؤسّسات الدولة، يرتبط بتمسّك الإعلام بضوابط مهنية وأخلاقية صارمة.

وإذ يؤكّد أنّه لا يجوز مهنيا وخُلقيا الاحتذاء دوما بالإعلام في البلاد المتقدمة باعتبار أنّ القدوة له،نظرا إلى أنّ فئات شعبية من مجتمعاتنا التي لا تزال بقايا التخلف راسبة في أوضاعها ليست دائما قادرة على التمحيص أو استخلاص العبر، فإنّه يدعو إلى اجتناب التشهير والإسراف في التفصيل لأحداث السوء والمبالغات التي يراد منها جلب اهتمام الجماهير- ويقصد هنا ما اصطلح على تسميته بـالـ buzz إذ قد يعطي هذا المنحى "الرأي العام الأجنبي عن أهل البلاد صورا لا ترغب في التعامل معهم في مجالات لها أهمية حيوية والبلاد في حاجة إلى مستثمرين من الخارج".

وبعين الخبير الذي تولّى مسؤوليات عليا في قطاع الإعلام ، مديرا عاما للإذاعة ووزيرا مشرفا على هذا القطاع لسنوات عديدة، يشير الأستاذ الشاذلي القليبي إلى انفلات بعض الإذاعات الحرّة  "حتّى قيل أنّها تجاوزت الحدّ المعقول الذي يبقى معه النقد جامعا بين المفيد والائق" وينتقد ميل التلفزات إلى إعطاء الأولوية للأحداث الاجتماعية على حساب الأخبار السياسية "لأنّ الشأن السياسي غالبا ما يتحكّم، في نظره، في الشؤون الاجتماعية والاقتصادية ، فالمقصود من الطريقة الجديدة في تقديم الأخبار وهو الابتعاد عن مظاهر التزلّف كان يمكن أن يحصل بتغيير طريقة العرض وجعلها منصبّة على الوقائع ولا تتناول الشخصيات القائمة عليها إلا بقدر اللازم".

أما بخصوص الصحافة الالكترونية -ولعلّه يقصد وسائل التواصل الاجتماعي- التي وصفها بـ"البدعة الحديثة الحسنة السيئة الوخيمة في كثير من الأحيان" فإنّه يرى أنّه ينبغي بعد استعمالها عند قيام الثورة لإسقاط النظام "أن يتقيّد مستعملوها بضوابط وقيم ، كما ينبغي الاحتراس من لجوء أصحاب المآرب إلى استعمالها لأغراضهم الخفيّة.

ويتناول الكاتب أحوال الصحافة المكتوبة، فيلاحظ أنّ من أهمّ مشاكلها تبعيتها للخارج، إذ "معظم المادّة الخارجية التي تعمل عليها معظمها آت من مجتمعات أجنبية دولها هي المهيمنة على القضايا الدولية".

ويضيف أنّ ترجمة الموادّ كثيرا ما تشوبها الشوائب فتأتي التعابير، في تقديره ، من الثقل أو استعصاء الفهم بحيث تبدو كأنّها مترجمة لا صادرة أصالة عن قلم عربي مُبين، وهذا، في رأيه،قضية حضارية لأنّها مرتبطة بما لا تزال عليه مجتمعاتنا من قصور في بعض المجالات.

كما يشير إلى تكاثر الأخطاء اللغوية في معظم الصحف التونسية وهي صورة من المجتمع "فلغة الصحافة عندنا، كما يقول، تهلهلت أغلب تراكيبها والعديد من ألفاظها".
ويعتبر أنّ "مستقبل الصحافة المكتوبة مرتبط بإصلاحات هامّة ولكن تدريجية بأن تسعى لنشر مقالات سياسية وثقافية عالية إلى جانب التحسّن الدائم في الشكل وفِي اللغة وفِي الأسلوب وأنّ الاستعداد لهذا التطوّر يقتضي أن تجعل صحافتنا انتداباتها المهنية متجهة إلى الآن إلى أصحاب الشهادات العليا وأن تختار لمقالات الراي والتحليلات السياسية والاقتصادية خاصة ، من ذوي المعرفة والخبرة المشهود لهم بالكفاءة".

ولم يفته أيضا التطرّق لمسألة ازدواجية الدارجة والفصحى، ملاحظا أنّ الفصحى استأثرت بالاهتمامات الفكرية وأنّ الشواغل العائلية والاجتماعية انحصرت في حضيرة الدارجة فلحق من ذلك في كلا اللسانين، وفق تعبيره، ضيم يجعل الفصحى معزولة عن الواقع والدارجة محرومة من تطلّعات الفكر والثقافة".

العمل الثقافي والثورة

أمّا العمل الثقافي، بعد قيام الثورة، فهو لا يزال إجمالا، وفق تعبيره، دون الممكن، ودون ما يحتاج إليه المجتمع رغم ما تحقّق من إبداعات مرموقة، جديرة بالتنويه فالعمل الثقافي معين طاقاته فكر وفنّ، مع سعة البيان.

ويبيّن أنّ المنتظَر من الفكر تقييمُ الواقع الوطني وسبرُ مدى ارتباطه بالقيم الحضارية ثم تهيئةُ المنافذ فيه لطموحات المستقبل، إذ  بعمليّة السبر هذه والتقييم يتأكد تطوّر الشعب أكثر فأكثر إلى مجتمع واع وفاعل.

ويعتبر الأستاذ الشاذلي القليبي أنّ دور الفنّ يتمثّل في "توفير سَعة الانشراح وإيقادِ الخيال وتحريكِ المشاعر المنعشة -حوارٌ مع أعماق الذاتية الجماعية وإثراءٌ لأريحيتها الجمالية،  وتحريكٌ لطاقاتنا الإبداعية مع ما الحفاظ على أصالتها التليدة".

وينتهج المؤلَّف في هذا الجزء من الكتاب مسلك عالم الانتروبولوجيا الذي يرصد الممارسات الاجتماعية والثقافية والظواهر السيكولوجية فيحلّلها ويطرح الأسئلة حول خلفياتها ودوافعها. وفِي هذا السياق يتوقّف عند موضة غطاء الرأس الرجالي (الكسكات) بعد الثورة قائلا : "ألا ينبغي أن نتساءل لماذا عكف هؤلاء على تغطية الرأس بهذا الشكل سواء كانوا في شوارع المدينة أو في قاعات مغلقة؟ إنّه يساورني الخوف أن يكون في طيّ هذا السلوك رغبة خفية في الانتماء إلى غير الذاتية الأصلية وأن يكون فيه توجّه إلى نزع جملة من الأمور "القديمة" بها شخصية مجتمعنا فتكون بوادر هجرة ثقافية وما يتبعها من عقد نفسية ومن ارتباكات اجتماعية". وعلاج هذه الظاهرة ، في رأيه، لا يكون بالنهي بل بنشر ثقافة تؤلف بين الشباب ومنزلته وبين المرء وأهله وبين المواطن ووطنه وبين المسلم ودينه. ثمّ يتطرّق إلى التغيّر الملحوظ في غطاء الرأس النسائي باعتباره مؤشّرا لتحوّل في السلوك الاجتماعي في علاقة بتقاليد المجتمع، فيشير إلى أنّ رجوع جموع متزايدة من النسوة  إلى "التقريطة" التي كانت من لباس الأمّهات والجدّات، ومنهن اللاتي يتنقبن : فيتساءل : هل في ذلك تمهيد لاسترداد عادة الحجاب أو لاستيراد ما ليس من عاداتنا؟، قبل أن ينبّه إلى أنّ المجتمع آيل دون شكّ إلى مناهج من الهجرة الحضارية قد تؤدي إلى ما ليس في تلاؤم مع العريق من التقاليد الوطنية، إذا دامت هذه الحالة .

وفي أكثر من موضع في الكتاب يشدّد الأستاذ الشاذلي القليبي على ما تشكّله "الهجرة  الثقافية"من خطر على أصالة المجتمع، مستعملا ردفين آخرين لهذا المتصوّر هما "الاغتراب الحضاري"و"اليتم الحضاري".

تحديد ضوابط للثورة

ويحدِّد الأستاذ الشاذلي القليبي للثورة ضوابطَ حتّى لا تنحرف عن مسارها السويّ فيبرز الحاجة إلى من يؤطّرها ويمسك بأسبابها ويبلور مقاصدها وإلّا فهي إلى تَباب، فضلا عن الانتقال بالسرعة المعقولة "من الأوضاع المثيرة للغضب إلى ما ترتاح إليه النفوس أو ما يؤيده أصحاب الرأي"، إذ يُخشى ، في رأيه ،إذا طالت مرحلة الانتفاض "أن تؤول الأمور إلى عكس ما كان يرام،وقد تنتكس الأحوال إلى أسوأ مما كانت عليه وكأنّ بعض أقطارنا سائر نحو ذلك : فيصير ما سمي بالثورة انتفاضات وفورات من الهرج والمرج". كما يؤكّد أنّ من واجبات العمل الثوري أن لا يمسّ بهيبة الدولة بعد إدخال التعديلات اللازمة وما تقتضيه المصلحة  و"اجتناب عقلية البيليك"، موكلا للإعلام وللمجتمع المدني مسؤولية الإسهام في الحفاظ على هيبة الدولة.

وإذ يشيد المؤلَّف بدور الاتحاد العام التونسي للشغل السياسي والاجتماعي قبل الاستقلال وبعده وبدوره ضمن الحوار الوطني فإنّه يتمنّى" لو يعمد الاتحاد إلى ما فيه التصالح مع سائر مراحل تاريخه المجيد الذي أرساه فرحات وأنقذه من التلاشي بن صالح بعد اغتيال حشّاد ورعاه المجاهد الأكبر مهما كانت مقاصده".

كما يبيّن أنّه "لو تولّت المنظّمات الاجتماعية تأطير الثورة لكان عاملا إيجابيّا لاستبعاد الكثير من مخاطر الفوضى ومن دواعي القلق والحيرة"، معتبرا أنّ غياب الوفاق الوطني هو من أهمّ أسباب العجز عن معالجة النزاعات، ومؤكّدا أنّ "ممّا يعزز الثورة اليوم أن يتصدّى المجتمع المدني لقيادة الحِراك الاجتماعي في إطار توجّهات عامة تكون تمّت مقاربة ملامحها الإجمالية بتوافق بين سائر المنظّمات الاجتماعية".

مخاطر الاستقطاب الثنائي

ومن دواعي القلق والحيرة، في نظر الأستاذ الشاذلي القليبي، أنّ "العمل الثوري يتعرّض حتما لركوب موجته من قبل تيّارات حِراكية لم يُقرأ لها حساب وقد يزيد طروؤها في تعقيد الأوضاع"و"قيام مجموعات ذات منازع تدّعي صفةً دينية -متمسّكةً غالبا بشكليات من الدين غير جوهريّة-وما أثار التحاقها بالثورة من ردود فعل بعضها أيضا على درجة من المغالاة: كلّ من هذا وذاك أفضى، من جهة إلى جعل فئات واسعة من المجتمع تتجاوب مع هذه الدعوات الطارئة، لمظّنة أنّها تقوم بواجب الدفاع عن الإسلام، وإنّما هو الذي جعل من جهة أخرى فئات، ربما أكثر فعالية ترى في تلك التكتلات قوى"رجعية" تخشى أن يكون فوزها بالنفوذ السياسي فاتحة مخاطر على مصير البلاد الحضاري وعلى ما انتهجته خاصة منذ الاستقلال من رقي اجتماعي وتفتّح ثقافي ونهوض إنمائي.

ويرى الكاتب أنّ " في انقسام الرأي العام بين تكتّلات إسلامية وأحزاب ذات نزعات "تقدمية"مخاطرَ في هذه المرحلة من الاستعداد للبناء".

وينتقد الأستاذ الشاذلي القليبي بشكل غير مباشر لا يخلو من طابع بيداغوجي هذا الاستقطاب الثنائي في الساحة السياسية فيقول : "فإذا أيقن قادة أحزابنا أنّ الإسلام حضارةً منغرسٌ في العقول والسلوكيات وأدركوا أنّ جوهر الإسلام الاجتماعي إنّما هو خصال فكرية وقيم أخلاقية ومكارم اجتماعية فهم يدركون إذّاك أنّ تسميةَ بعضها بالانتساب إلى الإسلام محاكاةٌ لمجتمعات أوروبية تحركات نزعات مسيحية في مجتمعات انسلخت عن دينها- لا يتلاءم مع أوضاعنا مثلما هو واقع في الكثير من المجتمعات الغربية : فلا يجوز لمجتمعاتنا الاقتداء بها في انتحالها "العَلمانية"منهجا.

الإسلام والحداثة

ويتناول الكاتب في هذا السياق مسألة في غاية الأهميّة وهي العلاقة بين الإسلام والحداثة فيوضّح  أنّ الخيار المفتوح أمامنا حاليا ليس بين الإسلام والحداثة وإنّما هو بين صيغ يعود بعضها بل والكثير منها إلى عهود الانحطاط والتغافل عن مناقب الإسلام وبين حداثة مستوردة بعيدة عن مناخها الحضاري والمآل معها حتما تضاؤل الارتباط بحضارتنا الأصلية .

ويؤكّد مجدّدا أنّ" الخيار الصحيح الوحيد الذي يجب علينا التوجه اليه من أجل النهوض دون اقتباس لترّهات غير مجدية ولا تمسّك بشكليّات متقادمة إنّما هو إحياء مقاصد حضارية كانت مشرقة عندنا وهي عند النظر والتحليل لُبُّ ما يسمى اليوم بالحداثة".

ثمّ يتساءل : "وهل يجوز أن يجهل الشباب عندنا أنّ حضارتهم هي التي ربطت بين الدواعي الروحية والشؤون الدنيوية دون إهمال لأيّ مستحقات أيّ منهما ودون شطط وهي التي أعلت من شأن المرأة وأنما تعطل هذا التطور لأسباب تاريخية".
ويقود تناول مسألة العلاقة بين الإسلام والحداثة الأستاذ الشاذلي القليبي إلى الخوض في مسألة أخرى لا تقلّ عنها أهميّة وهي مسألة الاجتهاد في الإسلام فيتوقّف مطوّلا عند قضية الحدود، مبيّنا أنّ "التنصيص على عقوبات بدنية جاء في آيات من غير المحكم وهي خاصّةُ بوقتها ومكانها وليس لها مطلق التنفيذ فالإسلام كان متّجها عند قيام دعوته إلى شعب جاهلي في أغلبه ولئن هو سايره في بعض الأمور قصد الاستدراج فذلك كان يتوخّى طريقة المراحل التي بها فتح السبل إلى ما هو أفضل"، مضيفا أنّ "أحكام الشريعة تكون بحسب فهم مقتضيات الحضارة الإسلامية في كل عصر".

ويؤكّد أنّه "لا بأس من تعليق العمل بأحكام الآيات المتشابهات المرتبطة بظروف خاصّة أو بمصالح غير ثابتة ، عند ظهور المصلحة.

وضرب مثالا على ذلك قرارَ بورقيبة تعليق العمل بتعدّد الزوجات بعد استشارة من كان يثق بعلمهم،ومنعه بالقانون.

ويوضّح أنّ مقاصد الاسلام تدعو إلى الاجتهاد على هذا النحو في تطوير وظائف ديوان الإفتاء وصلاحيات المجلس الإسلامي الأعلى وبرامج الجامعة الزيتونية لتكون تونس دوما أحد أهم ّمراجع الفكر الإسلامي وملاذ الكثيرين من خارجها كما كانت فيما خلا من عصور، داعيا العلماء لزيادة غربلة الحديث وإمعان النظر فيه "لتبيّن ما يبدو لهم من أحوال الوضع أو من سوء فهم الرواة".

الاجتهاد في الإسلام

وفي تفاعل مع تنامي النزعة الجهادية لدى التيارات المتعصّبة دينيا، يعتبر أنّ مراعاة المقاصد الإسلامية في ذاتها "قد تكون مانعة للحروب والفتن وقد تجعل الشعوب في غنى حتى عمّا يسمى اليوم الجهاد بمعنى مصارعة العدو بالسلاح فيكون أيضا بسلاح الفكر والعقل فليس الجهاد ما قد تدعو اليه شرذمة من المتعصبين يحسبونه ذودا عن الإسلام وهو فتنة، والإسلام تصيبه المصائب نتيجة ما يدعون اليه"، وفق تعبيره.

يتجلّى لنا من خلال هذا الطرح، تمسّكَ الأستاذ الشاذلي القليبي بالمنزع المقاصدي والاجتهادي في الإسلام، ممّا يجعله دون منازع واحدا من أبرز رموزه وعلما من أعلام التجديد الفكرى في تونس والعالم العربي والإسلامي.

ومن الشروط التي يحدّدها المؤلَّف للفوز بنتائج في مواجهة التحديّات الحضارية المترابطة في علاقة بالثورة الأخذُ بالاعتدال في المطالبة المادّية والاتزانُ في الطموحات الاجتماعية والتزامُ الساسة جميعا بضوابط الصالح العام دون ارتهان بالأغراض الحزبية أو التقيد بالانتماءات الجهويّة فضلا عن الارتباط بمصالح أجنبية، وتنازلُ أصحاب المصالح الاقتصادية إسهاما في تنقية الأجواء الاجتماعية ويشير إلى أنّ من أخلاقيات الوطنية الحقّ أيضا أن تتحمّل منظّمة الشغّالين مسؤولية الدفاع عن مصالهم من داخل منطق وطني ينظر إلى الواقع ويقرأ للمستقبل حسابه.

التعليم قضية محورية

ولم يفت الأستاذ الشاذلي القليبي كذلك الخوض في الدور الموكول للتعليم في كسب الرهان الحضاري، معتبرا أنّ التعليم اليوم ينبغي أن يكون قضيَتنا المحورية،  فلا بدّ ، في تقديره، من إيلائه أقصى الاهتمام" لاحتياج المجتمع إلى نخب غير غرباء عن لغتهم غير ناشزين عن ثقافتهم،غير نازعبن عن حضارتهم وقادرين عن التمييز في كل قضية بين ما هو اللبّ الثابت وما هو أعراض الزمان وقشور المكان" ..."مجتهدين في جعل مجتمعهم متفتّحا على سائر الحضارات الانسانية أخذا منها ما يفيد دون استعلاء أو غرور ولا تقليد أعمى".

ويؤكّد ضرورة "أن يكون إصلاح التعليم نتيجة تداول عميق ومستمر مع أهل الشأن بالاستنارة بذوي الخبرة وبالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وباستشارة أهل الفكر" قصد "صقل العقول وإيقاظ الضمائر، وتوجيه الشباب إلى مناهج الابتكار والابداع لكن بحسب ما تشير به الأخلاق وتتطلّبه المصالح ويتماشى مع روحية حضارتنا، وذلك ما يعبّر عنه بورقيبة بتغليب الأهم على المهمّ".

وقد كانت كلّ المسائل الآنفة الذكر والتي تناولها الأستاذ الشاذلي القليبي بالتحليل والتمحيص بعين الملاحظ اليقظ وبعقل المفكّر الواعي بخطورة التحديّات الراهنة مدخلا للتنبيه إلى المخاطر التي تترصّد الثورة والتي يذكر من بينها تراكَم المبادرات الارتجالية والخلطَ بين ما هو من مقاصد الثورة والمآرب الفئوية -وهو ، حاصل في تقديره، بدافع أهداف حزبية أو لخدمة أغراض خفية- وخوضَ الأمنيين غمار المعترك الساسي -إذ أنّ مشاركتهم في الانتخابات تجرّهم حتما إلى الدخول في الجدل السياسي-، علاوة على فرض اختيارات حضارية خاصّة بطبقة معينة حتما ضيقة مهما كان نوعها أو انتسابها ومهما كانت مقاصدها.

ودرءُ هذه المخاطر التي تهدّد المسار الثوري ، هو في نظره، شرط ثبات الثورة وشرط فرض التصحيحات الحضارية المرجوة وشرط توفّقها إلى سدّ التكتّلات الإرهابية المتسرّبة من الخارج.

لعلّ عنوان الكتاب خيرُ ترجمان لحالة القلق الذي يشعر به المؤلَّف وهو يمعن النظر في أحوال المجتمع التونسي وسائر المجتمعات العربية، قَلقٍ محفّز على التأمّل والتفكير وعلى الحوار والنقاش،وفي ذلك تكمن أهميّة هذا الكتاب.   

أسلوب الكتابة عند الشاذلي القليبي

نصّ الشاذلي القليبي، لا يحتمل في تقديري،  القراءة العابرة السريعة، إذ هو يحاورك في كلّ موضع من مواضعه، ممّا يستوجب من القارئ المتيقّظ التوقّف أحيانا عند كلّ جملة وعند كلّ فقرة  للتمعّن في معانيها -بما تتميّز بها من كثافة وعمق- لاستكشاف دلالاتها واستنطاق المسكوت عنه بين السطور ، إذ أنّ الأستاذ الشاذلي القليبي غالبا ما يركن إلى الإيحاء الذي يفضّله على الخطاب المباشر المبتذل، والإيحاء أسلوب لا يحذقه إلا المؤلَّف المتمكّن من قواعد البلاغة وتقنيات الكتابة. وهذا الأسلوب يجعل الكتاب أثرا مفتوحا ومتحِوّلا يمنح القارئ أو المؤوّل أو الناقد مساحةً لا متناهية من الحريّة الواعية بشبكة العلاقات التي لا تنتهي داخل النصّ. وانفتاح الأثر الأدبي أو الفنّي على قراءات متعدّدة وزوايا تحليل مختلفة هو من شروط الإبداع ، كما يبيّن ذلك أومبرتو إيكوفي كتابه "الأثر المفتوح (L'œuvre ouverte).

غير أنّ نصّ الشاذلي القليبي ليس على الذهن مستغلَقا ولا على الفهم مستعصيا، بل هو جليُّ المعاني واضحُ الرسالة لا غموض فيه ولا لَبْس. فهو يُقرؤ بتأنّ ليُتذوّق لأنّه مصدر إمتاع ومؤانسة، لما يتّسم به من جزالة اللفظ ودقّة التعبير وأناقة الأسلوب وتفنّن في استعمال المحسّنات البديعية،وحسن تعامل مع الجمل الاعتراضية التي تطيل نَفَس الكتابة في غيرِ ثقل أو تمطيط ، فضلا عن عذوبة الإيقاع وجمال التركيب.

والكتابة عند الشاذلي القليبي تخضع لقواعد هندسية صارمة تقوم على التناظر والتوازن بين أجزاء الجملة فيأتي البناء متناسقا بديعا لا عيوب فيه ولا اعوجاء .. بناءٌ إذا ما أطال القارئ فيه نظره شعر بلذّة روحية خالصة وتملّكت وجدانَه نشوةٌ غامرة، تداعب النفس فتبهجها وتلامس الذوق فتذكيه.

وإذا كان نصّ القليبي على هذه الدرجة من الإتقان فلأنّ صاحبه ينطلق من متعة الكتابة المفضية إلى لذّة النصّ. أليست الكتابة، كما يقول رولان بارت علمَ مباهج اللغة؟  

ولا غرو أن تكون للشاذلي القليبي هذه الموهبة الأدبية الفائقة، وهذا الحسّ الجمالي والنقدي المرهف، إذ هو نـتاج المدرسة الصادقيّة التي تتلمذ فيها لأعلام أفذاذ من أمثال الشيخ محمّد الزغواني أستاذِ الفقه والتشريع الإسلامي والعلّامةِ النابغة محمّد الفاضل ابن عاشور والأستاذـ الكبير أحمد عبد الوهاب بكير والأديبـ المبدع محمود المسعدي القليبي، فقد تعلّم من هؤلاء قواعد العربية وثنائية السبك والحبك في اللغة والأدب، قبل أن يلتحق بجامعة الصربون حيث انفتحت أمامه آفاق أرحب ليستكشف ، وهو المتمكّن من الثقافتين العربية والفرنسية، تجارب جديدة في النثر والشعر ومناهج مستحدثة في النقد الأدبي.

والعديد من نصوص القليبي ومنها ما هو وارد في كتابه "تونس وعوامل القلق العربي" لحقيقة، في نظري، بأن تدرج ضمن مختارات النصوص الأدبية التي يدرسها التلاميذ والطلاب، مثالا للمنهج العقلي في تناول قضايا حضارية معقّدة تبعث على التفكير والتأمّل، وأنموذجا مهمّا في مجال الأسلوبية وتحليل خصائص الخطاب ومضامينه.   

وأودّ أن اختم هذا التقديم بطرفة أوردها الكاتب والروائي المنوبّي زيّود في تدوينة له على الفايسبوك : "لقيت شخصا ثريّا لا هدف له إلا جمع المال .سألني : هل ما زلت تكتب ؟ سألته : هل قرأت كتابا لي ؟ أجابني: أنا لا اقرأ الكتب .استدعاني لشرب قهوة فاعتذرت . تذكّرت المقامة المضيرية لبديع الزمان الهمذاني .رثيت لحال ذلك الغنيّ بماله، الفقير في عقله وروحه وتذكّرت طرفة حكاها لي الصديق المرحوم الجيلاني بن الحاج يحي قال :كنت ألتقي بأشخاص لا يتحدّثون إلا عن المال . أحدهم يقول : لي ثلاثون مفتاحا في الشارع الفلاني وآخر يفتخر بأنّ له خمسين مفتاحا أيّ خمسين محلّا للتجارة أو للسكنى في المكان الفلاني . ثم يسالني أحدهم : وأنت يا الجيلاني ؟فأجيبه : لي سبعة وعشرون مفتاحا .فيسألني بلهفة: أين ؟ فأجيبه : في المكتبة الوطنية بأحد رفوف الكتب".

ما نعرفه جميعا عن الأستاذ الشاذلي القليبي أنّه ليس من هواة جمع المال أو اقتناء العقارات، شأنه شأن المرحوم الجيلاني بلحاج يحي والعديد من الكتّاب والمثقفين في بلادنا، بل هو زاهد في شؤون الدنيا، وإن كانت له مفاتيح فكتبه ومنها هذا الإصدار الجديد.فنعم المفاتيح هذه التي تفكّ مغالق ما التبس في الأذهان وتفتح الأبواب مشرّعة أمام فهم أفضل لقضايا عصرنا. 

عبد الحفيظ الهرقام

قراءة المزيد

تقديم كتاب الشاذلي القليبي "تونس وعوامل القلق العربي"
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.