أخبار - 2019.12.08

ورقات من الآثار الفكـرية لأحمـد الدرعي

الآثار الفكـرية لأحمـد الدرعي: في تطـويـر الشريعـة الإسـلامية

أصدر المجمع التونسي للفنون والأداب والعلوم ببيت الحكمة الآثار الكاملة لأحمـد الدرعي. وفي مايلي ورقات من أثاره الفكرية حول تطوير الشريعة الاسلامية.

«وقد يكون الرأي عنده [عمر بن الخطّاب] خطأ يثاب عليه المجتهد مرّة واحدة لا مرّتين فيغيّر الحكم بمقتضاه بدون تردّد، كما فعل في مسألة طلاق الثلاث بلفظ واحد، إذ جعله ثلاثا قصدا الزجر عن هذه العادة القبيحة والله يقول {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (البقرة 2 / 229) والتعبير في الآية بالمرّة ظاهر الدلالة على أنّه لا يكون بلفظ واحد ثلاثا، وقد أثبتت التجربة أنّ الناس لا يرتعدون لمثل هذه الشدّة لاندفاعهم في فورة الغضب إلى أقصى المعاكسة بدون نظر في العواقب، وبقي المسلمون على اجتهاد عمر، رضي الله عنه، في هذه القضية إلى صدور مجلّة الأحوال الشخصيّة التي جعلت حقّ الطلاق للمحاكم وعالجت القضيّة على مبادئ جديدة.

ومن هذه الأمثلة يتبيّن لنا أنّ عمـــر بن الخـطّاب رضي الله عنه لا يتــردّد في تغـييــر الأحكام إذا ظهرت له مصلحـة المسلمين في تغييـرها ولو كانت مبنيّــة على نـصّ صــريح ثابت.

فكيف يمكن فهم عمل عمر مع قـدسيّة النـــصّ، وقد كـان عمر يعمل وسط الصحابة الذين بايعوه وناصروه دون منكر عليه؟ ويظهر أنّ تفسير الشريعة يستفيد كثيرا من فهم العصر الذي خلف النبوّة أي عصر الخلفاء الراشدين، ولا سيّما عصر الشيخين لكونه عصرامتداد كزمن النبوّة بعد انقطاع الوحي، وهو ما يهمّنا، لأنّ القياس على زمن الوحي ذاته لا يزيد المشكلة إِلَّا تعقيدا لحرماننا اليوم من الوحي. وليس لنا من مرجع يشابه حالتنا هذه إِلَّا هذه الفترة من ولاية الشيخين، وفِي هذا العصر كثرت الفتوحات وتضاعفت من جهة أغراض الإسلام، كما تضاعفت المشاكل التي جابهته وجابهها، ونجد الخليفة ينفّذ في غالب الأمر أحكام الشريعة بحذافيرها وشدّتها ورحمتها، وأحيانا قليلة يغيّر الحكم الشرعي اعتبارا لمصلحة طارئة أو ظروف خاصّة، في حين أنّه يعلم النصوص الشرعية التي يلوكها اليوم فقهاؤنا في تحجير التغيير كقوله تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (المائدة 5 /3) وقوله {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (المائدة 5 / 44) وقوله {تِلْكَ حُــدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَـــــدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حــــُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (الطلاق 65 /1)، وغيرها كثير. نعم لقد كان عمر يعلم كلّ ذلك ويعمد إلى تغيير الأحكام، فكيف يمكن أن نفسّر عمل عمر في ذلك مع علمه بتلك النصوص؟ 

فالذي يظهر أنّ تفسير ذلك كلّه لا يمكن أن نأخذه من المبادئ التي قرّرناها بعد عمر والتي هي من وحي عقولنا القاصرة، وقد نجد بعض التفسير في إقامة الخلافة بعد النبيّ، صَلَّى الله عليه وَسَلَّم، وبيعة أبي بكر واستخلافه لعمر من بعده، فالشيخان قد جعلا أنفسهما مؤتمنيْن على الدولة الإسلاميّة بعد النبيّ وأقرّهما على ذلك الصحابة وأطاعوهما دون استخلاف من النبيّ، صَلَّى الله عليه وَسَلَّم، لغاية الاستمرار على النظام الذي أقرّه النبيّ، صَلَّى الله عليه وسلّم، وقد كانا في زمن النبيّ يشاركانه في الرأي ويؤثّران في التشريع الإسلامي برأيهما، ولم يكن النبيّ صَلَّى  الله عليه وَسَلَّم، برادٍّ اجتهادهما أو اجتهاد الصحابة المخلصين لما جبل عليه من كرم الأخلاق، ولما تقتضيه مهمّته التربويّة من تكوين جماعة من أهل الرأي والنظر في المسلمين تمهيدا لرشد المسلمين ولرشد البشرية (مراجع الخرشي، ج 5، ص 50).

فقد كان عمر في زمن النبيّ سببا في تشديد حدّ شارب الخمر، فصيّره ثمانين جلدة بعد أن كان أربعين جلدة، وله أمثلة أخرى من تغيير في التشريع الإسلامي بسببه، فَلَمَّا وَليَ الخلافة  لم يكن لينظر للأحكام الشرعيّة الفرديّة الواردة في النصّ نظرة المبهوت المقيّد بها حرفيّا بل كان يتعاطاها بفكره وخلقه الشديد، وينظر في مصلحة المسلمين إذا كانت تقتضي فيها التبديل والتغيير كما كان يفعل في زمن النبيّ، صَلَّى الله عليه وَسَلَّم. ولا يفهم عمر من كمال الدين كما فهم المتأخّرون بأنّ المسلمين يجب أن لا يغيّروا في أحكام شريعتهم شيئا، كما قلنا، برأيه. ويمكن اعتبار هذا الدور في زمن الخلفاء الراشدين بحقّ امتدادا لزمن النبيّ، صَلَّى الله عليه وَسَلَّم، وقد نجد من هذا الامتداد إقامة الخلافة بعد النبيّ مع خلوّ التشريع الإسلامي من نصّ في نظام الحكم يسير عليه المسلمون...

ويمكن أن نستنتج من ذلك أنّ فهم عمر للتشريع الإسلامي متحرّر كثيرا عمّا توهّمه الفقهاء في الأعصر الموالية له ، ولم يكن يتقيّد كثيرا بالنصّ الحرفي وإن تقيّد بروح التشريع في إقامة العدل وإيثار مصلحة المسلمين، ولم يكن عمله ليقف به في المعاملات دون العبادات التي يرى الأستاذ المحمصاني [صبحي المحمصاني رجل قانون وشخصية سياسية من لبنان (1909 - 1986) له مؤلّفات في مجال التشريع الإسلامي]  أن لا معنى لتبدّل الزمان والمكان والأحوال في مسائلها، فقد جمع عمر الناس لصلاة  التراويح ولم يكن النبيّ ولا أبو بكر يجمعانهم لها.

وإذا باشر عمر التغيير في أحكام منصوص عليها بموافقة الصحابة فذلك دليل على فهم صحيح أجمعت عليه الأمّة على الأقلّ في زمنه، من صحّة تغيير الأحكام الشرعيّة الوارد بها النصّ، ولا يتوقّف هذا التغيير على ثبوت تغيّر العلّة أو تغيّر العرف أو اجتهاد جديد في تفسير النصّ، بل يكفي فيه مصلحة المسلمين الظاهرة، كما كان يفعل عمر بمرأى ومسمع من الصحابة، رضوان الله عليهم جميعا. وهل يمكن أن نعتبر عملهم في هذا التغيير مخالفا للإسلام لأنّه خالف النصّ الصريح ونحن نعلم أنّهم بهذا التغيير إنَّما يثبتون حيــــــويّة التشريع الإســــلامي ويحــافظون على مصلحة المسلمين المتجدِّدة، وغاية ما عملوا بكلّ بســـاطة أنّه ترجّح عنـــدهم بالاجتهاد أنّ مقصد الشارع في زمانهم هو الحكم الجديد ولو كان النبيّ بين ظهرانيهم لبدّل الحكم كما كان ينسخ الأحكام التي يجـــب تغييرها؟ ..، (أحمـــد الدرعي، الآثار الكاملة، الآثار الفكرية، ص 52، 53، 54، منشورات بيت الحكمة 2019)

دفاعا عن الطاهر الحدّاد

«وقد أثار الحدّاد بكتابه الأخير امرأتنا في الشريعة والمجتمع ضجَّة لا مَثيل لها في الصحافة التونسية وفِي جميع الأوساط

بهذه الرقعة الصغيرة من الأرض، وقالت الجماعة من الناس بتكفيره وقال قائلون بأنّه عالم الشرع الذي لا نجد له مثيلا إِلَّا بين ابن حزم والغزالي وابن خلدون الذين كانوا الرؤوس المفكّرة لهذه الأمّة والذين عاشوا مبغضين محقّرين من عاصريهم، يرمونهم طورا بالكفر وطورا بالزندقة أو الاعتزال إلى أن جاءت الأجيال المجرّدة عن الأغراض واعترفت لأهل الفضل بالفضل وعرفت أنّ أولئك المفكّرين العِظام لم يكونوا على غير هدى وإنّما قد أتوا أمّتهم قبل اختيارها لفكرتهم فأنكرتهم.

وسواء كان الحدّاد على ما يقول هؤلاء أو هؤلاء فقد انقضى اليوم ولم بكن بدء من انقضائه، وهو أمام الحاكم الذي لا يغلط. في تقديره إنَّما الشيء الذي يتّفق فيه أنصاره وأضداده هو حالة البلاد اليوم التي تستدعي تغييرا عميقا في أنظمتهما الاجتماعية،  وقد كان الطاهر الحدّاد أرسل صيحة قوية كان ضحية لها يريد بها تنبيه الناس إلى هذه الحالة ، فلم يكن الحدّاد يريد الخوض في أصول الدين مباشرة وإنّما جرّه إليه بحثه في تحرير المرأة وتكوين العائلة التونسية على صورة تسمح للطفل أن يشبّ سعيدا قويّا في صحّته وأخلاقه متسلّحا للحياة. وهذا الغرض الذي يرمي إليه الحدّاد يتعارض مع الحالة القانونية للحياة العائلية المبنيّة على ما تحكم به محكمة الديوان من القواعد المستمدّة من أقوال الفقهاء غالبا والتي في بعض الأحيان تخالف الدين على خطّ  مستقيم، فأراد الحدّاد أن يجيب على ما عسى أن يعترض عليه من معارضة الدين، مبيّنا أنّ الدين في أصوله يوافق على كـــلّ ما يرمي لسعادة المسلمين وقوّتهم وصلاحهم.

وفِي هذه الفئة القليلة التي ترى في الحدّاد زعيم النهضة الحقّة الذي رفضته البلاد عن جهل، قد فقــدت بموته رئيسهــــا الذي لا يعوّض، وقائدها الذي سيكون مثلا في التضحية والإخلاص، وقد أثبت موته على فكرته لجميع الناس الذين كانوا يرمونه بكلّ نقيصة، قيمة هذا الرجل في الإخلاص لمبدئه والتضحية لأجله. فعسى أن يكون هذا الاستشهاد على المبدأ الجديد بين التونسيين باعثا للهمم على اقتحام الصعاب ومعلنا للملأ ولو بعد حين حيويّة هــذه الأمّة التي نــــزلت عليها من المصــائب الاجتمـــاعية ما بعث الانحلال في جميع أركانها ونصب أمامها شبح المــــوت هـــاجمــا على هياكلها تبدو أمـــامه فــريسة لا تملك لنفسها ضرّا ولا نفعا.

وقد بكت هذه الفئة على الحدّاد يوم وفاته مُرًّا فلا ترى الأعين إلا وهي تكاد تسيل مع الدموع الجارية، ولا تسمع إلا الحسرة والأنة والخطباء والشعراء يندبون الفقيد ولم يبك أقرباء الحدّاد ميّتهم كما بكاه هؤلاء الأنصار.

وقد كنت شخصيا تعرّفت بالحدّاد سنة تسعين وتسعمائة وألف، اختلطنا أليفين صديقين، لم يحدث طيلة الخمسة عشر حولا التي عاشرته فيها ما يكدّر صفاء الودّ بيننا. اجتمعنا على الفكر والجدّ والعمل وافترقنا في ساعة موته على ذلك. وقد نشر كتابه امرأتنا في الشريعة والمجتمع ونبذه لذلك كلّ أصحابه تقريبا ودعاني بعضهم لمثل عملهم فلم أر العمل لائقا بالصداقة أبدا، ولم أر الحدّاد قد أتى شيئا إدّا بنشره فكرة صالحة ترمي لحياة الشعب ولم أرَ نظره في تطوّر التشريع الإسلامي مخالفا لأصول الفقه التي تعلّمناها على مشائخ الجامع الأعظم. ولم أرَ الحملة التي أثاروها ضدّه محقّة. فكنت حيث واجبي مع الحقّ ومـــع الإخلاص للصداقة وأبيت أن أنزل إلى الدناءات التي دعيت إليها باسم المصلحة الشخصية واتقاء غضـب الفكر العامّ، وتحمّلت نتيجة اختياري الموقف الذي وقفته حرًّا...»
(أحمد الدرعي، الآثار الكاملة، الآثار الفكرية، ص 327، 328، منشورات بيت الحكمة 2019)
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.