أخبار - 2019.11.20

عبد العزيز قاسم: إرهاصات الـمناخـات الـجـديـدة

عبد العزيز قاسم: إرهاصات الـمناخـات الـجـديـدة

1 - في العهد السابق، كلّما اشتدّ على النظام ضغط رابطات حقوق الإنسان الدولية وكلّما حملت الصحافة الأوروبية على سياسات القمع عندنا يخرج علينا الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، رحمه الله، بخطاب مُبْكٍ ومُضْحِك يؤكّد فيه أنّ الأمور في تونس على أحسن ما يرام وأنّ المنتقدين مغرضون يحسدوننا على نجاحاتنا المشهودة في كلّ المجالات وانتهى به الأمر إلى أن يصدّق مزاعمه. وفي سياق مختلف تباهى الرئيس قيس سعيد في خطاب القسم بأن العالم مندهش من طريقة انتخابه حتّى أنّ مراكز البحث الدولية شرعت في دراسة هذه الظاهرة الانتخابية الفذّة بغية الاستئناس والاقتداء بها. هذا الكلام مُخِلٌّ على الأقل بفضيلة التواضع. فالعالم ينظر إلينا كشعب يحاول أن يجد طريقه إلى الديمقراطية الواعية الواعدة.

2 - أندرو كارنيغي Andrew Carnegie 1919 - 1835 صناعي عصامي أمريكي شهير صاحب المؤسّسة العملاقة التي تحمل اسمه له أقوال ذهبت مثلا ومنها: «لا بأس أن نبكي قليلاً، وربّما كثيراً، فبعض الدروس لا نستوعبها إلا وجعًا.» تعجبني شخصيا وصيّته بأن يكتب على قبره: «هنا يرقد رجل استطاع أن يحيط نفسه بأناس أقوى ذكاء منه». وما ينطبق على رؤساء الأعمال ينطبق على رؤساء الدول. وفي رأيي أنّه  على كلّ ملك أو أمير أو رئيس أن يولي اختيار البطانة عناية قصوى وهذا ما أراده ابن المقفع بكتابه الذي قدّمه لأبي جعفر المنصور العباسي بعنوان «الرسالة في الصحابة» أي في الحاشية والأعوان وعمّال الأقاليم والمكلّفين بالمهام. فبهم ينجح أو يسقط صاحب الأمر في كلّ العصور وفي كلّ الأمصار.

3 - في فجر الاستقلال، كان كتاب القراءة للسنة السادسة ابتدائي يتضمّن قصيدة تصلح للكبار والصغار لأحمد شوقي من نوع أمثولات لافنتان بعنوان «الأسد ووزيره الحمار». وتتحدّث الحكاية عن وفاة وزير مقتدر فجاءت الرعية تطلب من الأسد تعيين وزير جديد يسوس أمورهم فزأر ملك الغاب:

قال: الحمــارُ وزيــري        قَضــَى بهــذا اخْتِيـــاري

وضحكت الضواري من هذا القرار الأخرق وما هي إلا فترة وجيزة حتّى ساءت كلّ الأحوال واضمحلّت هيبة الدولة فأرعد الأسد وهدّد وتوعّد:

فجــــاءه  القــردُ  سرًّا        وقــــال  بعـــدَ  اعتـذارِ
يا عــــالِيَ الجــاهِ فينا        كـــنْ  عـــــالِيَ  الأنـظارِ
رَأيُ الرعيَّـــةِ فيــكُــم        منْ رأيِكُـــمْ في الحِمــارِ

كان هذا أوّل درس في العلوم السياسية يتلقّاه تلاميذنا في نهاية المرحلة الإبتدائية. وفوجئنا بحذف هذه القصيدة من كتاب القراءة في عهد محمود المسعدي الباكر بحجّة أنّ المعارضين تولّوا إسقاطها على الرئيس ووزيره الأوّل آنذاك. أرجو أن يأذن السيد الرئيس قيس سعيد بإعادتها إلى الكتاب الذي حذفت منه.

4 - في هذا السياق، اقترح عليّ أحد قراء مقالي السابق «كيفما تكونوا يُوَلَّ عليكم» (ليدرز، أكتوبر الماضي) إمكانية تعويض الصيغة بـ «كيفما يُوَلَّ عليكم تَكونوا». لِمَ لا؟ فالعلاقة بين الحاكم والمحكوم جدلية فيها   تفاعل وتراشح. رعية المأمون كانت نيّرة مثقّفة ثمّ أصابها الجهل والتزمت في خلافة المتوكّل. حتّى في البلدان الديمقراطية المتقدّمة نلمس تأثير الحكم سلبا وإيجابا في كافة الفئات. الشعب الفرنسي في عهد الجنرال دي غول مختلف تماما عمّا أصبح عليه في عهد سركوزي.

5 - ساءني كما ساء كثيرا غيري أن تُهانَ الجمهورية في شخصيْ وزيرين من وزراء السيادة يُعفيان أي يُعزلان أو على الأصح يُطردان، حسب الإعلان الرسمي، وهما في الأصل مستقيلان. والإهانة التي لحقتهما أقلّ ما يقال فيها إنّها ليست من الآداب السلطانية في شيء. والأنكى من ذلك هو انقضاض ميليشيات الفيس بوك المسعورة عليهما تنهشهما نهشا ونتشا. لم نشهد مثل هذا التصرف مع المسؤولين المغضوب عليهم حتى في أحلك ظروف العهد السابق. من يقف وراء كل هذه الدناءات؟  تحياتي وتقديري إلى السيدين عبد الكريم الزبيدي وخميس الجهيناوي.

6 - سبق أن ساءني إعلان زائف عن وفاة المرحوم الباجي قايد السبسي أربعة أسابيع قبل وفاته الحقيقية وها أنا ذا أشدّ استياء بالإعلان الكاذب عن وفاة السيد محمد الناصر أطال الله بقاءه. ويقيني أنّ مثل هذه الشائعات ليست عفوية بحال من الأحوال. فهل من بحث وتقصّ في هذه الجرائم الإعلامية؟

7 - منذ قيام ما سمّي بالثورة وبرغم تزايد تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، ذهب الظنّ بنا إلى أنّنا أصبحنا نتمتّع على الأقل بحرية التعبير وأنّ هذا المكسب نهائي. والحقيقة هي أنّنا كنّا نتكلّم ونثرثر في غياب عصى الدولة ناسين أنّ حريّة التعبير لا تزدهر إلاّ في ظلّ ديمقراطية منتجة للازدهار. وفي هذا يقول «برتولت بريشت»: «الفاشية ليست نقيض الديمقراطية، إنّما هي تحول لها في زمن الأزمة». ونحن اليوم في أزمة لا أرى أحدا يعمل بجدّ على حلّها.

8 - تتعرّض قناة تلفزية خاصّة إلى حملة تشويهية مسعورة، صاحبها تلاحقه العدالة - كما سبق أن لاحقت زميله من قناة ناشزة أخرى- وصحافيوها مهدّدون في حياتهم لأنّهم مارسوا حرية التعبير إلى حدّ تجاوز الخطوط الحمر ولم يدركوا أنّ موازين القوى قد تغيّرت منذ وفاة الرئيس الباجي قايد السبسي وخاصّة بعد الانتخابات الأخيرة. أنا لا أشاطر بالضرورة كل ما يقال وينشر في القناة المذكورة ولكن للمبدأ لا يسعني إلاّ أنّ أعبّر عن مساندتي الكاملة لكلّ من مايا القصوري ومريم بالقاضي ومحمد بوغلاب ولطفي العماري.

9 - هذه الحملة التشويهية تطال أيضا صديقتنا الأستاذة الجامعية المتميّزة ألفة يوسف المهدّدة على الدوام. لقد ناضلت بالقلم والفكر نضالا بطوليا مكّن الآلاف من قرائها من الوقوف على حقيقة المنافقين الذين نهبوا الدولة وخرّبوا عقول الناشئة  وفي اعتقادي أنّها فهمت مؤخّرا أنّ أشياء كثيرة قد تغيّرت وأنّنا مقبلون على تقلبات «مناخية» لا قبل لنا بها فأعلنت تخَلِّيَها عن السياسة.

10 - الجدير بالملاحظة أنّ النساء يتعرّضن إلى ما يتعرّض إليه زملاؤهن من عنف لفظي وأكثر من قِبَلِ المتأسلمين الورعين الأتقياء الذين تفنّنوا في احتراف كل أنواع البذاءة اعتقادا راسخا منهم أن الله سبحانه يثيب بعشرات الحسنات عن كلّ لفظة خادشة للحياء تطلق على امرأة مثقّفة. إن الثقافة في نظر الظلاميين عهر وفجور. هؤلاء المنحرفون ينطلقون من مقولة «الكذب في المصالح جائز» فتراهم يحرّفون كلام الشرفاء والشريفات، يفترون ويلفّقون في مجتمع شامت يصدّق كل كذبة تمسّ بأعراض النساء وكلّ إشاعة عن فساد مالي عند الرجال.

11 - أنصح الجميع بإعادة قراءة المشهد. إن فَهْمَ هذا المشهد لا يتطلب الاستنجاد بالفلاسفة وعلماء الاجتماع فباختزال شديد للأشياء نلاحظ أن خروج روابط حماية الثورة من رحم صندوق الاقتراع يقابله سقوط مباركة البراهمي وبسمة الخلفاوي في الانتخابات، انتخابات قيل فيها ما قيل. أنا شخصيا أمتنع عن الطعن فيها اقتناعا مني بأن الأغلبية لم يكن لها بإمكاناتها الفكرية المحدودة أو المغتصبة أن تنتخب غير الذين انتخبتهم بغض النظر عن التلاعب الفيسبوكي المخابراتي العالمي بمخيال ملايين التونسيين. أدعو بطول العمر وبقوّة الصبر للأرملتين العزيزتين فإنصاف الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي ممّن أمر باغتيالهما ما زال في علم الله.

12 - في كلّ العهود الماضية كان للتونسيين سعة اطلاع على الشؤون الدولية. يتابعون مجريات الأحداث غربا وشرقا وكانت هذه المتابعة تمثّل إحدى ركائزهم الثقافية. ولكنّهم منذ تسع سنوات عجاف انطووا على ثُوَيْرَتِهم انطواء الطفل على لعبة معقّدة استعصى عليه تفكيكها.

تمَّتْ تصفية الخليفة أبي بكر البغدادي ومرّ التونسيون على الخبر وكأنّه صدى من أصداء المجتمع. أتراهم نسوا أنّ الرجل قائد جيش شرس عرمرم يضمّ الآلاف من أبنائنا العائدين لإتمام المهمّة في إمارة تونس؟ ثمّ إنّ الفصل الثاني من «الربيع العربي» بدأت إرهاصاته المفزعة منذ شهور في السودان والجزائر     وها هي ذا تندلع في العراق من جديد وتمتدّ إلى لبنان. والغاية من كل هذا الحراك هي تفكيك الدول تنفيذا للفوضى الخلاقة. كم عدد التونسيين الذين يشعرون بأنّ العواصف الإقليمية قادمة؟ ولنا لهذا الموضوع الحارق عودة.

عبد العزيز قاسم

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.