محمد إبراهيم الحصايري, هجرة الكفاءات: نحو تحرّك دولي لتقعيد هذه الظاهرة على الصعيد العالمي
في غضون الأسبوع الأول من شهر ديسمبر الجاري، انعقدتفي العاصمة ثلاث ندوات عن هجرة الكفاءات التونسية إلى الخارج، وهذه الندوات هي على التوالي:
1 - ندوة "هجرة الكفاءات والفاقد المهاري في تونس: المخاطر، الفرص والاحتمالات" التي احتضنها المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية يوم الاربعاء 4 ديسمبر 2019، لتقديم ومناقشة دراسة أعدّها وأصدرها تحت نفس العنوان.
2 - ندوة "هجرة الأدمغة في تونس: الرهانات والاَفاق" التي نظمتها"جمعية الدراسات الدولية" (AEI) بالتعاون مع "مؤسسة فريدريش إيبرت" (FES) يومي الاربعاء والخميس 4 و5 ديسمبر 2019.
3 - الندوة التي نظمتها "جمعية تونس الفتاة" و"مؤسسة كونرادأديناور" يوم السبت 7 ديسمبر 2019 لتقديم نتائج المشروع البحثي حول هجرة الكفاءات من تونس.
ويعكس تزامن انعقاد هذه الندوات الثلاث مدى أهمية هذه الظاهرة التي ما انفكت "تتعاظم" سنة بعد سنة، وقد بات من الضروري أن تتم دراستها بعمق ودقة، أولا من أجل فهمها، وثانيا قصد تحديد رؤية واضحة لكيفية التعاطي معها بما قد تنطوي عليه، في آن واحد، من إيجابيات وسلبيات، وما قد تثيره من آمال ومخاوف...
ومن خلال متابعتي لأعمال هذه الندوات سواء بصورة مباشرة، أو بالاعتماد على ما كان لها من أصداء في الصحف ومواقع الأخبار الالكترونية، يمكنني القول إن الخلاصة التي خرجت بها منها هي أنها تمكنت، بمقادير متفاوتة، من تشخيص بعض جوانب الظاهرة، لكنها، في المقابل، لم تتمكن من تحرير وصفة كفيلة بمعالجتها.
أما عن السبب فإنه، فيما أرى، يتمثل في أن الندوات الثلاث لم تتمكن من الإجابة على السؤال المحوري التالي: هل هجرة الكفاءات إلى الخارج نعمة أم نقمة؟
إن الجواب على هذا السؤال لم يكن، وليس جوابا واحدا، بل هو أجوبة متعدّدة بتعدّد زوايا النظر إليها، ذلك أن من ينظر إليها من زاوية ذاتية،غير من ينظر إليها من زاوية موضوعية، وأن من ينظر إليها من زاوية فردية، غير من ينظر إليها من زاوية جماعية... وما قد يكون بالنسبة إلى المهاجر غنما قد يكون بالنسبة إلى البلاد غرما، لا سيما على المدى البعيد.
وتأسيسا على ما تقدّم، فإنني أرى أنه بات من المتأكّد أن تضع بلادنا هذه الظاهرة على سلّم أولوياتها، حتى تحدّ مما تتّسم به، حاليّا، من عشوائية يُخْشَى أن تفضي في مرحلة ما إلى الاضرار بصورة فادحة بالقطاعات المعنية بها أكثر من غيرها وهي خاصة قطاعات الطب، والهندسة، والتعليم العالي والبحث العلمي...
على أنّ التحرك من أجل معالجة هذه الظاهرة التي تكلّف بلادنا والبلدان النامية عموما خسارة تقدّر بمئات المليارات من الدولارات سنويا، (نفقات على تعليم الكفاءات المهاجرة) ينبغي، حتى تكون المعالجة جذرية وعميقة، أن يتم على الأصعدة الثلاثة التالية:
أولا: على الصعيد الوطني، حيث يتعين الاتفاق على رؤية وطنية موحّدة لهذه الظاهرة، لأن مثل هذه الرؤية شرط وجوب لتحديد خطة واضحة المعالم للتعامل معها تعاملا كفيلا بجلب منافعها ودرء مضارّها.
ثانيا: على صعيد علاقاتنا مع الدول المستقطبة لكفاءاتنا، إذ ينبغي، في نظري، أن يتم التحاور والتفاوض مع هذه الدول "المتقدمة" التي ما انفكت تشكو من ظاهرة الهجرة وتعمل على إغلاق أبوابها في وجه عموم المهاجرين إليها، لكنها، في المقابل، تنتهج سياسات انتقائية مخططة ومدروسة بدقة لاجتذاب أصحاب الكفاءات والمهارات الخاصة.
ثالثا: على صعيد علاقاتنا مع البلدان النامية التي تعرف مثلنا نفس الظاهرة، إذ يبدو لي أن الوقت حان للقيام معها بتحرّك جماعي الغاية منه العمل على "تقعيد" هذه الظاهرة على المستوى العالمي، لا سيما وأن الدول "المتقدمة" ما فتئت تعمل على "تدويل التعليم" في بلداننا حتى تجد بين خرّيجيه من يلبي احتياجاتها، ويستجيب لمعاييرها.
وفي رأيي، فإنّه من الممكن، على سبيل المثال، التفكير في إنشاء منظمة عالمية يمكن أن تسمى "المنظمة العالمية لحقوق التكوين"، من أجل حفظ حقوق الدول المصدّرة للكفاءات، وذلك على غرار "المنظمة العالمية للملكية الفكرية"التي أنشأتها منظمة الأمم المتحدة والتي تخصصت في إدارة نظام الملكية الفكرية العالمي، وفي تطوير وتعزيز المعاهدات الدولية التي تحكمه.
وقد تبدو هذه الفكرة، للوهلة الأولى، خيالية أو غير واقعية، لكنني أرى أنها يمكن أن تكون قابلة للتجسيم إذا تم تبنّيهامن قبل مجموعة من الدول النامية أو بعض المنظمات الإقليمية أو القارية على غرار الاتحاد الافريقي مثلا... وإذا تم التحلّي بما ينبغي من الصبر والإصرار والمثابرة على الوصول بها إلى الغاية المنشودةنسجا على منوال السلوك المرحليّ المتدرّج الذي تتوخّاه الدول "المتقدمة" في تقعيد كل ما يؤمّن مصالحها، وفي فرض القواعد التي تضعها على جميع دول العالم.
محمد إبراهيم الحصايري
- اكتب تعليق
- تعليق