أخبار - 2019.11.19

نور الدين كريديس: فتحي التريكي والعيش المشترك لماذا و كيف؟

نور الدين كريديس: فتحي التريكي والعيش المشترك لماذا و كيف؟

لعل أهم مسألة تواجه المجتمعات اليوم، داخليا أو خارجيا،هي مسألة "العيش المشترك" و قد تناول المفكر التونسي فتحي التريكي في آخر أعماله  Ethique de la dignité, Révolution et vivre-ensemble وآخر كتاباته "تحرير كيان"هذه المسألة. ولهذه المسألة أبعاد نظرية وتاريخية رافقت رحلة فتحي التريكي مع الفلسفة منذ بداية السبعينات من القرن الماضي. وهاهي تتواصل متقدة، متحركة ومتفائلة.

البدايات

بما ان الفلسفة كما يقول دلوز - Gilles Deleuze الذي يحتل مكانة مرموقة في فلسفة التريكي – هي صنع المفاهيم، تلك هي مهمتها الأساسية، فإن المفهوم الذي انتهى إليه التريكي هو "العيش المشترك" أو "العيش معا". وبما أن لكل مفهوم قصة أو أركيولوجيا كما يقول فيلسوف آخر يكن له التريكي مودة خاصة، فوكوMichel Foucault، فإنه لا بد من العودة إلى البدايات.

فكرة الاختلاف و التنوع

نحن مختلفون. نحن متنوعون. يكفي النظر إلى البشرو إلى المجموعات وإلى الأشخاص وإلى الثقافات، لنتأكد من أن سر الحياة هو التنوع والاختلاف. وأن كل كائن حي إنما هو نسخة فريدة من نوعها، لن تتكرر أبدا. لذلك وجب الحفاظ عليه و التأكيد على تفرده. ولكن من جهة أخرى، كيف نفسر نزعة الانسان إلى تدمير الآخر، هذا الآخر المختلف، الذي قد يتحول إلى صورة عدو أو غريب؟ ولا أدل على ذلك الا الحروب الضارية التي قتلت ملايين من الأرواح. وكيف نفسر نزعة بعض الأنظمة السياسية إلى قتل الفوارق بجبر الأشخاص على تفكير واحد وسلوك واحد؟ وإن خالفوا ذلك، فإن الأقصاء والاعدام ينتظرهم. ولا أدل على ذلك سوى الأنظمة التي تولدت عن الفكر الماركسي ونخص بالذكر منها النظام الستاليني.

واقع الناس

هكذا بدأ فكر فتحي التريكي يتعمق في هاته المفارقات التي أدت به إلى النظر في معنى الحرب في الفلسفة وإلى بناء فلسفة التنوع والاختلاف.. كيف بناء الفكر في ظل هذه الأزمات؟

في الحقيقة لقد كانت اختيارات التريكي الأولى مبنية على التنوع والاختلاف ولأن الفكر عنده هو فكر مع الناس ومن الناس. الفكر ليس حبيسا في برج عاجي ويتأمل في جواهر الأمور بل هو يعيش مع الناس وفي الحياة اليومية ولا يعرف الاستقرار. تلك هي  الفلسفة الشريدة. بما ان الاستقرار هو الأخذ بحقائق منتهية قد يملكها البعض ويحرم منها الآخرون.

وفي الحقيقة أيضا، مع ان الإنسان كائن فريد ومقدس في هذا المعنى المحدود، أي أنه لا يمكن تعويضه أو استنساخه فمسألة إجتماعيته طرحت منذ بدايات الفلسفة اليونانية.

الفرد و المجموعة

وبالأخص مع المعلم الأول: أرسطو Aristote، الذي كان يقول بأن الإنسان إجتماعي بالطبع وهو حيوان سياسي تحديدا لأنه لا يمكن تصور الإنسان دون المجتمع. وقد جاءت العلوم النفسية والاجتماعية الحديثة لتبرهن بالحجة والدليل على إجتماعية الإنسان وعلى الاختلالات والاضطرابات التي تطاله إن حجبت هذه الوظيفة أو عرقلت. فكيف التوفيق بين ما هو إجتماعي أساسا وما هو فردي؟ وكيف الحفاظ على الفردية في منظومة تقوم على قوانين أو أفكار المجموعة؟ ولمن الأولوية؟ حق الفرد على المجموعة أو حق المجموعة على الفرد؟ هل يمكن للفرد أن يقوم بأي شيء يخطر  بباله منطلقا من حريته؟ أم يمكن للمجموعة أن تحدد مجالات حرية الفرد؟ ولما يسعى الفرد إلى تدمير الآخر، ماالعمل؟

هكذا توقف فتحي التريكي طويلا عند محطة فكرية أخرى تتمثل في أنا أرنت Hannah Arendt التي كانت تحاول أن تفهم هذا الأمر الغريب في الإنسان: كيف يبرمج نفسه ومجموعته لتدمير الآخر دون أدنى تعاطف أو مراعاة للشعور الإنساني؟ كيف ينتشر الشر بين الإنسانية إلى حد قبوله واعتباره شيئا عاديا غير جدير بالاهتمام؟ وكيف يموت آلاف الأشخاص دون أن يحرك أي شخص ساكنا؟ هل يمكن أن تتواصل حياة الإنسانية على هذا الشكل؟ الحرب الشاملة؟ في ظل اللامبالاة؟ في ظل الحق للأقوى والبقاء له؟وكيف الخروج من هذا المفارقات؟

إن الإنسانية لا يمكن أن تتواصل تحت  ظل حرب الكل على الكل ولكنها لا يمكن كذلك أن تتواصل تحت ظل الفرد فوق الجميع، في شكله الرأسمالي المتطور والمصلحي  تحت غطاء العولمة وما أدراك ما العولمة!

الاستضافة

في هذا السياق يأتي اللقاء الفكري مع فيلسوف آخر، احتل مكانة عند فتحي التريكي وهو دريداJacques Derrida، الذي قدم حلا لمفارقة الفرد والمجموعة. وكان ذلك من خلال محاضرة قدمها في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس. ويكمن ذلك الحل في مفهوم الاستضافة   L’hospitalité.حرفيا، نحن كلنا ضيوف عند بعضنا البعض، وقبول الآخر دون قيد أو شرط والانفتاح نحوه يصبح أمرا متبادلا وليس من طرف واحد. وبذلك يسعد الانسان بفوارقه، لأن الاستضافة تقتضي بالإضافة إلى الترحيب، إهداء خاصياتنا للآخر ليتعرف عليها ويأخذ منها. هي نوع من الاحتضان والانفتاح والاثراء المتبادل.

وبطبيعة الحال، لا يمكن لهذه الفكرة الايجابية التي مازالت حية إلى يومنا هذا من خلال نظريات عديدة في علم الاجتماع أو علم النفس، الا أن تحمل فتحي التريكي إلى فكرة أخرى أكثر اتساعا وهي البين الثقافي l’interculturel ثم في مرحلة ثانية إلى "العيش المشترك" وإلى "العيش المشترك في ظل الكرامة" وتحقيق جمالية الحياة بهذه النظرة المناضلة إلى مصير الإنسان. لأن العيش المشترك ليس ولن يكون قاعدة انطلاق بل هو أفق نحوه ننظر. وهو فعل يومي رغم كل شيء، ولعل التربية وتنمية حس المواطنة وترابط الأجيال وتبادل التجارب الثقافية تتقدم بنا كل يوم نحو هذه الغاية. ولعل هذه الغاية تبقى حية وقائمة رغم تعدد النظريات الشعبويةpopulisme  التي تفضل الدفاع عن خصوصية كل مجموعة على حساب الأخرى وتؤجج نار شيطنة الآخر مصدر كل الأشرار. وفيما نسمعه وما نراه ما يحبط العزائم ولكن، العيش المشترك هو نظرة إيجابية وفاعلة و تفاؤلية إلى مستقبل الإنسانية بأفرادها المختلفين ومجموعاتها المتنوعة. وتبقى دوما المسألة الفلسفية قائمة: كيف نفكر في الفرد المبدع الخلاق ونحرر كيانه وذلك عمل كبير وبرنامج حياة،  وفي نفس الوقت كيف تتعايش الثقافات التي ينمو فيها هؤلاء الأفراد دون السقوط في العنف أو في الهيمنة؟ مسألة بدون نهاية!

نور الدين كريديس
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.