أخبار - 2019.12.17

حكومة الحبيـب الجملي: الولادة العسيـرة

حكومة الحبيـب الجملي: الولادة العسيـرة

كان من المتوقّع أن لا تكون مهلة الشّهر الأوّل كافية لإعلان الحكومة التّي عُهد إلى الحبيب الجملي بتشكيلها وأن يترتّب عن ذلك طلب تمديد تلك المهلة إلى شهر ثان يتمّ خلاله إمّا تكوين الحكومة أو إنهاء التّكليف. ومبرّرات ذاك التّوقّع عديدة:

أوّلها نتائج الانتخابات التّشريعيّة الأخيرة التّي لم تمكّن أيّ حزب سياسيّ أو أيّة عائلة فكريّة سياسيّة من أغلبيّة مريحة تسمح لها بتوفير حزام كاف من الكتل البرلمانيّة حول حكومتها المفترضة.

وثانيها طبيعة المشهد السّياسيّ الذّي شهد صعود قوىّ سياسيّة متنافرة وغير متجانسة يصعب التّحالف بينها أو تقريب وجهات نظرها إمّا لأسباب إيديولوجيّة مبدئيّة أو لاختلافات عميقة وجذريّة في فهم السّياق السّياسيّ والاقتصاديّ والاجتمـــاعيّ الذي تعيشه البلاد والتّعاطي مع مفرداته.

وثالثها أعباء السّنوات التّسع من الحكم التّي ينوء بحملها حــــزب حــــركة النّهضة «الفائز» في انتخابات 2019 والتّي جعلته في أعين جلّ الأحزاب المعنيّة بتشكيل الحكومة عنوان فشل ذريع وارتباك ، وهو ما دفعها إلى وضع شروط صارمة قبل أن تشاركه الحكم توقّيا من مخاطر فشل جديد.

في ظلّ هذا الإطار المعقّد تولّى رئيس الحكومة المكلّف الحبيب الجملي مهمّته العسيرة من أجل الوصول إلى توليفة مُثلى تجمع المبعثر وتصهر المتنافي. وكانت منهجيّته واضحة في مباشرة هذا التّكليف ، فقد استند منذ البداية إلى برنامج مرجعيّ يستجيب في خطوطه الكُبرى للتّحدّيات الجسام التّي تواجهها البلاد على مختلف الأصعدة وإن أُخـــــذ عليه أنّه لا يختلف في شيء عن برنامج حركة النّهضة – وهذا طبيعيّ باعتباره مرشّح الحركة لرئاسة الحكومة – وأنّه برنامج فضفاض تغلب عليه العموميّات والشّعارات المألوفة ويفتقر إلى كثير من التّدقيق والتّفصيل وإلى روح الابتكار والتّجديد.

أمّا عن مسألة هيكلة الحكومة ، فالثّابت أنّ الحبيب الجملي لا يتبنّى الفكرة الدّاعية إلى حكومة أقطاب وزاريّة مختصّة ولا يميل إلى تجميع بعض الوزارات، ويرى أنّ البلاد ليست مهيّأة لهذا الأمر في الوقت الرّاهن وأنّ الإقدام على مثل هذا التّغيير سيكون مغامرة غير مأمونة العثار، وبالتّالي فهو يُفضّل الإبقاء على الهيكلة الحاليّة مع إدخال بعض التّحويرات الطّفيفة.

وأمّا عن سلسلة المشاورات واللّقاءات التّي عقدها تحضيرا لتشكيل حكومته فلعلّها كانت الأوسع والأشمل في تاريخ حكومات ما بعد 14 جانفي 2011 ، فقد شملت كما هو معتاد الأحزاب السّياسيّة الممثّلة في البرلمان وغير الممثّلة والمنظّمات الوطنيّة وسائر مكوّنات المجتمع المدنيّ وعددا من الشّخصيّات الوطنيّة وممثّلي الهيئات القائمة وبعض الأسلاك المهنيّة ورؤساء حكومات ووزراء سابقين وامتدّت إلى المنظّمات الطلّابيّة والإعلاميّين والمثقّفين والفنّانين وغيرهم.  وقد رشحت عن هذه اللّقاءات انطباعات عديدة تتقاطع في تأكيد تواضع الرّجل وقدرته على الإصغاء وانفتاحه على كلّ الآراء وإيمانه بالكفاءة والنّزاهة قبل التّحزّب ووعيه برهانات المرحلة وتحدّياتها الكبرى.

ورغم تلك الجهود المبذولة واللّقاءات الماراطونيّة التّي شهدها قصر الضّيافة بقرطاج فإنّ المشاورات لم تُفض إلى نتائج ملموسة بعد شهر كامل من انطلاقها بما جعل الإعلان عن الحكومة الجديدة يتأجّل إلى موعد غير معلوم ولكنّه ينبغي أن لا يتجاوز في كلّ الأحوال منتصف جانفي القادم. وهو ما يدعو إلى التّساؤل عن الإشكاليّات التّي ستجعــل ولادة هذه الحكومة ولادة عسيرة ؟

الإشكاليّة الأولى تتصّل بالتوّجّهات والأولويّات، فإذا كانت بعض الأطراف المعنيّة بتشكيل الحكومة لم تتحدّث كثيرا عن برنامج المرحلة القادمة وأولويّاتها فإنّ حركة الشّعب والتّيّار الدّيمقراطي يُوليان هذه المسألة أهميّة بالغة ويجعلانها في صدارة الاهتمامات ، فحركة الشّعب انتقدت في تصريحات قيادييها برنامج رئيس الحكومة المكلّف ووصفته بعدم الوضوح ، ولئن لم تشترط حقائب وزاريّة محدّدة فإنّها اشترطت البدء بصياغة إعلان سياسيّ مفصّل ودقيق يضبط الأولويّات ويضع الأهداف ويُوضّح سبل بلوغها ويستجيب لمقتضيات المرحلة. أمّا التيّار الدّيمقراطيّ فإنّه يعتبر أنّ البرنامج المطروح تغلب عليه العموميّات ولا يُلامس المشاكل الحقيقيّة لأنّ أيّ إصلاح جذريّ وعميق لمنظومة الحكم ولأوضاع البلاد لا بدّ أن يبدأ من إصلاح منظومات الأمن والقضاء والإدارة، ومن ثمّ جاءت مطالبة التيّار بوزارات الدّاخليّة والعدل والإصلاح الإداريّ.

وتتعلّق الإشكاليّة الثّانية بالأطراف التّي ستشارك في تشكيل الحكومة ، ذلك أنّ بعض الأحزاب المعنيّة تُسجّل احترازات إزاء مشاركة أحزاب أخرى أو تشترط استبعادها من المشاركة ، فالتيّار وتحيا تونس يرفعان «فيتو» في وجه مشاركة قلب تونس ، وائتلاف الكرامة غير مرّحب به من قبل تحيا تونس الذّي يشترط في الآن نفسه مشاركة التيّار ، بما جعل الأمور تتجّه في وقت من الأوقات إلى «تشريك مقنّع» لقلب تونس من خلال كفاءات يُرشّحها الحزب لا تنتمي إلى كتلته البرلمانيّة ولا إلى مكتبه السّياسيّ وتتميّز بالكفاءة والنّزاهة ونظافة اليد والنّجاعة في العمل .

ثمّ أُثيرت مسألة طبيعة الحكومة ونوعيّة الشّخصيّات التّي ستُرشّح لتوليّ الحقائب الوزاريّة : أهي حكومة كفاءات متحزّبة؟ أم كفاءات تقنيّة غير منتمية إلى أحزاب سياسيّة؟ أم هي حكومة محاصصات حزبيّة تتكوّن من وجوه قياديّة في أحزابها ؟ ويبدو أنّ الرّأي الغالب كان يتّجه إلى المزج بين كلّ هذه النّوعيّات مع تطعيــم الحكومة بعدد من المستقلّين . وفضلا عن ذلك طُرحت مسألة تحييد وزارات السّيــــادة من عدمـــــه، فلئن كان رئيس الحكومة المكلّف متمسّكا بمبدإ تحييــــد تلك الوزارات فإنّ بعـــــض الأحــــــزاب المعنيّة بتشكيل الحكـــومة طالبت في لقاءاتها بالحبيب الجملي بعـــــدم تحييدها من منطلق أنّها وزارات مفصليّة في تطبيق سياسات الحكــــومة ومن ثَمّ ضرورة اسنادها إلى قيادات سياسيّة.

أمّا أمّ المشكلات فهي على الأرجح هويّة الائتلاف المكوّن للحكومة وما يترتّب عن تحديد تلك الهويّة من تداعيات على طبيعة الحكومة ذاتها وعلى الحياة الدّاخليّة للأحزاب المشكّلة لها.

لعلّه بات من الواضح أنّ الحكومة المقبلة ستتشـكّل على أحد هذين النّحوين الرّئيسييّن:

إمّا ائتلاف يضمّ حركة النّهضة والتّيار الدّيمقراطيّ وحركة الشّعب وكتلة الإصلاح الوطنيّ مع إمكانيّة انضمـــــام تحــــيا تونس ويكون مدعوما من ائتلاف الكرامة ويتوقّع أن يجمع عند التّصـــويت على منــــح الثّقة للحكومة ما يزيد عن 140 صوتا.

وإمّا ائتلاف يضمّ حركة النّهضة وقلب تونس وكتلة الإصلاح الوطنيّ ويكون مدعوما كذلك من ائتلاف الكرامة وبعض المستقلّين ويمكن عندئذ أن تنال هذه الحكومة الثّقة بما يُناهز 130 صوتا.

ومن المعلوم أنّ التّيّار الدّيمقراطيّ وحركة الشّعب كانا قد أعلنا في وقت سابق عن تعليق مشاركتهما في المشاورات التّي يُجريها رئيس الحكومة المكلّف بسبب تمسّكهما بما طرحاه من شروط للانضمام إلى الائتلاف الحكوميّ وهي شروط كان يصعب الاستجابة إليها كاملة.

وعليه انتظر بعض الملاحظين أن يصرف الحبيب الجملي النّظر عن التّيّار وحركة الشّعب ويتّجه إلى الفرضيّة التّي تتشكّل فيها الحكومة من النّهضة وقلب تونس أســـاسا لا سيّما وأنّ مهلة الشّهر الأوّل شارفت وقتها على النّهاية . ولكن فوجئ هؤلاء بإطلاق جولة جديدة من المشاورات مع الحزبين المذكورين قد تُفضي إلى إقناعهما بالمشاركة خاصّة إذا حظيت مطالبهما الأساسيّة بالقبول.

ولكنّ السّؤال الذّي يجدر أن يُطرح في هذا السّياق هو : لماذا استؤنفت المحادثات مع التيّار وحركة الشّعب في الوقت الذّي كان بالإمكان المضيّ في تشكيل الحكومة وإعلانها وعرضها على البرلمان ونيل ثقته بأغلبيّة مُريحة ؟ وهل تمّ ذلك بإرادة وحرص من رئيس الحكومة المكلّف أم برغبة من الحزب الأغلبيّ الذّي رشّحه وبعض المقرّبين منه ؟

يبدو أنّ النّقاشات حول المرشّحين لتولّي حقائب وزاريّة كانت قد تقدّمت أشواطا وأنّ رئيس الحكومة المكلّف نظر في عدد من السّير الذّاتيّة للكفاءات التّي يُمكن أن تُشارك فيها، ثمّ وقع إيقاف هذه النّقاشات واستئناف المحادثات مــــع التيّار وحـــــركة الشّعب. والظّاهـــر أنّ هذا الموقف لم يترك قيادات حزب «قلب تونس» مكتوفي الأيــــدي، إذ شــــرعوا في القيام بمساع من أجل تكوين ائتلاف برلمانيّ قد يضمّ كتلة الإصلاح الوطنيّ وكتلة المستقبل بحثا عن ثقل أهمّ وحجم أكبر وتحسّبا لكلّ محاولة تهدف إلى عزله وتحجيم دوره في السّاحة السّياسيّة.

والثّابت أنّ الحبيب الجُملي حريص على أن يكون لحكومته عمق إصلاحيّ « ثوريّ»، إلّا أنّ بقاء التيّار وحركة الشّعب خارج الائتلاف الحكوميّ من شأنه أن يُضعف هذا البُعد المرجوّ ويُقلّل من صدق عزم الحكومة على الإصلاح الحقيقيّ . ولكن هل إنّ المتشبّثين بمشاركة التيّار في الحكومة سيقبلون بشروطه التّي وُصفت بأنّها تعجيزيّة ومُبالغ فيها أم إنّهم يُريدون وزراء التيّار ولا يُريدون برنامجه الإصلاحيّ ويرغبون في حضوره ولا يرغبون في فاعليّته وتأثيره ؟

ومهما يكن من أمر فإنّ كثيرا من المعطيات تُشير إلى أنّ هذه الحكومة ستُولد من رحم جملة من المعادلات الصّعبة:

المعادلة الأولى تهمّ علاقة النّهضة بقلب تونس ، ورهانها المحافظة على التّقارب بين الحزبين رغم إمكان استبعاد قلب تونس من المشاركة في الحكومة . فلا يخفى أنّ بين الحزبين تحالفا تكتيكيّا – لا استراتيجيّا – ظهر في انتخاب رئيس مجلس النّوّاب ونائبته الأولى ، ورغم القول داخل حركة النّهضة بانفصال المسار البرلماني عن المسار الحكوميّ فإنّ قيادات الحركة تُقدّر الحجم العدديّ لنوّاب قلب تونس ولا يبدو أنّها مستعدّة لتجاهله خاصّة وأنّ بعض مقامات التّصويت في عمل البرلمان تحتاج أكثر من مجرّد الأغلبيّة وقد تتطلّب أصوات ثُلثي النّوّاب (145).

المعادلة الثّانية ذات صلة بالرّقم الصّعب في المشاورات وهو التيّار الدّيمقراطيّ ، ورهانها إيجاد الصّيغة المناسبة لإقناع التيّار بالمشاركة والقبول بشروطه دون المجازفة بوضع أهمّ مفاصل الحكومة ووزاراتها الحسّاسة بيد حزب واحد.

المعـــادلة الثّالثة قـــد لا تعنـــي رئيـــس الحكومة المكلّف بشكل مباشر ، ولكنّهـــا تعنــــي الأطراف السّياسيّة الأساسيّة في تشكيل الحكومة وهي تتجاوز راهن المشاورات إلى مستقبل عمل الحكومة ومستقبل المشهد السّياسيّ بأكمله ، ورهانها طبيعة العلاقة بين النّهضة وشركائها المحتملين في الحكم ( التيّار وحركة الشّعب ) . فلا خفاء أنّ هذين الحزبين أصبح لهما منذ الانتخابات الأخيرة بريق خاصّ اكتسباه بفضل ما أبدياه من مواقف مبدئيّة خلال المشاورات وأثبتا أنّهما ليسا طلّاب سلطة وهما لا يحرصان على المناصب والحقائب الوزاريّة ولا يتعاملان بمنطق الغنيمة بل انعقد خطابهما على قضايا جوهريّة تهمّ الحوكمة والإصلاح والارتقاء بالواقع السّياسيّ والتّنمويّ . ومن ثمّ فإنّهما باتا منافسين حقيقيّين للنّهضة، وهما قادران على احتلال صدارة المشهد وافتكاك زمام المبادرة منها والفوز عليها في استحقاقات انتخابيّة قادمة، وهي معطيات قد تجعل تعايش هذين الحزبين مــع النّهضة في الحكم تعايش منافسة وصراع خفيّ لا تعايش تكامل وتعاون.

والمحصّل أنّ الحكومة المرتقبة قد تظهر ملامحها في قادم الأيّام وقد تتشكّل قبل نهاية المهلة الثّانية التّي طلبها رئيس الحكومة، ولكنّ ذلك لن يكون دون تضحيات من هذا الجانب وذاك ودون تنازلات «مؤلمة» من بعض الأطراف ودون تداعيات مستقبليّة لا يُمكن التّنبؤ بها . أمّا رئيس الحكومة المكلّف فهو على ثقة كاملة بأنّه سيصل بفريقه إلى برّ الأمان.

د. الحبيب الدّريدي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.