أخبار - 2019.12.19

مشهد سياسي مُتغيّر: أحزاب تندثـر وأخرى تـطفـو على السطـح

مشهد سياسي مُتغيّر: أحزاب تندثـر وأخرى تـطفـو على السطـح

مع نهاية سنة 2019، التي كانت سنة الانتخابات بامتياز، وبدايات سنة 2020  نلحظ أنّ المشهد السياسي مُقبل على تغييرات كبيرة، ستُؤثّر في الخارطة الحزبية، إذ أنّ الأحزاب الأربعة أو الخمسة الأولى في مجلس النواب، ستعقد مؤتمرات لتجديد قياداتها وهياكلها، فيما تعرضت أحزاب أخرى إلى ضربات قاصمة، مثل حزب «نداء تونس» الذي تحلَل جسمه وتفكّكت هياكله. أمّا الصنف الثالث فيتمثّل في الأحزاب التي لم تعد ممثلة في البرلمان، بالرغم من أنّها احتلت موقعا مهما في المجلس التأسيسي (2011-2014)، وشارك بعضها حتّى في الحكم.

لأن تميّزت حركة «النهضة» منذ تأسيسها في 6 جوان 1981 بتماسكها الداخلي وانضباط أعضائها، فإنّ استقالة أمينها العام زياد العذاري، لم تكن حدثا عابرا، أو خبرا في زاوية المتفرّقات. فالاستقالة شملت الأمانة العامة وعضوية المكتب التنفيذي عبر رسالة وجّهها الى رئيس الحركة، ونشر مقتطفات منها عبر صفحته على «الفايسبوك». ويمكن القول إنّ تلك الخطوة غير الاعتيادية في مسار الحركة (عدا استقالة الأمين العام الأسبق حمادي الجبالي في 2013)، أتت تعبيرا جديدا عن الصراع الدائر خلف أسوار الحركة في «مونبليزير»، بين تيّار يمكن تصنيفه في خانة البراغماتية، وآخر يمكن اعتباره محافظا أو أصوليا. وتجلّى هذا الاستقطاب في المؤتمر الأخير للحركة (2016) بنسب تقارب 70 في المائة للتيّار الأوّل الذي يشمل القيادة، و30 في المائة للتيار الثاني. لكن الأهمّ من ذلك هو أنّ الخلاف خرج إلى العلن، وصار أمرا واقعا في اجتماعات مجلس الشورى، بل وممرّا إجباريا لدى اتخاذ القرارات المهمّة. مع ذلك بقي المكتب التنفيذي مواليا لرئاسة الحركة، بعدما اشترط رئيسها في المؤتمر الأخير أن يكون فريق القيادة التنفيذية من «المنسجمين» معه والمقتنعين بخطه السياسي.

منحى ثوري؟

ربّما يكون العذاري من غلاة المدافعين عن الخط البراغماتي لرئيس الحركة، ويبدو أنّ هذا الشقّ كان مصرّاً على ألاّ يكون رئيس الحكومة المكلّف من الأعضاء البارزين في النهضة. لذا تضمّن نصّ الرسالة التي وجّهها الى رئيس الحركة تعليقا نقديا على عدد من المواقف التي اتخذتها الحركة، مؤكّدا أنّه لم يعد منسجما معها، وفي مقدمتها «الخط السياسي الجديد» الذي لا يتوافق معه، في إشارة إلى المنحى الثوري الذي سلكته «النهضة» خلال الحملات الانتخابية الأخيرة، ساعية إلى احتواء الجماعات المتشدّدة، التي شكلت خزانا لكـل مـن «ائتلاف الكرامة» و«حزب الرحمة». ومن الواضح ههُنا أنّ الخط الذي سار عليه العذاري، في المواقع الوزارية التي شغلها، يختلف عن خطاب الغُلاة في الحزبين المذكورين. والأرجح أنّ الفترة المقبلة ستشهد مزيدا من التباعد بينهما وبين الشـقّ البراغماتي في «النهضة»، والذي يمكن تصنيفه بالتيّار الثـالث، الجالس بين النهضــويين الوسطيين مــن جهة وكلّ من «الرحمة» و«الكرامة» وأنصارهما، مــن جهة ثانية.

وقد يكون العذاري عبّر بصوت عال عن مشاعر كثيرين في الحركة، ذلك أن استقالته تزامنت مع استقالة أخرى لا تقلُّ عنها أهميّة ورمزيّة، بل ربّما تفوقها، وهي استقالة القيادي في الحركة زبير الشهودي، الذي شغل منصب مدير مكتب رئيس الحركة لسنوات طويلة، حتّى جاز نعته بالصندوق الأســود للحـركة. وبقـدر ما كان العذاري متحفّظا، إذ اقتصر على نشر جزء من رسالته إلى رئيس الحركة، كان الشهودي قاطعا حاسما في انتقاداته لرئيـس الحركة، ناصحا إيّاه باعتزال السياسة والحدّ من نفوذ أقربـائه. وانبنى هذا الموقف على ما اعتبره الشهودي رسالة مضمونة الوصول من الناخبيـن إلى الحـركة، في إشارة إلى ما كشفته نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة، من تقلُّص لخزّانها الانتخابي.

تمهيد للتداول

على هذه الخلفية المتحرّكة تتقدّم الحركة نحو مؤتمرها، الذي يحلُّ ميقاته في ماي المقبل، ولكلّ تيّار من التيّارات الثلاثة، إن صح التصنيف، حساباته وأهدافه من المؤتمر. وفي مقدّمة الأهداف التنافس على رئاسة الحركة، بناء على أنّ العهدة الراهنة هي الأخيرة لرئيسها الحالي، مثلما تمّ التذكير بذلك في المؤتمر الأخير للحركة. وساعد انتخاب رئيسها على رأس السلطة التشريعية في التمهيد للتداول على رئاسة الحركة. غير أنّ الأمور قد لا تسير في هذا المنحى، وقد يُؤجل هذا الاستحقاق أصلا، بحجّة أنّ التحضيرات اللازمة لعقد المؤتمر لم تنطلق بعدُ. ومن هنا فالأرجح أنّ الصراع بين الشقّين الرئيسيين في الحركة سيستمرّ في التفاعل، وستخرج بعض فصوله إلى العلن، وسيكون استعجال عقد المؤتمر أحد عناوينه ومحاوره الرئيسية.

مقابل هذه التفاعلات داخل حركة «النهضة»، أصيب غريمها اللدود، حزب «نداء تونس»، وهو حليفها بعد انتخابات 2014، بضربة قاصمة، في الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة. وتأكّد لـدى من كانت لديهم بعض الشكوك، أنّه كان حزبا على مقـاس الرئيــس الراحل الباجي قائد السبسي، ولم يستطع أيّ من خلفـائه، بمن فيهم نجله، أن يرتدي ذلك الثـوب ويكون مـوافقا لمقـاسه.

مواليد جدد

بعد دخول الرئيس الباجي إلى قصر قرطاج، تفجّرت صراعات داخلية مريرة شغلت الرأي العام، عبر جعجعة الحوارات التلفزية الصاخبة، حتّى جعلت المواطن يكفر بالسياسة والسياسيين، خاصّة بعدما تدنّت أحيانا إلى مستويات صبيانية. ولم يفلح خصوم المدير التنفيذي للحزب، حافظ قائد السبسي، في إزاحته من موقع القيادة، إلا أنّ استمرار الخصومات بين الإخوة الألّداء جعل الحزب يلد أربعة أو خمسة أحزاب منشقّة عنه، ويتحلّل الرصيد الشعبي الذي حصده عشية انتخابات 2014.

ومن المفـارقات غير المسبوقة أنّ الحـزب الذي أتى الأوّل في انتخابات 2014 وشكّل الحكومات المتعاقبة، لم يحصد في انتخابات 2019 سوى ثلاثة مقاعد، بعدما كان يجمع 86 مقعدا في المجلس السابق. ويعود هذا التفكّك السريع إلى طبيعة التركيبة الفكريّة والاجتماعيّة للحزب، منذ إنشائه، إذ لم تكن تُوحّده عقيدة سياسية ولا يسنُده بناء تنظيمي، وإنّما كان خليطا بين أفراد وجماعـات لا يجمع بينها جامعٌ، عدا الاعتقاد الجازم بأنّ «النداء» سيكــون حزب الحكم. وزاد استئثار نجل مؤسّس الحزب بالقيادة من تسريع خروج الخارجين من «النـداء»، مع ما صاحب تلك الاستقالات من ترذيل لصورة الحزب لدى النُخب والرأي العـام عمـوما. بهــذا المعنى كانت أزمة «النداء» أزمة شـرعيّة ومشروعيّة معـا، لم تُحـل إلا باضطرار رئيــس لجنته المركزية حافـظ قائد السبـــسي (تغيّرت ألقابُه أكثر من مـرّة) إلى مغادرة البلاد منذ رحيل والده، خشية التعرض لتتبُّعات قضائية.

فراغ قيادي

وسعى كثير من المسؤولين في الحزب إلى انتهاز الفراغ القيادي من أجل الحلول في كرسي الزعامة، لكنهم وجدوا البيت خواء صفصفا، ليس فقط في العاصمة، بل في الجهات أيضا، حيث اندثرت الهياكل التنظيمية. من هنا يأتي الاختلاف بين أحزاب الفكرة التي استطاعت أن تحفر لها مكانا في المشهد السياسي، وتُحسِن نتائجها من انتخابات إلى أخرى، وحزبٌ كانت فكرته الوحيدة هي «إحداث التوازن مع النهضة» في 2014، غير أنّه لم يعرف كيف يحافظ على وحدته، ويبني مشروعا لتونس يوازي المشروع المقابل.

وعلى غرار حزب «النداء» لكن بمسارات أقلّ دراماتيكية، عرفت أحزاب أخرى مصيرا غير بعيد. ويكفي استعراض أسماء الأحزاب التي كانت ممثّلة في المجلس التأسيسي ومقارنتها بواقع الخارطة البرلمانية اليوم، لندرك المُتغيّرات الكبرى التي عرفتها الساحة السياسية في السنوات الأخيرة. حتّى مفردات الاستقطاب الثنائي الذي عشنا على وقعه طيلة سنوات، ستتغيّر مضامينه ومآلاته، لأنّه لن يكون بين «النهضة» وحزب بعينه، وإنّما بينها وبين عدد من الأحزاب المنافسة، يقلُّ أو يزيد بحسب الموضوع. وطبعا لا يتعلق الأمر هنا بالمناكفات الصغيرة مع الحزب الدستوري الحرّ، وإنّما بالمنافسة الحقيقية حول المشروع المجتمعي، وهذا موضوع آخر.

رشيد خشانة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.