صدور الآثـار الكـاملـة لأحمد الـدرعـي عن "بيت الحكمة"
«عجيب أمرُ بلادنا في ماضيها القريب وحاضرها: إنّها تنتج الروّاد والمبدعين في كلّ فنّ من الفنون ومجال، ولكنّهم في الغالب مغمورون ببن قومهم، لا يُحتَفَى بهم في حياتهم، ولا يناولون من الإكرام حتّى بعد موتهم ما يتمتّع به الغرباء، سواء من الشرق أو من الغرب، فضلا عن عدم الاعتراف بهم إذا قُورنت منزلتهم عند الجمهور بمنزلة القدماء، رغم أنّهم يبزّونهم علما وأنّهم أرحب آفاقا وأنفع للناس من كلّ وجه».
بهذه الحقيقة المرّة أصدع الدكتور عبد المجيد الشرفي رئيس المجمع التونسي للفنون والآداب والعلوم «بيت الحكمة» عند تقديم الآثار الكاملة لأحمد الدرعي الصادرة عن المجمع في الآونة الأخيرة.
ولا نبالغ إن قلنا إنّ نشر الأعمال الأدبية والفكرية الكاملة لأحمد الدرعي (1902 - 1965) يعدّ على الإطلاق من أهمّ إنجازات المجمع هذه السنة وأجلّها وهو إنصاف لمثقّف زيتوني مزدوج اللغة «خاض مع صديقه الطاهر الحدّاد وثلّة من الشبّان الواعين المعاركَ الفكرية والنقابية والسياسيّة التي احتدمت بين أنصار الجمود والتقليد ودعاة التجديد والتغيير، وبين المتستغِلّين والكادحين، وبين المدافعين عن حقوق المرأة، والمنكرين لمساواتها بالرجل، وبين اليائسين من القضاء على الاستعمار، والعاملين على تقويضه بالوسائل الملائمة. وكان في كلّ هذه المعارك نصيرا للحياة الكريمة وللحرية والتقدّم» كما يبيّن الدكتور عبد المجيد الشرفي. ويعود الفضل في إخراج آثار أحمد الدرعي الكاملة التي لحقها الإهمال إلى فريق تضافرت جهوده من أجل نفض الغبار عنها وإعادتها إلى سطح الذاكرة، بدءا بالسيدة سهام بن عمَّار بالهادي، ابنة أخت زوجته، التي جمعت مخطوطاته وكانت متناثرة ورقنتها وحاولت فكّ رموزها وتحمّست ابنته الأستاذة كلثوم مزيو لفكرة تحقيقها ونشرها وتولَّى الأستاذ سالم ونيّس، بتكليف من بيت الحكمة، مراجعة عمل السيدة سهام بالعودة في أحيان كثيرة إلى المخطوط وإصلاح ما فيه من أخطاء سببها السهو أو سبق القلم. ثمّ قامت بالمراجعة الأخيرة الأستاذة هالة ورتاني فأكملت التعريف بالمؤلف وحققت الإحالات التي في النصوص ووضعت ما أضافته للتفسير بين معقّفين في الهوامش فتسنّى بذلك ترتيب هذه الآثار وتحقيقها تحقيقا علميّا في جزأين.
يتعلّق الجزأ الأوّل (601 صفحة) بالنصوص الأدبية وهي ذات أجناس مختلفة وقد «طرحت قضايا عدّة مثل العلاقة بالسلطات الاستعمارية والسلطات التونسية، وبروز العمل النقابي والواقع الحزبي ومسألة الشعب والمواطنة ووضع المرأة التونسية والنضال ضدّ المستعمر كما كشفت عاهات الطبقة البورجوازية السائدة آنذاك في انطوائها على ذاتها وتمسّكها بمصالحها التي يهدّدها كلّ خيال» مثلما جاء في التقديم. وتميّزت النصوص الأدبية التي أعادت تجسيد الإطار الاجتماعي لتلك الفترة، بمتانة الأسلوب وجزالة اللفظ وإطلاق العنان لخيال مجنّح يكشف حذقا لعلم البيان وقواعده. أمّا الجزء الثاني (589 صفحة) فقد تضمّن مقالات أحمد الدرعي التي تناول فيها قضايا عصره، من نقد مجلّة المرافعات الشرعية، إلى أهميّة مجلّة الأحوال الشخصية، إلى الدفاع عن الهويّة في مواجهة التجنيس، إلى البعد المقاصدي للإسلام وهي تحمل كلّها رؤية تجديدية نقديّة ترمي إلى تطوير الشريعة الإسلامية والانتصار للمنزع الاجتهادي في التعامل مع النص الديني. كما يحتوي هذا الجزء على قراءة مجدّدة لقصص الأنبياء ولواقع البدو والحضر حسب مقاربة سوسيولوجية يغبطه فيها علماء الاجتماع المعاصرون، فضلا عن كتابيه «دفاعا عن الحدّاد وحياة الطاهر الحدّاد». ويقف القارئ بشعور تمتزج فيه الدهشة بالإعجاب على راهنية القضايا التي يطرحها أحمد الدرعي، مع أنّ أغلب نصوصه كتبت في النصف الأوّل من القرن العشرين، فكأنّه يتكلّم لغة اليوم بجرأة المثَقّف الواعي المتبصّر السابق لعصره والحامل لمشروع تقدّمي تحديثي في الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والدينية، معتمدا في ذلك منهجية صارمة تبيّن عمقا في التحليل العلمي واتساعا للأفق الفكرى ومسكا بناصية السجال وقدرة فائقة على مقارعة الحجّة بالحجّة ولعلّ خير دليل على ذلك طريقة نقده لمحاضرات اللبناني صبحي المحمصاني في مسائل تتّصل بالفقه الإسلامي.
بعد نشر الآثار الكاملة لأحمد الدرعي لا نشكّ في أنّ بيت الحكمة سيبادر بتنظيم ندوة علمية تسلّط مزيدا من الأضواء على هذا العلم التونسي البارز الذي كاد أن يلفّه النسيان، عسى أن تكون فرصة إضافية للتعريف به وحافزا للباحثين والجامعيين على إيلائه المنزلة التي هو بها حقيق في تاريخ الأدب والفكر بتونس الحديثة والمعاصرة.
عبد الحفيظ الهرڤام
- اكتب تعليق
- تعليق